توصل موقع الشرارة بمقالة لأحد الرفاق الماركسيين ــ اللينينيين تحت عنوان" قراءة في إشكالية الدولة في الماركسية ــ اللينينية"، ونظرا لأهميتها يقوم موقع "الشرارة" بنشرها تعميما للفائدة واستمرارا منه في إحياء مئوية ثورة اكتوبر العظمى.
قراءة في إشكالية الدولة في الماركسية ــ اللينينية
عرض مختصر لآراء الماركسيين من خلال أطروحة:
" الدولة والثورة ومهمات البروليتاريا في الثورة "
ـ فلاديمير إيليتش لينين ـ
في السياق
مائة عام مرت حتى الآن بالتقويم البلشفي1، التقويم الذي شرع الماركسيون المصممون على استكمال مهام الثورة البروليتارية، يعتمدونه في التأريخ لمراسلاتهم، يرمزون إليه بالحروف الثلاثة (بلش). مائة عام مرت حتى الآن على انتصار الثورة البلشفية "الانتصار الدائم والعابر للأزمان والتاريخ"، حيث اعتماد التقويم البلشفي العظيم مهمة ملحة للغاية، غايتها توحيد الزمن لاستكمال الثورة البلشفية الأممية، والتي تقف على مسافة نصف خطوة من إعلان الموت الأخير والنهائي "للروح العالقة منذ سنين بين الموت والحياة ": الروح الشريرة للرأسمالية الامبريالية.
وحيث لا فشل بعد هذا النصر العظيم كما تزعم الأبواق المرتدة، ولا تراجع ولا رجوع للقهقرى، كما تحاول جيوش البورجوازية الوضيعة التي بنيت من خيوط العناكب، من الورق المقوى من "مطارح عالية من الخيانة" وفي زمن الفوضى حقا : فوضى رفض الإقرار بالانتصار النهائي للثورة ، فوضى عدم الإقرار باحتضار البرجوازية، بنت "قيادات للأركان التحريفية" و" مراكز للدعاية المخصية" داخل حركة الشعوب المناضلة من أجل التحرر، من أي شكل لهذه البرجوازية التي تستبطن الهزائم داخل حركة الطبقة العاملة، التواقة لمعانقة العالم الجديد : عالم إعلان جنازة في حجم التاريخ ، في حجم التضحيات التي لا تحسب بالأرقام، جنازة الطبقة البورجوازية التي توفيت منذ سنين خلت، بورجوازية الرأسمال وسرقة فائض القيمة وكلبة حراستها من البرجوازية الوضيعة المنتهية الصلاحية منذ 14 فبراير 1 بلش.
البروليتاريا في العالم الآن، وفي 14 فبراير 100 بلش بالتحديد عام الذكرى الذهبية، تعي كامل الوعي أنه عليها كنس الفزاعات الثرثارة من الحصيد بكل حزم، كنس التحريفية الجديدة، كنس عرائس القصب من دعاة الماركسية اللينينية والمدعين لها، دعاة الاشتراكية قولا والرأسمالية فعلا، الطبقة الثرثارة جدا، وزعاماتها الكسولة حقا، خادمة الرأسمال المتوحش من تحت طاولة أسيادها القابضين على خصيتيها.
زعامات من ورق، تظهر على بساط الحراك الشعبي تحت الطلب، تختفي من المسرح تحت الطلب، برجوازية في جلباب الماركسية تطبل بدون أخلاق في آذان البروليتاريا بتعاليم رجعية حتى النخاع، باسم الفشل الصريح الذي يعشش في رحمها، باسم "مزاميز الفسق الفكري" و" الدعارة النظرية". تلعب الدور الرديء تماما، الدور المأجور: الحفاظ على الروح الشريرة العالقة بين الموت والحياة، روح سيدتها البرجوازية الكولونيالية.
لم يكن هذا الدور الرديء الانتهازي سمة هذا العصر فقط، بل كان دوما مدسوسا في حركيات الكادحين عبر كل المراحل، ولم تكن مقاومته جديدة، فقد اعتبرت الماركسية اللينينية منذ ماركس، أن تطهير حركية الثورة البروليتارية مهمة مركزية وعاجلة لا تقل أهمية عن مواجهة الرأسمالية نفسها. لقد قال لينين كلاما واضحا، لا يقبل التأويل يمينا أو يسارا، وهو يحدد أسباب نجاح الحزب الثوري غداة الثورة العظمى حرفيا بما يلي:
"وكانت الانتهازية بطبيعة الحال العدو الرئيسي للبلشفية داخل حركة العمال، وهذا العدو لا يزال العدو الرئيسي في النطاق العالمي، وكانت البلشفية ولا تزال تعير الانتباه لهذا العدو أكثر من غيره، وهذه الناحية من نشاط البلاشفة غدت الآن معروفة بدرجة كافية حتى في خارج البلاد...إن أحد الأسباب الأساسية لهذا الانتصار، هو أن البلشفية كانت حتى منذ أواخر سنة 1914 تفضح دون رحمة خبث ودناءة وخسة الاشتراكية ـ الشوفينية و"الكاوتسكية"2.
نالت كل القضايا حظها من التشويه الانتهازي التحريفي، ولم تسلم القضايا الثانوية ولا الرئيسية، ولأن قضية الدولة تقع في "التتويج النهائي للثورة" والمرحلة الحاسمة في الثورة اللينينية، فقد انصب حولها "طوفان من التشويه" وتعرضت للمسخ التحريفي الواسع، وقد انبرى كل من كارل ماركس وفريدريك إنجلز في أيامهما، وفلاديمير لينين فيما بعد، للرد على التحريفية والفاشية الاشتراكية في "مكتبة كاملة" من المؤلفات والأطروحات الصحيحة، ومنها على الخصوص أطروحة لينين حول الدولة : كتاب " الدولة والثورة ومهمات البروليتاريا في الثورة" الذي سنقوم بقراءة وعرض قضاياه في هذه الورقة .
1ـ الدولة إشكالية بالغة التعقيد:
الآن، وبعد التطور الخطير الواسع الذي يشهده النظام الرأسمالي الامبريالي المتوحش، وافتضاح الأزمات والتناقضات بينه وبين الشعوب الكادحة عامة، وبعد احتدام الصراع بين الطبقات المستغلة والمستغلة في كل مناطق العالم، سواء في مراكز الاحتكار الرأسمالي العالمي، أو في الهوامش الاقتصادية التابعة للنظام الرأسمالي العالمي ، وسواء في المناطق الساخنة التي تعج بالحروب الامبريالية المباشرة أو الحروب بالوكالة، أو في المناطق الأقل حرارة (صراع) والتي تنتظر الدور الحتمي لانتقال أزمة الصدام بين الطبقات وبين الرأسمال والعمل المأجور، تتهيأ ظروف الانتقال 0 إلى صدام كوني أخير.
وأيضا، بعد تغول الطابع الامبريالي للنظام الرأسمالي، وتراجع الدور السياسي والثوري للطبقة البروليتارية جراء خيانة القيادات المتبرجزة الوضيعة المحلية، وظهور نماذج واسعة وغريبة في كثير من الأحيان من أنواع التحريفية في الماركسية، تتغذى على نفايات الرأسمالية في أعلى درجات التوحش والهمجية، الآن، وبعد الاصطفافات الثورية الجديدة في محور " الفرز الحازم أمميا" من داخل الماركسية، الآن يمكن القول بدون شك، أن مفهوم الدولة، وهو يتبادل التأثير والتأثر مع أرضية الشروط والتحولات التاريخية المذكورة أعلاه، أضحى أكثر تعقيدا من ذي قبل .
هذا التعقيد يشمل بالجملة، كل النواحي التي تتركب منها عملية البحث في مسألة الدولة: النواحي النظرية والسياسية في البنى الفوقية، وقاعدة تطبيقاتها، سواء التاريخية أو الاجتماعية أو الاقتصادية في البنى التحتية، كما يشمل التعقيد في طرح قضية الدولة، كل ما وصلت إليه إلى غاية الآن، النماذج المطبقة بخصوص الموضوع، على الساحة الدولية في المرحلة التاريخية المعاصرة، أي احتمال وجود قضايا مهمة وجديرة بالتناول الماركسي اللينيني، في خلاصات ما أسفرت عنه ثورات العهد القريب، في أمريكا اللاتينية بالخصوص، وبعض التجارب لبناء نموذج دولة "جديدة " بمواصفات خاصة، إذا كان ثمة من عناصر حاسمة في هذه الجدة: دول "انتفاضات البرجوازية الصغيرة" في جنوب وشرق المتوسط.
إن هذا التقديم الغارق في الوصف والدعاية، لا نقدمه لغرض أن يفهم منه، على أن مفهوم الدولة كان مبحثا بسيطا في مراحل ما من مراحل السيرورة/الصيرورة التاريخية، التي ميزت الأنظمة ما قبل طبقية، والأنظمة الطبقية على السواء، وبالخصوص مراحل الأنظمة الرأسمالية بالذات، والتي تهمنا في هذا المحور، كما لا نقدمه من أجل أن يفهم، أن البحث في مسألة الدولة من وجهة نظر الماركسيين، عملية قد اكتملت في حقبة ما وعلى يد منظرين معينين.
لقد ظل كارل ماركس يصحح " أشكال المحاباة الفكرية" التي ما انفكت تمطر على رأسه من "المعجبين الماركسيين" إلى حد الضجر، وما أكثر الرسائل التي رد عليها بكثير من القلق والجفاء والعتاب الرفاقي في كثير من الأحيان، وهي على كل حال منشورة وتؤرخ لهذه الحالة، ليست سوى دليل على استحالة "الاكتمال " لا في البحث في المراحل التاريخية البائدة، أو التي هي الآن تقف على باب الإبادة، وحتما لن يكون سؤال الدولة استثناء في هذا الباب.
ألم يقل كارل ماركس وهو في حالة من الضجر المتعاظم، جوابا على رسالة جوزيف فيديماير3 في 5 مارس من عام 1856 ما يلي:
"وفيما يخصني، ليس لي لا فضل اكتشاف وجود الطبقات في المجتمع المعاصر، ولا فضل اكتشاف النضال فيما بينها، فقد سبقني بوقت طويل مؤرخون بورجوازيون، بسطوا التطور التاريخي لهذا النضال بين الطبقات، واقتصاديون بورجوازيون بسطوا تركيب الطبقات الاقتصادي، وإن الجديد الذي أعطيته، يتلخص في إقامة البرهان على ما يلي:
1 ـ إن وجود الطبقات لا يقترن إلا بمراحل تاريخية معينة من تطور الإنتاج.
2 ـ إن النضال الطبقي يفضي بالضرورة إلى ديكتاتورية البروليتاريا.
3 ـ إن هذه الديكتاتورية نفسها لا تعني غير الانتقال إلى القضاء على كل الطبقات، وإلى المجتمع الخالي من الطبقات4.
فإذا تركنا جانبا قضية عدم رضا كارل ماركس، على اعتبار أن تأطير القضايا قد تنتهي عند مراحل أو أشخاص محددين، فإن ما يختبئ في هذه الرسالة الكبيرة، كون البحث في الأطروحات، مثلها تماما مثل البحث في الصراع الطبقي أو أكثر من ذلك بكثير، البحث في العملية التاريخية نفسها، هو عملية تاريخية في حد ذاتها.
إن البحث في الدولة كان دوما بحثا ملتوي المسالك، كثير العقبات، ولم يكن حكرا على الماركسية، ولا نعرف من المنظرين من لم يخرج بهذا الإقرار: كون البحث في الدولة من حيث المفهوم والدور والأشكال التاريخية، هو نفسه البحث في تاريخ البشرية منذ ظهور الإنسان إلى حدود الساعة.
فإذا اعتبرنا، أخذا بآراء ماركسية أو حتى ما قبل ماركسية، أن مراحل بدائية ما ، مراحل محددة من السيرورة الاجتماعية، ومن تطور البنى الجماعية، قد وجدت بدون شكل من أشكال الدولة، وأن هذا التواجد "اللادولتي" لنماذج من التجمع البشري، لم يكن في الحقيقة سوى شكلا من أشكال تطور العلاقات الإنسانية نحو التناحر الطبقي، وهو النموذج الذي انبثقت عنه، مثل الطحالب تماما، نظام الدولة.
إذا اعتبرنا هذه المرحلة الإعدادية للملكية الخاصة، الفردية والأنانية في نفس الوقت، يمكن القول جزما، أن البحث في الدولة، هو نفسه من وجهة النظر هاته، ليس في آخر المطاف، سوى البحث في تاريخ البشر على الأرض، من حيث الملكية والعلاقات المتولدة عن التملك بشكليه: التملك الخاص والتملك الجماعي المشترك، وربما أشكال خاصة من اللاملكية تكون قد سادت في مراحل سحيقة من تطور العلاقات الجمعية للعشائر البدائية.
2 ـ الدولة في الماركسية: مواجهة التيارات التحريفية
المرجو ألا يقلق هذا الأمر المتتبعين، أكثر مما يجب أن يقلقهم كل هذا الكم الواسع من التشويش، الذي تعرضت له الدولة من طرف أشباه الماركسيين، وأشباه المنظرين والعلماء المزيفين وسفهاء الفلاسفة البورجوازيين أو الاشتراكيين التحريفيين، الخدام المأجورين من البرجوازية الوضيعة.
كما يجب أن يقلقهم أشد القلق أشكال التطبيق العملي لنماذج الدولة، من طرف السياسيين، دعاة الاشتراكية الجديدة أي اللاشتراكية، لكن وبالمقابل، ولحسن الحظ ، فإن علما كاملا قد اكتملت كل أنساقه منذ زمن، على يد عظماء الشيوعية ( ماركس وإنجلز ولينين وستالين وماو تسي تونغ ... وآخرين)، علم قوانين الديالكتيك الطبيعي والاجتماعي، علم للتطبيق الخلاق على الوقائع الاجتماعية الملموسة والمحددة : المادية الجدلية والمادية التاريخية، اللتان تنتصبان تماما مثل "القدر" في وجه كل محاولات التشويش والتحريف، ومحاولة فرملة الصراع الطبقي، وتلطيف تناقضات العدو الطبقي للبروليتاريا وحلفائها من الكادحين والمعدمين.
يتفق إنجلز في مؤلف "أصل العائلة والدولة والملكية الخاصة"5 مع الدراسة التي صدرت للمؤرخ لويس هنري مورجان6 سنة 1877 بعنوان "المجتمع القديم" بعد أن استغرقت زهاء 40 عاما (تبنته خلالها إحدى قبائل الإيروكيوس في أمريكا) ، يتفق إنجلز حول ما أصطلح على تسميته ب "علم دراسة الشعوب البدائية"، مع ملاحظات كارل ماركس حول نفس المؤلف ونفس الكتاب ومع الأخذ بعين الاعتبار الملاحظات الهامة للأول حول الفكرة الأساسية التي مفادها : عدم وجود أي شكل من أشكال الدولة في المجتمع البشري الأدنى الذي قسمه مورجان إلى ثلاث مراحل :
1 ـ مرحلة الوحشية 2 ـ مرحلة البربرية 3 ـ مرحلة المدنية.
إن مورجان ذاته، قد أهمل العصر الأخير من "الصنافة"، والذي من المفترض أنه شهد، كما المراحل السابقة عليه، تطورا مهما في التملك الخاص، وبالتالي تطورا مطردا لا محالة في الانفجار التدريجي والمتمرحل، من الشكل البسيط جدا، إلى الأشكال الجنينية، ثم نحو أخرى أولية للدولة.
وإذ لا نتفق مع خلاصات نظرية مورجان بخصوص الملكية وظهور الدولة، فإننا نعتبر، طبقا للنظرية التاريخية، أن أشكالا محتملة من لحظات "تعشيش" علاقات محددة، وبعيدة في التاريخ في رحم التاريخ ذاته، هي التي شبت في شكل "جنينيات بدائية للدولة"، وأن المادة الخام الساكنة بدون حركة والمفترضة للدولة، لا يمكنها أن توجد طبق قوانين الجدل الطبيعي أو التاريخي. إن الدولة لم يكن لها أن تتطور إلا في شكلها التاريخي الذي تتطور وفقه دائما.
لقد كانت دوما وأبدا شكلا تاريخيا حتى ضمن المراحل، التي سادت فيها الأسرة الطفولية، التي ينكر مورجان وجود داخلها لحظات للحركة وتشكل العلاقات البشرية. طبعا لا يمكن الحديث حول خاصيات الدولة كما هي ناضجة الآن، ورغم ذلك، فإن مراحل أدنى للأسرة الطفولية لها خاصيات من الحركة.
إن أشكال التملك الخاص هي في حد ذاتها ظاهرة تاريخية أي صراع طبقي، غير أن هذا الأخير، لم يكن لينضج في جزيرة معزولة، وبذلك فالعائلة البدائية في مراحلها التي حددها مورجان، وبالخصوص (المرحلة الأدنى) لم تكن في الحقيقة سوى الشكل الأرقى لمراحل سابقة عليها.
3 ـ البحث في الدولة : هل هي مسألة ملحة بالنسبة للماركسيين اللينينيين.
يبدو أن الجواب السريع الذي يقفز للواجهة كلما انطرح هكذا سؤال هو:
نعم، إن البحث في الدولة وحيثياتها أمر ملح وعاجل بالنسبة لكل ماركسي، غير أن الماركسي ليس وحده من يبحث في إشكالية الدولة، وليس وحده الذي تشكل هذه القضية بالنسبة له قضية حساسة وملحة، فالبورجوازي، وقبله الإقطاعي أيضا، يعتبر الدولة ضالته التي يجب أن يبحث عنها ويستوعب كل قضاياها.
فلماذا إذن تكون الدولة مهمة إلى الحد الذي يجعل "حثالة الإقطاعيين" و"السادة العبيد"، و "حرامية البرجوازية"، وفاقدو البوصلة من التحريفيين"، والمرتدين والفوضويين وتجار الكلام من جهة، والماركسيون اللينينيون الثوريون من جهة أخرى، يحاولون كلهم بجهد كبير، وفي سباق محموم مع عقارب الساعة، دراسة الدولة والتفقه في أشكالها كل من موقعه الطبقي والسياسي؟
الجواب السريع على السؤال الأخير ينهض من ملاحظة التناقض الحاصل بين طبقتين متصارعتين على كل الأصعدة في كل نزال، كل طرف نقيض يجند مفكريه وعلماءه وآلاته الإعلامية والتحريضية للبحث عن معاني وأشكال الدولة، الأمر هنا يتعلق بتناقض مصالح الطبقة التي تستغل (بالكسر) والطبقة التي تتعرض للاستغلال، الأمر/الصراع يدور حول قضية ذات أهمية قصوى في تحديد الدولة: الملكية.
لو اقتبسنا بعض التعابير البرودونية، لقلنا، من أجل التبسيط، تسعى الطبقة البورجوازية في نمط الإنتاج الرأسمالي إلى "سرقة" ملكية الفقراء وعامة الشعب وجعله في ملكيتها الخاصة /الفردية (مفهوم الاستغلال). وتحاول الطبقة العاملة مدعومة بالفلاحين الفقراء وبالماركسيين اللينينيين الحقيقيين إنجاز الثورة الاشتراكية، لاستعادة الملكية المسروقة، وجعلها ملكية جماعية، شيوعية لكل الناس (مفهوم التأميم والعدالة الاجتماعية)، وقد أعجب كارل ماركس بقولة برودون7 "إن الملكية سرقة" رغم انتقاده للأخير في كثير مما طرحه، وليس من الصدفة أن الأداة التي يمكن استعمالها في الحالتين معا هي: الدولة.
يستعمل الرأسماليون الدولة للسرقة ويستعمل الشيوعيون الدولة لاسترداد المسروق، وإعادة توزيعه على منتجيه الأحرار، وسنعود لهذا الموضوع في فصل خاص، وبشيء من التفصيل لنرى آراء القادة الماركسيين في هذا الموضوع.
الآن سنمضي إلى تعداد الأسباب الأخرى لملحاحية البحث في الدولة، وللأهمية الكبيرة لهذا الموضوع لدى الماركسيين اللينينيين، وقبل هذا كله، نطرح ما إذا كان صحيحا أن الماركسيين قد أعطوا أهمية ما مفترضة، للبحث في الدولة، أم أن هذه المسلمة مجرد وهم مسرب إلى مخيلتنا، ضمن سياقات ما، وأضحى شبيها بالحقيقة الثابتة، وللتحقق من ذلك، وجب العودة إلى القادة الماركسيين المؤسسين، ومن تلاهم ممن سار على خطى الماركسية.
إذا كان من المفترض وضع لائحة الماركسيين الذين انشغلوا إلى هذا الحد أو ذاك بنظرية الدولة، فسيكون من العبث إضاعة الجهد في هذا العمل، ذلك لأن جل الماركسيين قد انشغلوا بالدولة، من المؤسسين إلى مشوهي الماركسية، من الخبراء إلى المبتدئين، كما انشغل بها أشباه الماركسيين جميعا وانشغل بالدولة أيضا، الماديون والمثاليون، الأميون والمتعلمون، كما كانت الدولة الركيزة الأساسية لظهور الأديان والعبادات عموما. لنا أن نذكر بقولة فلا ديمير لينين، لنلخص دفعة واحدة هذا الانشغال الواسع بالدولة وبنظرياتها، يذكر لينين في سياق رصد التشويه للماركسية غداة الثورة البروليتارية في روسيا ما يلي:
"إن الثورة البروليتارية العالمية تتصاعد بصورة بينة، ومسألة موقفها من الدولة تكتسي أهمية عملية، فعناصر الانتهازية التي تراكمت في غضون عشرات السنين من التطور السلمي نسبيا، أنشأت تيار الاشتراكية ـ الشوفينية السائدة في الأحزاب الاشتراكية الرسمية في العالم بأسره، وهذا التيار يمثله بليخانوف، بوتروسوف، بريشكوفسكايا، روبانوفيتش، ثم المقنعون بقناع شفاف، السادة تيسيريتيلي، تشيرنوف وشركاؤهما في روسيا، شيدمان، ليغين، دافيد واضرابهم في ألمانيا، رينودل، غيد، فاندرفيلده في فرنسا وبلجيكا، هايندمان، والفابيون في انكلترا، وهلم جرا، وهو الاشتراكية قولا، والشوفينية فعلا، يتميز بكون "زعماء الاشتراكية" يتكيفون بذلة وحقارة، ليس فقط وفق مصالح بورجوازيتهم الوطنية، بل وعلى وجه الدقة، وفق مصالح دولتهم، إذ أن أكثرية ما يدعى بالدول الكبرى تستغل وتستعبد منذ زمن طويل جملة من الشعوب الصغيرة والضعيفة.
وما الحرب الإمبريالية سوى حرب من أجل اقتسام وإعادة اقتسام هذا النوع من الغنيمة، والنضال من أجل تحرير جماهير الشغيلة من نفوذ البورجوازية بوجه عام، والبرجوازية الإمبريالية بوجه خاص، يستحيل بدون النضال ضد الأوهام الانتهازية بصدد "الدولة"8.
عدا مهمة التشويه الذي قاده هذا التيار الواسع من الاشتراكيين الانتهازيين، فإن هذا النص المأخوذ من مقدمة مؤلف (الدولة والثورة : تعاليم الماركسية حول الدولة، ومهمات البروليتاريا في الثورة) الذي طرحه لينين في غشت 1917، يشير، وفق قراءة أخرى إلى الانشغال الواسع لصنف خاص من الاشتراكيين (مشوهي ماركس) بنظرية الدولة نفسها، ويبدو الاهتمام بالدولة واسعا جدا، سنة تقريبا على انطلاق الثورة البلشفية، هذا علاوة على كون لينين يشير في أكثر من مكان، إلى أهمية العودة إلى أطروحات ماركس وإنجلز بصدد الدولة، وقد أوصى طلاب جامعة "سفيردلوف" في 11 يوليوز 1919 بضرورة العودة إلى كتابات فريدريك إنجلز، لتلمس الفهم الصحيح لنظرية الدولة، على إثر محاضرة كان قد ألقاها أمام الطلبة في نفس الجامعة.
يقول "وإني آمل كذلك أن تكرسوا بعض الوقت، إضافة إلى المحادثات والمحاضرات، لتقرؤو على الأقل بعضا من مؤلفات ماركس وإنجلز الرئيسية ... وإني آمل أن تطالعوا في مسألة الدولة مؤلف إنجلز "أصل العائلةوالدولة والملكية الخاصة" "9
قلنا إننا لن نضع لوائح مختلف الماركسيين الذين خصصوا في دراساتهم وخطبهم وأطروحاتهم، أو أدنى من ذلك بكثير، أي في أقوالهم التي سجلوها في مناسبات بذاتها، فهذا العمل الإحصائي ليس من مهام هذه الورقة، كما أنه عمل أقل مردودية بالمقارنة مع الهدف العام المحدد في "نظرية الدولة"، لنقل "قضية" الدولة لدى مؤسسي الماركسية الثلاث (ماركس وإنجلز ولينين)، إن هذا التحديد الإسمي الثلاثي، لا يجب أن يعني بأي معنى غياب مساهمين في التأسيس للماركسية، سواء في المرحلة الأدنى بعض الوقت من وفاة العظيمين ماركس وإنجلز، أو بعد وفاة القائد ومهندس الثورة البروليتارية (البلشفية) في روسيا : فلاديمير لينين، إنما، ولأن البحث والتنظير للدولة لم يكن عبر التاريخ (التناحر الطبقي)، إلا شكلا من أشكال التحيز الطبقي، وإن استند إلى أكثر المبادئ العلمية رصانة ومنطقية ونبلا، بحيث لا يمكن افتراض شكل من أشكال تصور الدولة في مجتمع العبودية، حيث السيادة لملاكي العبيد، إلا لصالح هيمنة طبقة ملاكي العبيد، كما لا يمكن تصور شكل نقيض لذلك، لدى العبيد أنفسهم، تجاه مفهوم الدولة، إلا لصالح أن يتحرر العبيد من العبودية .
إن مفهوم الدولة هو مفهوم متحيز دوما داخل الصراع الطبقي، كما أن فهم الدولة في النظام القائم على العمل المأجور، لم يكن سوى هذا الصراع نفسه بين طبقتين: طبقة مستغلة (البرجوازية) وطبقة ترزح تحت جحيم الاستغلال (البروليتاريا).
هل يبدو واضحا أنه لا يمكن أن يوجد مفهوم متشابه للدولة، تتشارك فيه طبقتان في صراع جماعي طبقي، أليس من البداهة أن تنتصر طبقة على أخرى؟ إن هذا وحده دليل على عدم تقايس المبادئ المكونة للدولة بين طبقتين متناحرتين، وهذا تماما ما سجله التاريخ لحد الآن، شكل دولة الأقلية من الإقطاعيين ورجال الدين، وشكل الدولة لدى الفلاحين والأقنان، دولة البرجوازية مقابل دولة البروليتاريا والفلاحين الفقراء في العصر الرأسمالي.
حتى وإن استند تناول نظرية الدولة إلى أكثر المبادئ العلمية رصانة، وهذا الادعاء غير موجود أصلا، فإن الدولة وكل ما يدور في فلكها، هو شأن طبقي خالص، شكل من أشكال التحيز الطبقي. هل كان على الثورة البلشفية الانتصار في فهمها للدولة للعلم الخالص المستقل أم للبروليتاريا. إن الدولة وفي كل الحالات ليست سوى أداة سيطرة طبقة على أخرى.
ربما ينتظر الكثيرون تعداد عناصر ما مكونة للدولة، كأن نقول إن الدولة تتكون من (السلاطين والعسكر والشرطة والسجون...) أو من (الحكومة والبرلمانات والمحاكم وجباة الضرائب والقوانين....) ولو أن الماركسيين قد ذكروا مثل هذا في أكثر من مكان، لكن لكل تجربة عناصر بذاتها محددة للدولة، ويبقى الجامع بين كل التجارب، كون الدولة آلة للقمع تستعملها طبقة ضد طبقة من أجل الملكية، وهذه الآلة تختلف من تجربة تاريخية إلى أخرى.
ركزنا في الفقرة الأخيرة على خاصية القمع، كما ركزنا فيما سبق هذه الفقرة على خاصية سرقة الملكية الجماعية، وتحويلها إلى ملكية فردية/خاصة تحت احتكار وتصرف حفنة من اللصوص التاريخيين (البرجوازيون والإقطاعيون وملاكو العبيد)، ذلك فقط لنوحي بحقائق قد يتلمسها أي متتبع لإشكالية الدولة في المراحل الثلاث الموضوعة بين قوسين.
أولى الحقائق، أن الدولة كجهاز للسيطرة (هكذا يصطلح على تسميته في النظرية الماركسية اللينينية) لا توجد إلا في مراحل الاستغلال الشامل الواسع، وبكلمة واحدة، في مراحل تتميز بالاستغلال الطبقي، وانتفاء هذا الاستغلال، يساوي انتفاء الدولة ذاتها، بحيث أنه ليس من الضروري، وجود أي آلة للإخضاع العنيف لطبقة ما، إذا لم يكن تمة أي طبقة تمارس أو تنوي ممارسة الإخضاع، إذا لم تكن هناك طبقة يمكن أن تتلقى وينزل عليها هذا الإخضاع القسري والعنيف.
الحقيقة الثانية، التي يمكن تلمسها فيما سبق هي، كون الدولة في شرعة الطبقات المستغلة ليست وسيلة لإنتاج العدالة والديمقراطية، فالعدالة والديمقراطية وغيرها من الأكاذيب الجميلة آخر ما تفكر فيه الطبقات المبنية على الاستغلال، أما أن تكون دولة بورجوازية ديمقراطية فهذا هو العماء بعينيه.
الحقيقة الثالثة، كون الدولة لا توجد إلا حيث يوجد الاستغلال، ومن تم الصراع الطبقي، وهذا يوجب الإقرار بأن مرحلة ما من مراحل تطور التاريخ، لم يكن أي شكل من أشكال الدولة موجودا، وهذا صحيح، وسوف نتعرض لذلك بالتوضيح عندما نعود في هذا العرض المختصر للدولة من وجهة نظر الماركسية، مع نظرية "الدولة والثورة " لدى لينين، والذي سيحيلنا كما هو معروف مرات ومرات إلى أطروحات إنجلز وماركس في الدولة.
طبعا، في المجتمعات الدنيا البدائية والقبلية بعدها، حيث لم يكن تواجد السلالات والعشائر يقوم على الملكية الفردية، وحيث لم يكن الإنسان ليحتاج إلى مراكمة الملكية، لم يكن هناك أي داع للدولة. إن شكل الديمقراطية (البدائية) في المجتمع البدائي، وشكل المساواة في الملكية، لا يستوجب آلة للقمع، أو للإخضاع أو للسرقة وللسيطرة عموما. كما أن مرحلة عليا من مراحل العملية التاريخية، لن تكون أيضا مثلها مثل المرحلة الدنيا، في حاجة إلى الدولة كأداة للسيطرة، وهذه المرحلة هي المرحلة "الشيوعية "، مرحلة زوال الاستغلال بزوال الملكية الخاصة، وحسب لينين، وقبله ماركس وإنجلز، مرحلة "الاضمحلال التدريجي للدولة" منذ بداية الطور الاول للشيوعية، أي الاشتراكية حسب تعريف ماركس.
يقول لينين:
"كيفما كانت الأشكال التي تتغطى بها الجمهورية، حتى ولو كانت الجمهورية الأوفى ديمقراطية، ولكنها إذا كانت جمهورية بورجوازية، إذا بقي فيها التملك الخاص للأرض والمعامل والمصانع، وإذا كان رأس المال الخاص، يبقى المجتمع كله ضمن عبودية العمل المأجور، أي كان لا يجري فيه ما أعلنه برنامج حزبنا والدستور السوفياتي، فما هي إلا آلة يقمع بها البعض الآخرين. ونحن نضع هذه الآلة في أيدي تلك الطبقة التي يتعين عليها أن تسقط سلطة رأس المال، نحن ننبذ جميع الأوهام القديمة القائلة، أن الدولة هي المساواة العامة)10
1) الدولة آلة يقمع بها البعض الآخرين.
2) الدولة ليست هي المساواة العامة كما تزعم الأوهام القديمة .
3) لكن الدولة ضرورية للطبقة العاملة والفلاحين من أجل إسقاط سلطة رأس المال.
هذه المقولات الثلاث هي خلاصة النظرية الماركسية اللينينية حول الدولة، وهي أيضا خلاصة النقاش والصراع الداخلي داخل الماركسية نفسها حول الدولة، بين اللينينية والفوضوية والكاوتسكية وسائر الاتجاهات التحريفية، وهي خلاصة التجربة التاريخية والتطبيقية لكومونة باريس، التي درسها كارل ماركس، والتي أوحت لماركس وإنجلز بمقولة "شيخوخة البيان الشيوعي في بعض جوانبه"، وأدت إلى مراجعة البيان العظيم.
1) الدولة ضرورة ملحة للثورة.
2) وهي أيضا غير ضرورية .
3) الدولة تستعمل.
4) والدولة تضمحل أي تنتفي.
لم يفهم التحريفيون متى تكون الدولة ضرورية لاستكمال مهام الثورة البروليتارية، أي أن تصبح آلة للهجوم على الأقلية المحتكرة للملكية، وآلة للدفاع أيضا، ضد الثورات المضادة، ضد عودة الاستغلال.
في هذه الحالة /المرحلة التاريخية الحاملة لهذه الشروط والسمات السياسية العامة، تكون الدولة كجهاز للقمع والدفاع، ضرورة ملحة يجب بناؤها واستعمالها لهذا الهدف الديمقراطي النبيل: إما إعادة توزيع عادل للملكية على عموم الكادحين (الأغلبية من الشعب الجائع للخبز وللعدالة) أو حماية الملكية التي أصبحت ملكية الجميع/الدولة من عودة الأقلية لاحتكارها (الثورة المضادة). وهذه إحدى خاصيات الدولة الديمقراطية الشعبية.
لكن، وبالمقابل "تضمحل " الدولة تدريجيا عندما تنتصر الثورة نصرا نهائيا، وتولد مرحلة تاريخية "كاملة" من رحم الرأسمالية وعلى أنقاضها، هذا في المرحلة الشيوعية العليا، والتي من المفترض أن تدوم، ليس أياما أو شهورا، بل حقبة تاريخية طويلة نسبيا.
يقول لينين بهذا الصدد: "عندما تزول من العالم إمكانية الاستغلال، عندما ينعدم ملاكو الأراضي وملاكو المصانع، عندما يزول هذا الوضع الذي يصاب فيه البعض بالتخمة ويجوع آخرون، عندما تزول إمكانية ذلك، عندئذ فقط، نترك هذه الآلة للتحطيم، عندئذ تزول الدولة ويزول الاستغلال، وتلك وجهة نظر حزبنا الشيوعي"11
4 ـ تصورات غير مادية حول الدولة
قبل عرض أفكار الزعيم الشيوعي فلاديمير لينين حول الدولة، نود لضرورة منهجية، تتعلق بإمكانية المقارنة بين تصورات مختلفة حول الموضوع، إعلان تعدد التصورات وذلك مثل جل أغلب القضايا الأساسية الأخرى، أن الاختلاف يعود دوما إلى اختلاف زوايا التناول، والخلفيات الفكرية والإيديولوجية والاصطفاف الطبقي في غالب الأحيان.
ولكي نمر بسرعة نحو التناول الذي يهمنا، نورد بعض التصورات المشهورة في موضوع الدولة، على أن اختلافها يفرض موضوعا أو حتى مواضيع كثيرة للبحث في المسألة.
ا ـ النظرية الثيوقراطية:
وترجع نشأة الدولة إلى رغبة "الله" في تحقيق العدالة بين الناس بواسطة مبعوثين أو خلفاء في الأرض، إن هذا التصور للدولة ساد خلال مراحل طويلة من تطور التاريخ البشري، غير أن دولة أو دول "الله" لم يسجل التاريخ سوى إنتاجها لأقصى درجات الاستغلال الطبقي والظلم البشري، الذي قادته عبر التاريخ الإنساني، كما لم يسجل تاريخ البشرية، سوى تحول "مبعوثي الله" إلى "مشعلي حروب" دينية في المظهر، وطبقية في الجوهر، وهذا ميز المراحل الثلاث الكبرى للتحول التاريخي، ولا زالت هذه السمات تطبع نماذج معاصرة للتصور الديني الرجعي للسلطة والدولة حتى الآن.
ب ـ الدولة كعقد اجتماعي:
أبرز مفكري هذا الاتجاه هم هوبز12 وروسو13 ولوك14 وقبلهم الإغريقي أبيقور15، وملخصها، أن الدولة وليدة تعاقد بين الشعب والحاكم، باعتبار أن الشعوب قد أضحت بحكم آلاف السنين من التاريخ ناضجة ومتحضرة، ولم تعد تعيش أفكارا ورغبات عتيقة سادت في مراحل عتيقة من التاريخ .
وهي بذلك ترفض الأشكال القديمة للسلطة، وسبق أن ناضلت من أجل هذه الحقوق، وسجلت بطولات واسعة ضد الحكم الفردي أو الثيوقراطي، وأشهر قولة في التجربة التاريخية لهذا التصور، القولة التي كانت ترددها البرجوازية الإنجليزية على مسامع الملك : "لا ضرائب دون تمثيل"، ويشير ذلك إلى تعاقد بين الشعب والحاكم حول الضرائب، مقابل التمثيل في مجلس الشعب، لكن هذا التصور مثل سابقه، لم يخرج عن مجرد اتفاق حول المشاركة بين الطبقة المستغلة والمستغلة، في أمور أتخاذ قرارات معينة ولم يشمل الملكية ذاتها.
ج ـ نظرية الدولة كتطور أسري:
هذه النظرية تزعم أن الدولة مجرد حدث عارض وقع خلال تاريخ ما، عندما استطاع البعض السيطرة على السلطة داخل القبيلة أو العشيرة بالقوة وإخضاعها للأوامر، ثم توالى عبر مراحل مختلفة نفس التصرف، إلى أن اكتسب خصائصه النهائية في شكل الدولة، غير أن هذه النظرة اللاتاريخية جد مغرقة في المثالية والصدفوية وفي البلادة.
4 ـ فلادمير لينين : الدولة والثورة ومهمات البروليتاريا، "اضمحلال" الدولة وخبرة كومونة باريس 1871.
يشير لينين في التقديم الذي وضعه لأطروحة الدولة (غشت 1917)، إلى السبب المباشر الذي جعل من الحديث عن الدولة ذا أهمية قصوى كما يلي:
"إن الأهوال والنكبات المنقطعة النظير، الناجمة عن الحرب التي تستطيل، تجعل الجماهير في حالة لا تصدق وتشدد سخطها، إن الثورة البروليتارية العالمية تتصاعد بصورة بينة، ومسألة موقفها من الدولة تكتسي أهمية عملية... إن عناصر الانتهازية التي تراكمت في غضون عشرات السنين من التطور السلمي نسبيا، أنشأت تيار الاشتراكية الشوفينية السائدة في الأحزاب الاشتراكية الرسمية في العالم بأسره "16.
السبب الأول هو الحرب الإمبريالية العالمية الأولى، ونتائجها المنتظرة على الطبقة العاملة في البلدان المستعمرة، وعلى وضعها داخل البلدان الامبريالية نفسها غداة التحول الهائل للرأسمال إلى الطابع الاحتكاري الدولي والامبريالي.
والسبب الثاني هو توسع الاتجاهات الانتهازية المشوهة للماركسية خلال المراحل السلمية نسبيا للصراع الطبقي. وقد خصص لينين الكثير من الجهد والوقت لفضح هذه التيارات التحريفية بالعودة مرارا لماركس وإنجلز. ومن بين التيارات التي نالت النقد الحازم تيار "كارل كاوتسكي"17 أحد زعماء الأممية الثانية (1889 ـ 1914). فلنعرض التشويهات التي حددها لينين :
التشويه الأول: فكرة التوفيق بين الطبقات.
يذهب المناشفة والاشتراكيون الديمقراطيون، إلى أن الدولة جهاز للتوفيق بين الطبقات، أي لتلطيف الصراع الطبقي، ولتسييد الصلح بين الطبقات المتناحرة، وبالخصوص بين البورجوازية والبروليتاريا والفلاحين وعموم المستغلين، وهي نظرة أعلن لينين تفاهتها جملة وتفصيلا، بكون استحالة التوفيق بين الطبقات إلا في حالة واحدة: حالة الملكية المشتركة وانتفاء الاستغلال الطبقي. إن هذا الطرح ليس ماركسيا وليس طرحا ثوريا، حتى وأن أصحابه كانوا يدعون الانتماء إلى الماركسية، وقد سبق للينين أن عبر عنه بقولة جامعة: "إنهم ماركسيون قولا وتحريفيون فعلا".
أطروحة التوفيق بين الطبقات أطروحة بورجوازية صغيرة، وليست أطروحة بروليتارية ثورية، وقد قاد البلاشفة بقيادة لينين معارك فكرية وميدانية ضد هذه التيارات، ونجحوا في نقد أطروحاتهم، وتوضيح استحالة التوفيق بين الطبقات المتناحرة، فالدولة نفسها لا تظهر إلا في مرحلة استعصاء هذا التوفيق، فلو كان التوفيق بين الطبقات المتناحرة ممكنا في وضع طبقي ما، لكان من العبث ظهور آلة اسمها الدولة.
كان على لينين الاحتكام إلى الواقع التاريخي في كل مرة، كما كان عليه الرجوع إلى ماركس وإنجلز لإعادة بعث أفكارهما حول الدولة، هذه الأفكار التي تتعرض في كل مرة إلى "التلطيف" من طرف المناشفة والاشتراكيين البرجوازيين الصغار في روسيا، وفي باقي الدول الأخرى.
لذلك فقد فضح، معتمدا على آراء ماركس، كون المشوهين للماركسية إنما يهاجمون بعقلية بورجوازية أهم سلاح لدى البروليتاريا والشعوب المظلومة، يمكن أن تستعمله للتحرر من الاستغلال الطبقي وتحقيق مجتمع وعالم العدالة البروليتارية. هذا السلاح هو مشروعية العنف تجاه الطبقة المستغلة. إن القول بالتوفيقية، هو استهداف للحق في الثورة الحادة على الظلم، والذي يبقى أهم قاعدة ماركسية على الإطلاق.
التشويه الثاني: كاوتسكي ضد تحطيم الدولة البورجوازية ومع أكذوبة الدولة الديموقراطية الخالصة.
يفتح كارل كاوتسكي طريق الارتداد عن الماركسية والثورة البروليتارية من خلال طرح السؤال التالي: "لأية أسباب يجب أن ترتدي سيادة البروليتاريا بالضرورة، شكلا لا يتلاءم مع الديمقراطية؟".
إن كاوتسكي يستبطن ذكر شكل الديمقراطية وطبيعتها، إذ لا وجود لأي ديمقراطية معلقة في فراغ، ولكي نعيد صياغة قولة كاوتسكي فيما يفرضه السياق الذي يسوقه في الإحاطة بموضوع الدولة الديمقراطية بعد الثورة البروليتارية، يجب أن تصاغ الإشكالية على النحو التالي: " لأي أسباب يجب أن ترتدي سيادة البروليتاريا بالضرورة شكلا لا يتلاءم مع الديمقراطية "البورجوازية"؟ لقد أكد لينين غير ما مرة وبشتى الأساليب عن خطورة "كاوتسكي الكذاب"، و"مزور ماركس" "وطاحونة الكلام الفارغ"، وطبعا قد خصص الكثير من الأعمال لنقد كاوتسي، كان أهمها "الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي". إن هذا الاستبطان المقصود في حذف طبيعة الديمقراطية والسكوت الممنهج عنها، كان المقصود منها جعل ماركس " بورجوازيا أخرقا "بتعبير لينين، بمعنى تزوير ماركس، وجعل أفكاره تبدو بورجوازية وغير شيوعية.
لكن، ولكي نقترب أكثر من التشويه الذي قاده كاوتسكي بخصوص الدولة، نتركه يوضح بجلاء خاص الأطروحة البرجوازية الصغيرة، يقول كاوتسكي:
"فإذا حاكم (يعني الشيوعي) بالطريقة الماركسية، ترتب عليه أن يقول: إن المستغلين (كسر الغين) يحولون الدولة بالضرورة (والحال يدور الكلام هنا عن الديمقراطية، أي عن شكل من أشكال الدولة) إلى أداة لسيطرة طبقتهم، طبقة المستغلين على المستغلين (فتح الغين)، ولهذا فإن الدولة الديمقراطية أيضا ستكون أيضا دولة المستغلين (كسر الغين) ما دام هناك مستغلون يبسطون سيطرتهم على أغلبية المستغلين. أما دولة المستغلين (يقصد الكادحين)، ينبغي أن تكون ديمقراطية للمستغلين (الكادحين) وتقمع المستغلين(البرجوازيين)، والحال، أن قمع طبقة ما، يعني عدم مساواة هذه الطبقة، إقصاءها عن "الديمقراطية"18.
سنلاحظ بوضوح كل هذا الالتفاف الواسع عن الحقيقة، كل هذا "البرميل من الكلام " من أجل تبرير توصية تحريفية واحدة هي: أرجوك أيتها الثورة البروليتارية العظيمة لا تقصي البورجوازية التي استغلتك من التمثيلية السياسية، في حالة انتصارك العظيم عليها، لأن الديمقراطية البورجوازية تعني ضمان تمثيلية كل الطبقات، كما تعني التآخي بين هذه الطبقات، والحال أن الدكتاتورية البورجوازية لا تنبني على مشاركة الجميع، هكذا كما يوهمنا الرجل، فكل ديمقراطية هي صراع طبقي وهي حتما استغلال طبقة لطبقة أخرى.
لكن لماذا اخترع معاصر ماركس وإنجلز، "المرتد كاوتسكي " أطروحة "الديمقراطية الخالصة"، ولماذا يوصي الشيوعيين بها؟
إن كلام كاوتسكي موجه إلى الحزب البلشفي مباشرة، وموجه ضد لينين نفسه، فلينين يخبر في كتابات عديدة بامتعاض كاوتسكي من عدة أمور، قد تقلق بورجوازية ألمانيا من خلال نجاحات الثورة في روسيا، وهو إذ يفضح تخوفات البورجوازية الصغيرة التحريفية، المندسة في الأحزاب الاشتراكية الألمانية وقتئذ، وفي الأممية الاشتراكية في نفس المرحلة، يعدد هذه الأسباب كالتالي:
ا ـ خوف كاوتسكي على البورجوازية المنهزمة إبان الثورة البلشفية.
ب ـ قلق كاوتسكي من حل "الجمعية التأسيسية "، التي كانت تضم ممثلين عن البرجوازية الروسية.
ج ـ الخوف من إتمام مهام الثورة بإلغاء الطابع البرجوازي للثورة، والسير قدما في برنامج "السلطة كاملة للسوفييتات".
إذن فالردة لدى كاوتسكي تتضح في أطروحتين على الأقل فضحهما لينين أشد الفضح، أطروحة التآخي بين الطبقات، وأطروحة الدولة الديمقراطية الخالصة، لكن، ولكي يتحقق له ذلك، كان لابد له من إعادة قراءة ماركس وإنجلز على نحو خاطئ، وتزوير ماركس من أجل الانتصار للتيار البورجوازي الصغير أيضا داخل الأممية، لكن التزوير والإشاعة لا ينجحان، فإنجلز كان واضحا في هذا الشأن تمام الوضوح، بحيث لا يحتاج لكثير من العناء ليقدم تصوره هو، وتصور ماركس أيضا، لمفهوم وطبيعة وأهداف الدولة، وشكل ديمقراطية الدولة البروليتارية، يقول في رسالة إلى بيبل ما يلي :
" إن الدولة ليست إلا جهازا لقمع طبقة من قبل طبقة أخرى، وهذا ما يصدق على الجمهورية الديمقراطية، بدرجة لا تقل إطلاقا عن صدقه على الملكية"19
مع كل هذا العداء للثورة في روسيا ولقرارات فلاديمير لينين ذاته، وكل هذا الانبطاح للبورجوازية فقد عاد إثر وفاة لينين ليمدح الرجل، ففي 21 كانون 1924 طلب رئيس تحرير جريدة "الإيزفيستيا"(صحيفة روسية) من كاوتسكي أن يكتب عن وفاة لينين، تفاجئ كاوتسكي أن يطلب منه ذلك رغم كل هذا الجفاء بينه وبين زعيم الشيوعية (راجع كتاب " الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي")، ورغم ذلك كتب ما يلي:
"وأسجل في الوقت نفسه أني ورغم كل تحفظاتي حول طرائق لينين، لم أيأس البتة من وضع الثورة في روسيا... عندئذ ومع كل الشغيلة في روسيا، وكل الشغيلة في العالم، ومن دون أي انقسام في الحركة، سنتذكر بامتنان كبير الرواد العظام لهذه الثورة، أولئك الذين خلال عقود كاملة من النضال والمحن، هيئوا لها في روسيا وقادوها إلى النصر، وبالتالي، حتى بالنسبة للذين يعارضون الحزب البلشفي اليوم، لن يغيب إسم لينين عن ذلك البانتيون)20.
التشويه الثالث : الفوضويون وأطروحة "اللادولة أواللاسلطة على الإطلاق".
تناول فلاديمير لينين في كتاب الدولة والثورة ومهمات البروليتاريا في الثورة" بدرجة أقل، نقد التيار الفوضوي في الماركسية، فباستثناء فصل قصير تحت عنوان "جدال بليخانوف 21 مع الفوضويين"، جاء في الفصول الأخيرة تقريبا من أطروحته حول الدولة والدولة البروليتارية، لم يخصص الكثير من الجهد والتفصيل النظري والفضح الدقيق مثلما خصص للتحريفية الكاوتسكية، أو الانتهازيين الاشتراكيين الثوريين وغيرهم، هذا على خلاف أطروحاته الفلسفية التي عمم فيها النقد الواسع لمجمل التيارات التحريفية في أوروبا آنذاك، وعلى خلاف أيضا كارل ماركس وفريدريك إنجلز، اللذان خصصا الكثير من العمل في اتجاه نقد فلسفة برودون وآراء باكونين22 الفوضويتين.
ولا نجد سببا دامغا لقلة الاهتمام هذا ، غير كون التيارات الفوضوية التي تأسست في عهد ماركس وحتى قبل ماركس بقليل، ضمن الفلسفة الألمانية والفرنسية بالخصوص، كانت إلى هذا الحد أو ذاك ضعيفة وغير ذات تأثير في المرحلة التي يتناولها كتاب "الدولة والثورة" للينين، غير أن ذلك لا يعني أن هذا الاتجاه التحريفي في الماركسية كان غائبا تماما في هذه المرحلة، أو كان منعدم الوجود عشية الثورة البلشفية العظيمة، فقد سادت أحداث بارزة إبان الثورة قادتها شخصيات فوضوية متأثرة بتعاليم باكونين حول الدولة والسلطة كان أهمها تجربة "فولين "، حين عاد إلى روسيا في يوليوز 1917 فلم يجد داخل روسيا، وبالخصوص داخل الفلاحين، حيث من المفترض نمو "التعاليم الفوضوية " كما هو متواتر تاريخيا، أي تأثير ذا شأن، كما أنه لم يجد أي تمثيلية للفوضويين الروس داخل التجربة الثورية الجديدة في روسيا ما بعد القيصر رومانوف، وبالخصوص داخل السوفييتات.
وعلى خلاف فولين كان الشاب الأوكراني الأصل "نيستور ماخنو" فوضويا، قاد حركة الفلاحين ضد الثورة، إلى أن هزم على يد الجيش الأحمر، كما قادت جزيرة "كرونشتاد" حركة فوضوية عسكرية سنة 1921 ضد البلشفية تحت شعار "الثورة الثالثة" ، و كانوا معروفين بأصحاب الراية السوداء، على خلاف الراية الحمراء للبروليتاريا والبيضاء لأنصار القيصر، وكان شعارهم الفوضوي " ثورة بلا دولة" معتنقين الأراء الباكونينية، وقد سجل إعجاب فولين وفوضويي روسيا بكلتا الحركتين وبشعاراتها حول "اللادولة واللا سلطة واللا قيادة"، أي ما يصطلحون على تسميته مع برودون وباكونين ب "الدولة الحرة".
لم تكن الفوضوية رغم ذلك قد كونت حركة تاريخية في روسيا، كما أن أفكارها لم تجد التربة الملائمة للنمو مثلما نمت الأفكار التحريفية الأخرى، وربما يكون البريق الواسع للبلشفية وانتصاراتها الكبيرة سببا في ضعف الفوضويين، وقد جمد العديد منهم تعاليمه أمام الأمر الواقع، الذي يجري آنذاك في تاريخ البروليتاريا، أو انضموا ببساطة إلى الحزب البلشفي نفسه.
لكن ومن وجهة نظر أخرى، فإن تعاليم الفوضوية بشأن الدولة كانت أساسية للنقد في هذه المرحلة من الثورة والتدقيق من طرف لينين في التعاليم الفوضوية، في سياق الكلام عن الدولة، كان سيعطي لا محالة دفعة كبيرة في محاججة ودحض التحريفية، سيما وأن الأفكار الباكونينية وغيرها في الدولة تعد "استثنائية" بالمفهوم السلبي، بل "غريبة الأطوار" و"سخيفة"، كما ينعتها الكثير من الماركسيين وغير الماركسيين.
ولد باكونين زعيم الفوضوية سنة 1814، وتوفي سنة 1876، سجن لسنين في روسيا، وشارك في العديد من الانتفاضات، ولسخرية القدر أن أغلب هذه الانتفاضات فشلت. تلخص تعاليمه حول الدولة (ضد كل سلطة كيفما كانت) هكذا:
"إننا بصرخة السلام للعمال، والحرية لكافة المضطهدين، والموت للمسيطرين والمستغلين والمحافظين من كل نوع، نريد تدمير كل الدول وكل الكنائس وكذا كل مؤسساتهم وقوانينهم الدينية والسياسية والمالية والبوليسية والجامعية والاقتصادية والاجتماعية، كي يتمكن أخيرا ملايين البشر المخدوعة والمستعبدة والمضطهدة والمستغلة، من التحرر من كل قادتها، ومن المحسنين الرسميين وشبه الرسميين، الافراد والجماعات، والتنفس أخيرا بحرية".
بجملة واحدة، فإن باكونين يريد إفناء الكون "فورا" وإعدام التاريخ "قسرا" من أجل ما يسميه الحرية أو "اللاسلطة على الإطلاق"، حتى لو كانت هذه السلطة سلطة البروليتاريا في مرحلة تحطيم الاستغلال نفسه.
تميزت الفوضوية بتاريخ مثير للشفقة، ففي عام 1870 احتل باكونين وجماعته مقر بلدية ليون (مدينة فرنسية)، وأعلنوا إلغاء الدولة، لكنهم تعرضوا لأسوء قمع، وفرباكونين إلى إيطاليا، وانتصرت كومونة باريس عاما بعد ذلك.
يورد لينين في كتاب "الدولة والثورة " نصا ساخرا لكارل ماركس ضد الفوضويين أتباع برودون، أنصار "اللادولة ..اللا سلطة على الإطلاق". النص الماركسي يسخر من فكرة إلغاء الدولة "الفوري" الذي يتبناه الفوضوي برودون واتباعه. يقدم ماركس في المقال عموما، الفهم الصحيح للدولة في التناول الاشتراكي، ويتناول بالخصوص الفكرة القائلة بإلغاء الدولة "فورا" أي فور إعلان الثورة نفسه.
إن ماركس لا يختلف حول الشكل العابر للدولة، ولا حول طبيعتها الطفيلية الواقعة فوق الطبقات، ولا كونها كانت دوما دولة "الأقلية التي تستغل الأغلبية"، ولا حول حتمية اضمحلال وانتفاء هذا الجهاز الطفيلي، لكنه يختلف حول السؤال، متى يصبح انتفاء الدولة ضرورة تاريخية محضة، وكيف يتم ذلك، ولصالح أي نظام اجتماعي، فماذا يقول كارل ماركس:
"إذا كان نضال الطبقة العاملة السياسي يتخذ أشكالا ثورية، وإذا ما أقام العمال ديكتاتوريتهم الثورية مقام ديكتاتورية البرجوازية، فهم يقترفون بذلك جريمة منكرة، جريمة إهانة المبادئ، لأن العمال لكي ما يسدوا حاجاتهم اليومية الحقيرة الفظة، لكي ما يحطموا مقاومة البرجوازية، يعطون الدولة شكلا ثوريا وعابرا بدلا من أن يلقوا أسلحتهم ويلغوا الدولة"23
ماذا يطرح ماركس على الفوضوي برودون؟ ما الطرح الصحيح لإلغاء الدولة؟ متى؟ وكيف؟
1 ـ القضية لدى ماركس لا تتعلق بالهدف النهائي للثورة البروليتارية، وهو أن كل هذا النضال العمالي، هو في الحقيقة من أجل إلغاء الدولة وتحقيق مجتمع لا طبقي، لا يكون للدولة فيه أي مبرر اجتماعي للوجود كجهاز طبقي.
2 ـ القضية /الخطأ لدى برودون، أنه يتكلم عن الدولة بوصفها دولة، وليس بوصفها دولة البروليتاريا المنتصرة حديثا على الديكتاتورية السائدة لقرون كاملة. ليس من الصواب مطالبة البروليتارين عمالا وفلاحين وكادحين، إلغاء دولتهم المنتصرة حديثا "فورا"، في حين لا زالت فلول البورجوازية تتربص بالمضطهدين، أو كون البورجوازية ومعها جيوش من المرتدين الاشتراكيين يعيدون رص الصفوف من أجل الهجوم المضاد.
3 ـ إن جميع الاشتراكيين متفقون على أن الدولة تزول، وهم لا يعملون إلا من أجل ذلك، لكن لا يمكن للدولة أن تزول إلا حين يصبح المجتمع الجديد، "النظام الاجتماعي الجديد، الذي يولد من رحم وعلى أنقاض القديم"، عندما يصبح حقيقة تاريخية، عندما تصل الثورة إلى أعلى مراحلها، المرحلة المتقدمة والأخيرة، مرحلة الشيوعية، حيث لا وجود للطبقات المتناحرة، ولا وجود للمصالح المختلفة بين الطبقات، أي لا وجود للملكية الخاصة. والأكيد أن هذا لا، ولن يحدث "فورا"، ولا يحدث دون استعمال الدولة كجهاز لتحطيم الدولة البرجوازية، وبناء الأسس الاقتصادية التي تنفي الطبقات، كما أنه لن يحدث من تلقاء نفسه وبدون أي جهاز.
4 ـ لن نطيل في النقطة الأخيرة، لأنها لا تستوجب ذلك، فبرودون يريد الفوضى وماركس وإنجلز ولينين يريدون برنامجا ثوريا، ينسجم والعملية التاريخية نفسها، إن العنف الثوري أو الثورة الحادة، هي رأس البرنامج الثوري لدى ماركس وإنجلز ولينين، والذي يحاول الفوضويون اقتناصه واقتلاعه من مقدمة هذا البرنامج الثوري.
في ما يخص كومونة باريس، فإن أي متتبع مبتدئ للماركسية اللينينية، لا يمكن أن يفهم القولة الماركسية المشهورة، في سياق مفهوم وإشكالية الدولة، والتي صيغت على أحسن وضوح من قبل ماركس، "الدولة تضمحل"، بكون الدولة المستغلة تضمحل أي دولة الإقطاعي في عصر الإقطاع، أو دولة البورجوازي في عصر العمل المأجور، فهذا العيار من أشكال الدولة محكوم بشيء أساسي، هو الاستغلال الطبقي، وبذلك ليس من المنطقي أن تكون محكومة بالاضمحلال، إنما ب"التحطيم"، وهي تحطم بالثورة البروليتارية الفلاحية، وتبنى سلطة جديدة هي سلطة مجالس العمال والفلاحين، بمعنى دولة جديدة تسعى إلى إلغاء العمل المأجور وتأميم الإنتاج ووسائل الإنتاج عامة .
كما أن المتتبع البسيط أيضا، لا يمكن أن يفهم من مفهوم اضمحلال الدولة، كون الدولة البروليتارية تضمحل عشية الانتصار بدقيقة ونصف، فهذا غير ممكن الحدوث، ولكي نجيب على الإشكال انطلاقا من ماركس و"تلاميذه"، سيكون من الأفيد تفكيك هذا المصطلح الرئيسي في علم الدولة في الماركسية.
ومن المفيد أيضا، أن نذكر أن هذه الكلمة قد سافرت عبر كل لغات العالم (الألمانية /الفرنسية / الروسية / العربية...) ،وهي بهذا تكون قد تطورت إلى أبعد حد ممكن فحسب، واكتسبت عضلات جديدة، إضافة إلى قوتها التي خلقت بها في لغتها الأصلية. بالنسبة للعربية فصيغة اضمحلال تأتي من اضمحل، وهي قياس على كل فعل يقوم بنفسه ولا يقوم به غيره، كأن نقول انكسر الزجاج: فالزجاج قام بالفعل من تلقاء نفسه، واضمحلت الدولة، أي أنها فعلت ذلك من تلقاء نفسها، والمعاني الأقرب إلى هذه الكلمة في اللغة العربية هي: تخبو / تنتفي /
يقول لينين في أطروحة "الدولة والثورة":" البروليتاريا بحاجة إلى الدولة، هذا ما يكرره جميع الانتهازيين، والاشتراكيين الشوفينيين والكاوتسكيين، مؤكدين أن هذه هي تعاليم ماركس، ناسين أن يضيفوا، أولا، أن البروليتاريا برأي ماركس، ليست بحاجة إلا لدولة في طريق الاضمحلال، أي مبنية بشكل تأخذ معه بالاضمحلال، ولا مندوحة له معها من أن تضمحل، وثانيا، أن الشغيلة بحاجة إلى "دولة"، أي إلى البروليتاريا المنظمة بوصفها طبقة سائدة"24
الدولة، كديكتاتورية البروليتاريا، تزول تدريجيا، كلما أنجزت مهمة من مهامها تفقد عضوا من أعضائها، وهكذا دواليك حتى تنتفي، ويعتبر البيان الشيوعي هذه المهام أساس حياة وموت البروليتاريا، إنها تولد وتموت في نفس الآن، في مغزى ديالكتيكي تتحول من كم إلى كيف جديد.
1 ـ تتحول البروليتاريا إلى طبقة سائدة بواسطة استراتيجية ثورية حادة، فتظفر بالديمقراطية.
2 ـ تحطم البروليتاريا آلة الدولة البورجوازية وتستفيد من السيادة السياسية على البورجوازية.
3 ـ تبني البروليتاريا نفسها في قوة عالمية مستفيدة من سيادتها السياسية.
4 ـ تنتزع البروليتاريا السائدة كامل رأس المال بالتدريج من البورجوازية، وتمركز كل أدوات الإنتاج في يد الدولة.
5 ـ تلغي بذلك كل المظاهر الطبقية والعبودية.
6 ـ تزول الدولة فاسحة المجال لمجتمع بدون استغلال، بدون طبقات، بدون دولة، تفسح المجال للمجتمع الشيوعي.
برهنت كومونة باريس، باعتبارها درسا عمليا للماركسيين ليختبروا الصراع الطبقي على الأرض عوض النظرية- وبالفعل كانت ثورة الكومونيين الدرس الأول في الممارسة العملية- على أن الدولة البورجوازية لا يمكن الاحتفاظ بها من أجل العمل بها، ولا يمكن للبروليتاريا سوى تحطيم الدولة البرجوازية.
هذا الدرس الذي التقطه ماركس وإنجلز، من الجسامة والخطورة بمكان، حيث أدى بهما إلى مراجعة البيان الشيوعي ذاته، في بعض النقط، والخاصة بالدولة نفسها، على ضوء الخبرة التي استخلصاها من تجربة الثورة في فرنسا، وهذا سبب قولة ماركس: "إن البيان الشيوعي قد شاخ في بعض أماكنه".
أحمد فارس
الهوامش