Ok

En poursuivant votre navigation sur ce site, vous acceptez l'utilisation de cookies. Ces derniers assurent le bon fonctionnement de nos services. En savoir plus.

الشرارة - Page 82

  • موضوعات حول المادية التاريخية ــ الحلقة الرابعة

    بالموازاة مع عملية إحياء الذكرى 100 على انتصار الثورة الاشتراكية العظمى، والذكرى 68 على انتصار الثورة الصينية العظيمة، يستمر الموقع في إتمام نشر حلقات سلسلة المقالات التي أطلقها سابقا.

     

    موضوعات حول المادية التاريخية

    الحلقة الرابعة

     الموضوعة السابعة: الأشكال المختلفة للوعي الاجتماعي

     هناك، إلى جانب الظواهر ذات الطبيعة المادية أو الاجتماعية أو الاقتصادية، تضم الحياة الاجتماعية تمظهرات عدة للحياة العقلية أطلقت عليها الماركسية اسم الوعي الاجتماعي.

    - فما هو إذن الوعي الاجتماعي؟

    - ما هي بنيته وأصوله؟

    - ما دوره في التطور التاريخي؟

    - ما المقصود بخصوصية أشكاله المختلفة؟

    كل هذه الأسئلة المختلفة مرتبطة بشكل وثيق بإشكالية الوعي الاجتماعي، وسنحاول الإجابة عنها في هذه الحلقة الرابعة.

    1) الوعي الاجتماعي كانعكاس للوجود الاجتماعي

    يعتمد المنظور الماركسي للوعي الاجتماعي في تحديده لجوهره وبنيته على المقولة الماركسية الشهيرة:

    "ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، بل العكس

    فوجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم".

    إن هذا يعني أن الوعي الاجتماعي مرتبط وتابع للوجود الاجتماعي، الذي يولده ويحدد شروطه، هكذا فالوعي الاجتماعي يظهر كانعكاس للوجود الاجتماعي، أي الأساس المادي للمجتمع.

    وبشكل عام، فالوعي الاجتماعي يتضمن كل أشكال انعكاس الواقع الاجتماعي في الفكر الإنساني، ونعني بذلك الأفكار والنظريات الاجتماعية والآراء السياسية والقانونية والتصورات الأخلاقية والجمالية والأفكار الدينية، ويدخل في نفس الإطار العادات والتقاليد والعواطف الاجتماعية للناس، والخصوصيات النفسية لأمة ما أو شعب ما.

    وتقوم المادية التاريخية بتقسيم الحياة العقلية في المجتمع إلى دائرتين متميزتين ومرتبطتين وهما: البسيكولوجية الاجتماعية والإيديولوجيا.

    أ – البسيكولوجيا الاجتماعية:

    تعكس البسيكولوجيا الاجتماعية الظروف المباشرة لحياة الناس، وهي بذلك تتضمن العواطف الاجتماعية والحالات العقلية والتصورات والتأثرات، وكذلك الأوهام والأفكار المسبقة، والتقاليد المتولدة عن التجربة العملية والملاحظة الشخصية للناس خلال حياتهم اليومية.

    إن البسيكولوجيا الاجتماعية تجسد وعي الجماهير الواسعة، ورد فعلها المباشر النفسي تجاه الواقع.

    إن الظروف التاريخية التي يعيش فيها الناس والأمم والشعوب والطبقات والمجموعات الاجتماعية تنتج نوعا محددا من البسيكولوجيا الاجتماعية.

    عندما ندرس مجتمعا منقسما إلى طبقات، فأول شيء يثير انتباهنا هو أن البسيكولوجيا الاجتماعية تتميز بطابع طبقي. كل طبقة تحتل مكانا محددا في نظام علاقات الإنتاج، ولها مصالحها الخاصة والحياة العامة. وممارسة ممثلي الطبقات المختلفة تثبت أن لكل منها تصورها وإدراكها للوسط الاجتماعي، ومن تم، فالأفكار والعواطف والتصورات والتمثلات وعقلية الناس، وعموما، فالبسيكولوجيا الاجتماعية لها طابع طبقي، نطلق عليه "العاطفة الطبقية" و "الغريزة الطبقية". فواقع البروليتاريا وظروف عيشها في ظل الرأسمالية، تولد لديها عداء للاضطهاد ووعيا بضرورة النضال من أجل تحسين وضعها. والنضال ضد الرأسمالية والعمل المشترك في المؤسسات الإنتاجية الكبرى يولد لدى العمال مميزات مثل: الجماعية، التضامن البروليتاري، الانسجام وروح التنظيم.

    وعلى العكس من ذلك، فالميزة الأساسية للبسيكولوجيا البورجوازية، هي الفردانية وحب الترف، وهذا مرتبط بالملكية الرأسمالية وبالمنافسة والعلاقات الاجتماعية البورجوازية.

    إن الوضع الغامض للبورجوازية الصغيرة في ظل الرأسمالية يفسر سلوكها السياسي غير المستقر، وتذبذباتها بين الإهانة والتطرف "اليساري الثوري" والمغامرة.

    إن البسيكولوجيا الاجتماعية هي إحدى العناصر المكونة الأكثر أهمية للوعي الاجتماعي، غير انها تعتبر محدودة لأنها تعبر بطريقة غامضة وأقل تطورا عن مصالح طبقة معينة، لأنها تتكون بشكل عفوي وليس بشكل واعي، لأنها تترجم المصالح العملية والمباشرة لطبقة ما، فهي لا تأخذ بعين الاعتبار الظروف المادية والسياسية القائمة كوجود تلك الطبقات في شموليتها، أي أنها لا ترتفع إلى مستوى فهم المهام والآفاق السياسية لهذه الطبقة وكذلك للمجتمع.

    لذلك، وباعتبارها درجة أولى ومتدنية في معرفة الأشياء الاجتماعية، فلا يمكن لها ادعاء خدمة – كنقطة انطلاق نظرية – كل المهام التاريخية وتغيير العلاقات الاجتماعية.

    ومع ذلك، لا يمكن تبخيسها، فهي ذات أهمية لنشاط القوى التقدمية والثورية في المجتمع، لأن تلك القوى في سعيها لتنظيم الجماهير ضد الرجعية أو ضد الامبريالية، عليها بتحليل دقيق للعواطف الاجتماعية وعقلية مختلف فئات العمال والكادحين وغيرهم، وذلك لجرهم إلى ميدان النضال المشترك.

    ب – الإيديولوجيا:

    الإيديولوجيا هي الدرجة العليا من الوعي الاجتماعي، وهي عبارة عن نظام للأفكار والتصورات والمبادئ النظرية تعكس بشكل صحيح أو مشوه العلاقات الاقتصادية للمجتمع، انطلاقا من مواقف طبقة اجتماعية محددة.

    ليس هناك فرق مطلق بين الإيديولوجيا والبسيكولوجيا الاجتماعية، إن القول بعكس ذلك يعتبر خطأ، فهما مرتبطتان بشكل وثيق ويعملان بشكل لا انفصام فيه، ويقفان معا على أرضية واحدة مشتركة، هي الوجود الاجتماعي والوضع المختلف للطبقات المختلفة والمجموعات الاجتماعية داخل نظام العلاقات الاجتماعية.

    داخل كل مجتمع طبقي، تحاول الإيديولوجيا السائدة بكل الوسائل الضغط بسيكولوجيا على الطبقة المضطهدة، وجعلها تقبل بالعلاقات الاجتماعية القائمة.

    إننا، عندما نقسم بشكل اصطلاحي الوعي الاجتماعي إلى إيديولوجيا وبسيكولوجيا اجتماعية، فالمقصود بذلك، هو التمييز بين مستويين من الوعي: الوعي المعتاد والوعي النظري، فهناك فرق حقيقي يفصل ما بين المستويين داخل البنية العامة للوعي الاجتماعي، ولذلك أهمية ذات بعد ثوري.

    أولا، فرغم أن بسيكولوجيا الطبقات لها تأثيرات مهمة على ظهور الأفكار والنظريات الاجتماعية، إلا أنها ليست المصدر الحصري، فالعلاقات والسيرورات الاجتماعية الواقعية والمصالح الطبقية هي التي تعكسها تلك الأفكار وتلك النظريات.

    ثانيا، إن ما يصنع أصالة الإيديولوجيا هو أن الأفكار والآراء تأخذ طابعا منظما ونظريا مكتملا تحت شكل أنظمة ومفاهيم.

    إن الإيديولوجيا تقدم لنا انعكاسا ممنهجا مكتملا نظريا للوجود الاجتماعي المنظور إليه عبر مواقف طبقات محددة، فهو ليس بظاهرة عفوية، ولا عمل طبقة كاملة، بل عمل إيديولوجييها، أو كما يقول لينين: "العناصر المفكرة لطبقة ما"، وبتعبير ماركس، فإن الممثلين الإيديولوجيين لطبقة محددة يتوصلون عن طريق النظرية إلى خلاصات أو نتائج تصل إليها طبقتهم عمليا.

    إن الإيديولوجيا الماركسية نفسها، لم تولد وتتطور انطلاقا من الوعي المعتاد والعفوي للطبقة العاملة، بل انطلاقا من العلم، يقول لينين:

    "باعتبار الاشتراكية إيديولوجية الصراع الطبقي للبروليتاريا، فإنها تخضع للظروف المشتركة التي تحكم ولادة وتطور وتعزيز كل إيديولوجيا"، أي أنها تتأسس على قاعدة تراث المعرفة الإنسانية.

    تقدم الإيديولوجيا تكثيفا للمصالح والأهداف والمهام لهذه الطبقة الاجتماعية أو تلك، والهادفة، إما إلى تعزيز وتطوير العلاقات الاجتماعية القائمة، أو على العكس، إلى قلبها.

    وعموما، فالإيديولوجيا تعني بشكل عام مجموع الأفكار السياسية والأخلاقية والفلسفية والجمالية ... التي تعبر عن مصالح وأهداف ومهام هذه الطبقة أو تلك ...

    وعلينا أن نميز بين أمرين في علاقتهما، بين الوعي الاجتماعي (الجماعي) والوعي الفردي. إن وعي الناس له دائما طابع اجتماعي، لأنه نتاج اجتماعي وسيبقى كذلك ما دام الناس موجودين.

    وبالرغم من التأكيد على هذا الطابع الاجتماعي، فإن المادية التاريخية لا تنكر الخصوصيات الفردية للفكر وعقليات الناس، أي البسيكولوجيا الفردية.

    وتعتبر الماركسية أن الوعي الاجتماعي لا يمكن أن يوجد خارج تكئته الملموسة، أي الكائن الإنساني، فالوعي الاجتماعي ليس كيانا اسطوريا يرتفع فوق المجتمع، سواء سميناه وعيا شعبيا أو روحا وطنية، كما هو الحال عند الفلاسفة المثاليين، فلا وجود له خارج المجتمع، الطبقات والأفراد الملموسين.

    إن الوعي الفردي هو العالم العقلي لكائن إنساني محدد، لكنه يقوم ضمن التلاحم المستمر بين الاجتماعي والفردي، فالأول يتحقق عبر الأفراد الملموسين، والثاني يأخذ طابعا اجتماعيا باستمرار. لا يوجد الفردي والاجتماعي إلا الواحد في الآخر، والواحد عبر الآخر.

    إن هذه الوحدة الجدلية لا تنفي التناقض، فقد يقع ألا توافق أفكار وآراء فرد آراء طبقة أو مجموعة اجتماعية، وقد تكون معارضة لها. فممثلو الطبقات يمكن أن يتميزوا بخصوصيات فردية تعود إلى التربية والتأثيرات السياسية والإيديولوجية المختلفة، التي تأثر بها الفرد خلال مسار حياته.

    فهناك نماذج لمثقفين أو لممثلي الطبقات السائدة، الذين تخلوا عن مواقفهم الطبقية، التي ينتمون إليها بحكم أصلهم الاجتماعي ليتبنوا مواقف العمال والكادحين المستغلين، وقد يقع العكس، أناس ينحدرون من الطبقة العاملة، يدافعون عن أفكار البورجوازية ويصبحون وكلاء للإيديولوجيا البورجوازية يعملون لصالحها.

    ففي الحالة الأولى، يقوم فيها المثقف أو ممثل الطبقة البورجوازية بما يسمى عادة ب "الانتحار الطبقي". أما في الحالة الثانية فهناك ما يمكن أن نسميه ب "خيانة للطبقة الأصلية".

    يقوم الماركسيون- اللينينيون بتوجيه عملهم الإيديولوجي نحو تشكيل وعي الجماهير الواسعة من العمال والارتفاع بها إلى مستوى الفئات الطليعية من الطبقة العاملة، وفي نفس الوقت يولون اهتماما كبيرا بالدعاية الفردية.

    عموما، تشكل الظروف المادية لحياة المجتمع، العلاقات الاقتصادية، الوضع الطبقي، العناصر الرئيسية لضبط الوعي الاجتماعي، لأن كل هذه العوامل تحدد مصالح الناس وتطرح عليهم المهام الدقيقة، وتعطي للوعي الاجتماعي اتجاها محددا.

    إن الأفكار والعواطف والتصورات الاجتماعية، هي التعبير الذاتي عن المصالح الموضوعية للناس، فيوم تتوقف عن كونها موافقة للمصالح الفعلية للطبقات والمجموعات الاجتماعية، تفقد معناها الأول، فيتم تعويضها بأفكار جديدة وتصورات مناسبة أكثر لمصالح اللحظة، فقد لاحظ ماركس قائلا:

     "إن الفكرة تورطت دائما عندما تميزت عن المصلحة"

    ("العائلة المقدسة، أو نقد النقد النقدي").

     إن الوعي الاجتماعي، من خلال مضمونه وأشكاله الخصوصية، يأخذ طابعا تاريخيا، فلا يوجد، ولا يمكن أن يوجد وعي اجتماعي فوق التاريخ، وخارج التاريخ، تحت شكل "الروح الوطنية" أو "عقل كوني"، أسطوريين، فلا يمكن أن يكون هناك إلا وعي لمرحلة تاريخية محددة، في ظل تتابع المراحل التاريخية للمجتمع الإنساني.

    إن الأفكار والنظريات الاجتماعية تتغير بحكم تغيرات القاعدة الاقتصادية للمجتمع، فبمضمونها الأساسي تعكس النظرات والنظريات السياسية والقانونية والأخلاقية والجمالية والدينية، البنية التحتية الاقتصادية للمجتمع.

    يقول لينين:

    "كما أن معرفة الإنسان تعكس الطبيعة التي توجد باستقلال عنه، أي المادة في طريق التطور، كذلك المعرفة الاجتماعية للإنسان (أي الآراء المختلفة والمذاهب الفلسفية والدينية ...) تعكس النظام الاقتصادي للمجتمع".

    في منظور لينين، فانعكاس الوجود الاجتماعي في الوعي الاجتماعي، ليس فعلا ميكانيكيا، بل له طابع حركة ديالكتيكية معقدة، فالوجود الاجتماعي لا يحدد الأشكال الإيديوجية بشكل مباشر ولحظي، بل عبر شكل غير مباشر في نهاية التحليل.

    هناك بين العلاقات الاقتصادية والبنية الإيديولوجية حلقات وسطى : الصراع الطبقي في المجتمع، العلاقات السياسية، البنية الفوقية السياسية والقانونية، العلاقات بين القوميات ...

    إن الانعكاس الإيديولوجي يعني أن هناك فعل متبادل ديالكتيكي بين الموضوع والذات، الذي يعبر عن نفسه، ليس فقط عن طريق تأثير الاقتصاد على الإيديولوجيا، بل كذلك، عبر تأثير هذه الأخيرة على العلاقات الاقتصادية.

    يقول انجلز:

    "الاقتصاد لا يخلق شيئا بشكل مباشر، وبذاته، بل يحدد نمط التغيير والتطور اللاحق للمادة الفكرية المعطاة، وهذا في أغلب الأحيان يتم بشكل غير مباشر".

    غالبا، ما يحول خصوم الماركسية المادية التاريخية إلى مادية اقتصادية، وقد رد مؤسساها ماركس وانجلز في كتابات ورسائل على تلك الترهات، التي تختزل الماركسية في نوع من الاقتصادوية أو المادية الاقتصادية (انظر كراسة ماركس وانجلز "رسائل حول المادية التاريخية".).

     2) الطابع الطبقي للوعي الاجتماعي: الإيديولوجية العلمية وغير العلمية

    إن الأفكار الاجتماعية في مجتمع طبقي، لها دائما طابع طبقي، فكل طبقة اجتماعية تبلور نظام أرائها الخاص، الذي يعبر عن وضعها وعن مصالحها وعن احتياجاتها.

    في القرن السابع عشر، إبان الثورة الانجليزية، قال المادي توماس هوبز:

    " لو أن مسلمات علم الهندسة خالفت مصالح الناس ستكون ربما قد دحضت" هوبس، ليفياثان، أكسفورد،1871.

    في مجتمع مقسم إلى طبقات متعادية، يقدم انعكاس الوجود الاجتماعي في الوعي الاجتماعي دائما طابعا طبقيا.

    كل الإيديولوجيين المنتمين لمرحلة ما قبل الماركسية، المنغلقين في حدود طبقتهم، ظلوا عاجزين عن خلق نظرية اجتماعية تكون في نفس الوقت علمية ومتسقة تسمح بتغيير ثوري للمجتمع، وهذا أمر لم يتوفر إلا لماركس وانجلز.

    في كل مجتمع طبقي، هناك إيديولوجيتين على طرفي نقيض، إحداهما تعبر عن آراء الطبقة المستغلة (بكسر الغين) والأخرى تعبر عن الطبقة المستغلة.

    لكن، ودائما، وفي كل مكان، فالإيديولوجيا المسيطرة هي إيديولوجية الطبقة التي تتحكم في زمام الأمور السياسية والاقتصادية للبلاد، وقد كتب ماركس وانجلز:

    "... إن الطبقة التي هي القوة المادية المسيطرة في المجتمع،

    هي في نفس الوقت القوة الروحية والفكرية المسيطرة".

    إن الروح الحزبية في الإيديولوجيا تعبر بطريقة عميقة عن الطابع الطبقي للأفكار والنظريات الاجتماعية، وينكر إيديولوجيو البورجوازية كل طابع حزبي للإديولوجيا، ويحاولون الاستمرار في تمرير آرائهم ونظرياتهم، باعتبارها تصورات كونية وإنسانية فوق الطبقات، وملك لكل الشعب، إن ذلك لقمة في الوهم والنفاق، فوراء فكرة الحياد تجاه الأحزاب والطبقات تختفي روح حزبية: انتماء لحزب المستغلين (كسر الغين)، وقد كتب لينين يقول:

    " إن الاستقلال تجاه الأحزاب فكرة بورجوازية، أما فكرة الحزبية فهي اشتراكية".

    خلافا للموضوعية المزيفة، وللاحتجاجات المنافقة، تعترف الماركسية ــــ اللينينية صراحة، بالطابع الطبقي والروح الحزبية للإيديولوجيا، ويتم الإعلان بشكل واضح عن كون الإيديولوجيا الاشتراكية تخدم مصالح البروليتاريا ومصالح الجماهير الكادحة.

    يستعمل خصوم الماركسية الحجة الرئيسية القائلة، بأن الروح الحزبية تتعارض مع العلم، وبأن الحقيقة والروح الحزبية هما تصوران ينفي أحدهما الآخر. وتنتشر وسط المدرسة البورجوازية لسوسيولوجيا المعرفة العديد من مثل هذه الأفكار، فكارل ماينهايم في كتابه "الإيديولوجيا واليوتوبيا" يؤكد على أن العلم موضوعي، لأن ليس له طابع حزبي، بينما الإيديولوجيا، بطابعها الطبقي، فهي دائما ذاتية، وتمثل تزويرا مقصودا، أو في أحسن الأحوال لاواعيا للعلاقات الاجتماعية.

    وقد انتشرت في الربع الأخير للقرن العشرين، وإلى يومنا هذا، نظريات حول انمحاء الإيديولوجيا ونزع الإيديولوجيا عن العلوم والحياة الاجتماعية، وذلك تحت ادعاء أن الثورة العلمية والتقنية قد رسخت الفكر العقلاني والتقني الذي سيؤدي إلى نزع الإيديولوجيا عن السياسة والفلسفة والفنون ، ومن تمة نهاية الايديولوجيا، ومهما يكن القول فهذه النبوءة كانت تقصد بالأساس الماركسية اللينينية، فمثل هذه النظريات هي نتاج الدعاية لإيديولوجية معينة هي ايديولوجية الطبقة البورجوازية، وتهدف إلى التشكيك في القيمة العلمية للماركسية اللينينية التي يطلق عليها ايديولوجيو الحرب ضد الشيوعية "يوتوبيا ايديولوجية" و" ميثولوجيا اجتماعية" و"دين مزيف".

    وعلى نفس المنحى ذهب التحريفيون، حينما ا دعوا ضرورة نزع الإيديولوجيا عن الماركسية وتحرير العلوم الاجتماعية من الإيديولوجيا، رافضين بذلك الروح الحزبية.

    يستعمل التحريفيون استعمالات ماركس لمصطلح الإيديولوجيا والأدلجة بشكل سلبي، وعند ماركس وانجلز يكون المقصود هنا الوعي المزيف، يقول انجلز:

    "الإيديولوجيا هي سيرورة ينجزها ما يسمى بالمفكر (بكسر الكاف) بدون شك بوعي،

    لكن بوعي زائف".

    فماذا يعني ماركس وانجلز بالوعي الزائف المطبق على الإيديولوجيا؟

    المقصود هنا بنقدهما، هو الوعي البورجوازي في زمانهما، الوعي الطبقي، الذي يخدع الآخرين ويخدع نفسه، الذي يعطي صورة زائفة عن آفاق التطور التاريخي، ويحاول تمرير المصالح الأنانية للبورجوازية، باعتبارها مصالح لكل المجتمع.

    على هذا الأساس، حدد مؤسسا الماركسية إيديولوجية الطبقة الرجعية، كوعي خاطئ يشوه حقيقة العلاقات الاجتماعية، وعلى العكس من ذلك، فالإيديولوجية الاشتراكية للبروليتاريا مؤسسة علميا، فهي موضوعيا حقيقية وتعارض جذريا الوعي الزائف البورجوازي، يقول انجلز:

    "بفضل المادية التاريخية أصبحت الاشتراكية علما".

    وعند لينين نجد كذلك استعمالات، من قبيل إيديولوجية علمية، عندما يتم وصف النظرية الماركسية، يسطر لينين قائلا:

    "الإيديولوجيا الاشتراكية تفترض تطورا عاليا للعلم وتفرض عملا علميا".

    من هنا يتبين استحالة أي اعتماد على ماركس وانجلز من أجل نزع الإيديولوجيا، علما أن التعارض في العلم والإيديولوجيا، بين الإيديولوجيا والواقع، هو تصور بورجوازي، هدفه إخفاء التعارض الحقيقي، الذي يفصل بين الإيديولوجيا العلمية والإيديولوجيا غير العلمية.

    إنهم، يلقون دائما على الماركسية، بهذا السؤال:

    - ما هي العلاقة الحقيقية بين الإيديولوجيا والعلم، والتكيف الاجتماعي والحقيقة الموضوعية في بحث الظواهر الاجتماعية؟

    إن إيديولوجية الطبقات الرجعية في جوهرها غير علمية، سواء من جهة المصالح، أو من جهة مواقف منظريها، غير قادرة على إعطاء تحليل علمي للواقع الاجتماعي ولاتجاهات تطوره.

    تحاول الإيديولوجيا البورجوازية على كل الأصعدة، الاقتصادية والسياسية والأخلاقية والفلسفية والجمالية، التعبير عن مصالح طبقة محكوم عليها من طرف التاريخ ومعادية للتقدم الحقيقي وللمعرفة الموضوعية الحقيقية للمجتمع ولقوانين تطوره.

    باعتبار الماركسية ــــ اللينينية إيديولوجية البروليتاريا الثورية، فهي تقدم تحليلا صحيحا للعلاقات الاجتماعية ولآفاق التطور التاريخي، فالطابع الطبقي للنظرية الماركسية ــــ اللينينية، لا ينكر، بل بالعكس يفترض المعرفة العلمية والموضوعية للواقع، وذلك:

    أولا، لأن المصلحة الطبقية للبروليتاريا تتوافق مع السير الموضوعي للتاريخ، أي مع التقدم التاريخي، يقول انجلز:

    " بقدر ما يتصرف العلم حرا، من أي مهادنة ومن أي منع، بقدر ما يجد نفسه متوافقا مع مصالح وطموحات الطبقة العاملة".

    ثانيا، عندما نتطرق لمسألة الروح الحزبية، والموضوعية العلمية للماركسية ــــ اللينينية، يجب أن نستحضر، أن طموح وأهداف ومهام الطبقة العاملة تتوافق في كل المسائل الأساسية مع مصالح كل العمال، ولا يمكن للبروليتاريا أن تكون لها طموحات طبقية ضيقة وحلقية مناقضة لمصالح الجماهير الكادحة.

    إن الماركسيين ــــ اللينينيين يدافعون عن الروح الحزبية في مصلحة أوسع الجماهير، من أجل تحررها من كل أشكال الأوهام البورجوازية.

    إن الماركسية ــــ اللينينية: كإيديولوجيا علمية للعمال، تجسد وحدة المصالح الطبقية والعلم، وحدة الروح الحزبية والحقيقة.

    إن مبدأ الروح الحزبية الشيوعية للإيديولوجيا، هو مبدأ ديالكتيكي بشكل عميق، غريب عن كل صورة اختزالية ضيقة، عن كل قاعدة جامدة، عن كل انحياز.

    إن الطابع الطبقي للإيديولوجيا يتمظهر بشكل مختلف، عبر الأشكال الإيديولوجية المختلفة حسب خصوصيتها. فبالنسبة للإيديولوجية السياسية مثلا، فالطابع الطبقي يتمظهر بشكل واضح على الأخص، لأنه عبر النظريات السياسية يتم التعبير عن المصالح الاقتصادية المباشرة للطبقات الاجتماعية، أما في الفلسفة، فالطابع الحزبي له ميزة أكثر تعقيدا، لكون الفلسفة تتضمن، بالموازاة مع المظهر الإيديولوجي، تصورا للعالم لمختلف الطبقات والمجموعات الاجتماعية، ومظهرا علميا وفلسفيا كذلك لمعرفة الواقع. فالصراع بين الأفكار الفلسفية التقدمية والرجعية، بين المادية والمثالية، تعكس في آخر التحليل مواقف وصراع مختلف الطبقات. أما في ميدان الفن والأدب، فالروح الحزبية ليست جلية، لأنها لا تكشف عن نفسها إلا عبر التحليل التاريخي والنقد الملموس للأعمال، مما يجعل أن الآراء السياسية الشخصية، لهذا الكاتب أو ذاك، أو لهذا الفنان أو ذاك، لا تتطابق مع المضمون الموضوعي لعمله، مثال بالزاك وتولستوي.

    إن الماركسية تقارب تحليل الظواهر الإيديولوجية بروح بعيدة عن كل دوغمائية وحلقية، فهي تفرض الأخذ بعين الاعتبار بكل دقة لمختلف العناصر الإيجابية للأعمال الفلسفية والأخلاقية والفنية، بالإضافة إلى تحديد واضح لتوجههم الإيديولوجي.

    لا تقبل الماركسية بأي توافق بين إيديولوجيات متعارضة، فإما الإيديولوجيا البورجوازية، وإما الإيديولوجيا الاشتراكية، فليس هناك وسط، وليس هناك إيديولوجيا فوق الطبقات. إن كل تنقيص أو ابتعاد عن الإيديولوجية الاشتراكية هو سقوط في الإيديولوجية البورجوازية.

     3) الاستقلال النسبي للإيديولوجيا ودور الأفكار في التطور الاجتماعي

    بالنسبة للمادية التاريخية، فكل الأفكار والتصورات الاجتماعية والوعي الاجتماعي في شموليته، تظهر وتتطور على قاعدة الظروف الاقتصادية، وعلى هذا الأساس، ليس لها تاريخ مستقل عن تاريخ المجتمع، وهذا الطرح هو أساس المادية التاريخية فيما يخص ظهور الوعي الاجتماعي وتطوره. إن القول بهذا لا ينكر دور الأفكار في تطور المجتمع، فالماركسية تقول بأن الإيديولوجيا لا تتحدد بالتطور الاقتصادي إلا في آخر التحليل، لوجود حلقات وسطى بين الاقتصاد والإيديولوجيا، مما يعني وجود استقلال نسبي للإيديولوجيا.

    إن ميدان تاريخ الأفكار يمتلك قوانين خاصة ومنطقا خاصا يظهر خصوصية السيرورة الإيديولوجية يقول انجلز:

    " كل ايديولوجيا، بعدما تتشكل، تتطور على قاعدة تيمة تصور محدد تقوم بإغنائه، وإلا لن تكون ايديولوجيا، بمعنى متابعة أفكار ككيانات تعيش حياة مستقلة، تتطور بشكل مستقل، وخاضعة فقط لقوانينها الخاصة".

    إن تطور الإيديولوجيا لا يتحقق فقط على قاعدة القانون التاريخي الكوني، الذي حسبه يتولد الوعي الاجتماعي، ويتم شرطه بالكائن الاجتماعي، بل كذلك على قاعدة القوانين الخاصة لتطور الإيديولوجيا، التي تعكس قدرتها على التطور حسب قوانين خاصة مرتبطة بمنطقها الداخلي الخاص.

    إن كل نظام إيديولوجي جديد بحسب مضمونه، هو انعكاس للعلاقات الاقتصادية في المجتمع، وبشكله، استمرار للتطور السابق للفكر الإنساني، بمعنى آخر، مرتبط بالمعارف والتصورات والتمثلات المتراكمة لحد الآن، ففي كل مرحلة جديدة لا تولد الأفكار والنظريات الاجتماعية من عدم، بل تتبلور على قاعدة المادة الإيديولوجية للعصور السابقة، تحت تأثير المراحل السابقة للتطور الإيديولوجي، وتقيم معها علاقات استمرارية. هكذا يتشكل خط غير منقطع للتطور الإيديولوجي في كل ميادين الوعي الاجتماعي، من فلسفة وفن وأخلاق وعلم ...

    إن الاستمرارية الإيديولوجية مرتبطة بالطابع الطبقي للمجتمع، فمختلف الطبقات الاجتماعية تغرف من الإرث الفكري للمراحل السابقة، مضمونا إيديولوجيا مختلفا، فالطبقات الاجتماعية التقدمية تعتمد على النظريات التقدمية للماضي، رافضة الأفكار الرجعية، التي مضى زمانها، فإيديولوجية هذه الطبقات، تتضمن بشكل مفكر فيه، العناصر الإيجابية لإرث الماضي، والماركسية ــــ اللينينية، باعتبارها مفهوم العالم للطبقة الأكثر ثورية، التي استوعبت كل ما كان جيدا وتقدميا في الأفكار والنظريات والمكتسبات لعلم العصور السابقة، فالأخلاق الشيوعية تتضمن أفكار الإنسية والطموح إلى الحرية وقواعد الأخلاق الخاصة بكل الإنسانية، التي بلورتها الجماهير الشعبية عبر قرون ضد النير الاجتماعي والانحطاط الأخلاقي.

    فالمطلوب إذن، احترام الإرث الثقافي لكل شعب، ولكل الشعوب، فالماركسيون ــــ اللينينيون، وهم أمميون، فهم وطنيون كذلك، ومدافعون عن تراث بلدانهم. أما الطبقات الاجتماعية الرجعية، فعلى النقيض من ذلك، تغرف من الإرث الإيديولوجي للعصور السابقة للنظريات الرجعية وتكيفها مع مصالحها الطبقية.

    إن هذا المبدأ الماركسي ــــ اللينيني لاستمرار الثقافة لذو مدى حاسم من أجل بناء مجتمع جديد اشتراكي، لأن الثقافة الاشتراكية لا تنبع من عدم، فهي استمرارية لأحسن النماذج والتقاليد وإنتاجات الثقافات الماضية.

     4) مسار التاريخ والتنبؤات حول ذلك

    إن النظرية الاجتماعية الماركسية، هي الأولى، التي وضعت أرضية علمية لمسألة التنبؤات، فيما يخص مسار التاريخ، ذلك لأنها تعتمد على معرفة علمية للواقع الموضوعي، للقوانين والاتجاهات بالنسبة لتطور المجتمع.

    وهنا، لابد من تأكيد أمر آخر، وهو وجود إمكانية اتجاه نحو التأخر، بالنسبة للوجود الاجتماعي، وهذا متعلق بالوعي الاجتماعي، فبقايا الماضي تقاوم بعناد في مجال السيكولوجيا الاجتماعية، حيث تلعب العادات والتقاليد دورا كبيرا، ونفس الشيء بالنسبة للآراء والتمثلات المتجذرة.

    يقول ماركس في قولته الشهيرة:

    "إن تقاليد كل الأجيال الميتة تنزل بثقلها الكبير على عقل الأحياء".

    إن تأخر الوعي الاجتماعي عن الوجود الاجتماعي لا يخص فقط ميدان البسيكولوجيا الاجتماعية، بل يمس كذلك مجال الإيديولوجيا، خاصة نظريات وأفكار الطبقات الاجتماعية الرجعية، فالأفكار الرجعية، خاصة الدينية منها، عنيدة، وتستمر في الوجود مدة طويلة، بعد انمحاء الظروف التاريخية التي خلقتها.

    هناك سؤالان ينطرحان، وهما، ماهي أسباب هاته الاستقلالية النسبية للإيديولوجيا؟ وكيف نفسر هذه الخصوصية في تطور الوعي الاجتماعي؟

    هناك سبب معرفي يمس طبيعة الوعي واستقلاليته النسبية بالنسبة للمادة، فبمضمونه، فالوعي بشكل عام يعكس الكائن، أي العالم المادي، والوعي الاجتماعي هو انعكاس للوجود الاجتماعي، أي للحياة المادية لمجتمع في مرحلة تاريخية محددة، وفي الحالتين معا، فالانعكاس ليس فعلا سلبيا ميتافيزيقيا، بل هو ذو طابع ديالكتيكي معقد، وبفضل هذا الديالكتيك يكتسب الوعي بشكل لا مناص منه طابعا نشيطا.

    إن الوعي الإنساني، هو قبل كل شيء نتاج التطور التاريخي للمجتمع، وفي أصل هذا التطور، نجد الممارسة، النشاط المادي والمنتج للناس المتوجه نحو تطوير القوى المنتجة، وتدجين الطبيعة، واستعمالها لغايات نافعة للإنسان.

    لقد شرح ماركس في موضوعاته حول فيورباخ، الطابع النشيط للوعي بالنشاط الإنساني.

    إن الوعي بمضمونه، يأتي في الدرجة الثانية، لأنه انعكاس للواقع المادي، لكن الوعي لا يمكن اختزاله في مجرد صورة للواقع يحاول معرفتها ليجعلها مفهومة، وكذلك اختراق جوهرها. بسبب هذا المظهر النشيط للوعي، فالانعكاس الإيديولوجي للقاعدة الاقتصادية للمجتمع، فهو إلى حد ما مستقل تجاه هذه الأخيرة.

    إن خصوصية الوعي نفسها، وطابعها الديالكتيكي والنشيط، هما السبب الأساسي للاستقلال النسبي للإيديولوجيا، وينضاف إلى هذا كذلك، في مراحل من التطور الاجتماعي، تأثير الفصل بين العمل الفكري والعمل اليدوي.

    بفضل هذا الفصل بين العمل اليدوي والعمل الفكري، انفصل الإنتاج الفكري عن الإنتاج المادي، مما أعطى وهم الاستقلال التام للأول عن الثاني.

    إن الانتقال من المجتمع الطبقي إلى مجتمع بلا طبقات، لا يحذف الاستقلال النسبي للإيديولوجيا، الذي يظل قانونا خاصا بالسيرورة الإيديولوجية، لكن في المجتمع الشيوعي، فهذا الاستقلال النسبي يبعد عن الأشكال الوحشية الناتجة عن التعارض بين العمل اليدوي والعمل الفكري وضيق الأفق الطبقي كذلك، ففي المجتمع الشيوعي، فإن الطابع النشيط للأفكار والوعي، وتأثيرهما على كل مظاهر الحياة الاجتماعية ينمو بشكل كبير.

    يقول انجلز، في محاولة لشرح جوهر التصور المادي للتاريخ:

    "إن التطور السياسي والقانوني والفلسفي، والديني والفني ... يستند إلى التطور الاقتصادي، لكن يتفاعل مع بعضه البعض، وكذلك على القاعدة الاقتصادية، إن الأمر ليس هكذا، لأن الوضع الاقتصادي هو السبب، ولأنه هو وحده النشيط، وكل الباقي فعل سلبي، بل هناك على العكس فعل متبادل، استنادا لقاعدة الضرورة الاقتصادية، التي تنتصر دائما في آخر التحليل".

    قال ماركس:

    " لا يمكن القضاء على القوة المادية إلا بالقوة المادية،

    لكن النظرية تتحول هي الأخرى إلى قوة مادية متى استبدت بألباب الجماهير".

     * يتهم خصوم الماركسية هذه الأخيرة بكونها جبرية اقتصادية، تنكر حسب زعمهم الأسباب الإيديولوجية، أو المحركات الإيديولوجية للنشاط الإنساني، وهذا الادعاء لا علاقة له بالنظرية العلمية الثورية للماركسية.

    قول انجلز:

    "كل ما يحرك الناس لابد أن يمر بالضرورة عبر دماغهم".

     ← إن الناس، وهم يصنعون التاريخ، يستلهمون ذلك من أسباب إيديولوجية محددة، إن هذه الأهداف، التي يتم تبنيها بوعي، تمثل المحركات الإيديولوجية للنشاط الإنساني، والأسباب والأهداف مشروطان معا تاريخيا، أي أن لهما هذا التكيف، فإن المحركات الإيديولوجية للنشاط التاريخي تلعب دورا محركا ومعبئا هائلا.

     5) أشكال الوعي الاجتماعي وطابعها الخاص

    إن الأشكال الأساسية للوعي الاجتماعي، هي الإيديولوجيا السياسية والقانون والأخلاق والدين والفن والفلسفة. إن كل شكل من أشكال الوعي الاجتماعي، هو ثمرة ضرورات اجتماعية محددة، فظهور الملكية الخاصة والطبقات والدول مثلا، كان وراء ظهور الإيديولوجيات السياسية والقانونية.

    في كل تشكيلة اقتصادية – اجتماعية، في تاريخ المجتمع، وحياته الفكرية والروحية، فإن مختلف أشكال الوعي الاجتماعي تقدم علاقة ارتباط محددة، تتميز بالنمو، بالدور المسيطر لبعض أشكال الوعي الاجتماعي بالنسبة للأخرى، التي توجد في حالة انحطاط أو جمود. ففي العصر الإقطاعي كان الدين هو الشكل الإيديولوجي المسيطر، بينما الأشكال الأخرى (فلسفة، سياسية، قانون ...) كانت تابعة لهذا الشكل، ومع ظهور الرأسمالية أصبحت السياسة والقانون في المرتبة الأولى، فالبورجوازية التي استولت على السلطة، أصبحت تعتمد سلطة الأفكار السياسية والقانونية لشرعنة سيطرتها السياسية والاقتصادية. مع الانتقال للمجتمع الشيوعي، سيحصل تحول جدري، ليس فقط لمضمون الوعي الاجتماعي، بل كذلك لبنيته، بحيث تتراجع مجموعة من الأشكال، التي تمثل انعكاسا مشوها للواقع، وبالمقابل، تدفع الحاجيات المتزايدة للمجتمع إلى نمو قوي للعلوم، فيبدأ تلاشي بعض أشكال الوعي الاجتماعي، كالوعي السياسي والقانوني، بينما يتسع حقل الفعل الأخلاقي، حتى يصبح المنظم الرئيسي للعلاقات الإنسانية، وستساعد ظروف الحياة في المجتمع الشيوعي، على تفتح الفنون والفلسفة.

    تتميز كل أشكال الوعي الاجتماعي، بالإضافة إلى كونها تعكس مظاهر مختلفة للوجود الاجتماعي، وبطرق خاصة لكل منها، تعكس كذلك في اللغة الخاصة بها، جانبا محددا من الوجود الاجتماعي.

    الإيديولوجية السياسية العلاقات بين مختلف الطبقات الاجتماعية.

    الأخلاق العلاقات بين الناس، وعلاقة الفرد تجاه الجماعة والمجتمع.

    إن أنماط هذا الانعكاس تختلف من شكل إلى آخر.

    الفلسفة، العلم تعكس موضوعها في شكل مفاهيم منطقية وقوانين ونظريات.

    الفن انعكاس فني مصور للواقع.

    الأخلاق والقانون تعكس في شكل قوانين وقواعد سلوك الناس.

    هناك عنصر اختلاف بين مختلف أشكال الوعي الاجتماعي، ويقوم حول دورها في حياة المجتمع والوظائف التي تقوم بها.

    الأفكار السياسية تقوم بترميز الأهداف الاجتماعية لمختلف الطبقات وتنظيم نشاط المؤسسات والمنظمات السياسية.

    الأخلاق تقوم بتشكيل الصفات الأخلاقية للناس، وبمساعدة قواعد محددة، تنظم العلاقات المتبادلة بين الناس.

    الأشكال الإيديولوجية تتميز بطابع الروابط التي تقيمها مع القاعدة الاقتصادية للمجتمع، فالإيديولوجيا والتصورات القانونية، هي أقرب للقاعدة الاقتصادية من أشكال الوعي الأخرى، فهي تعكس بهذا القدر أو ذاك، مباشرة علاقات الإنتاج، وهي أشكال تتشكل مباشرة عن طريق الاقتصاد، ولذلك سماها انجلز، إيديولوجيات الدرجة الأولى.

    الفلسفة والفن تعكس القاعدة الاقتصادية بواسطة حلقات وسطى، وبالدرجة الأولى، عن طريق الإيديولوجيا السياسية، وفي زي سياسي، وتوجد هذه الميادين الإيديولوجية بعيدة عن القاعدة الاقتصادية، وبعبارة انجلز: تحلق عاليا في الأجواء.

    إن هذه الفوارق بين مختلف أشكال الوعي الاجتماعي نسبية، بمعنى أنه لا يوجد أي شكل منها مفصول عن الأشكال الأخرى، فكلها توجد في ترابط وتفاعل ضيق فيما بينها.

    أ – الإيديولوجية السياسية:

    الإيديولوجية السياسية لأنها الأكثر ارتباطا بالحياة الاقتصادية للمجتمع، فهي تلعب، ضمن هذا التفاعل بين مختلف الأشكال دورا محددا.

    يحدد لينين السياسة باعتبارها تعبيرا مركزا ومكثفا للاقتصاد، تعميما له وتتويجا له أيضا. في سياستها، كل طبقة اجتماعية تعبر بشكل مباشر عن مصالحها الطبقية والمحددة.

    إن السياسة تعكس العلاقات بين طبقات المجتمع، إنها تعكس اقتصاد المجتمع عبر منظور العلاقات الطبقية، التي تتقدم كصراع بين الطبقات في المجتمعات المقسمة إلى طبقات متعددة. إن السياسة تتضمن الأهداف والمهام، التي تقدمها الطبقات، التي تناضل من أجل مصالحها، وكذلك الطرق والوسائل، التي تستعملها للتعبير والدفاع عن تلك المصالح.

    إن إحدى المشاكل الأساسية للسياسة، هو موقف الطبقات تجاه الدولة ومهامها وأشكال نشاطها، والسياسة تتضمن أيضا العلاقات بين الدول والأمم، وتنتمي العلاقات بين الدول إلى مجال السياسة الخارجية، التي تنفصل عن السياسة الداخلية للطبقة السائدة، التي تشكل استمرارا لها.

    وبالمعنى الواسع، فالسياسة هي ميدان العلاقات بين الطبقات والأمم والدول، فهي ميدان الصراع الطبقي، من أجل قيادة المجتمع، من أجل سلطة الدولة وتوجيه عملها.

    من هذا المنظور، فالسياسة هي مجموع العلاقات والأنشطة السياسية، لكن هناك دور كبير تقوم به الإيديولوجيا السياسية، أي النظريات والتصورات السياسية، التي تدعم إيديولوجيا المصالح والطموحات والأهداف لدى هذه الطبقة الاجتماعية أو تلك.

    الإيديولوجيا السياسية، هي نظام أفكار طبقة معينة، تعبر عن مواقف هذه الطبقة تجاه طبقات أخرى، ومن تم كذلك، تصوراتها للصراع الطبقي وللثورة، وللنظام الاجتماعي والسياسي، وافكارها حول العلاقات بين الأمم والدول وحول قضايا الحرب والسلم.

    تجد الإيديولوجيا السياسية تعبيرها في دساتير الدول وبرامج وشعارات الأحزاب والمنظمات السياسية الأخرى.

    هناك إيديولوجيتان أساسيتان، متعارضتان بشكل صدامي وعدائي: الماركسية ـــ اللينينية المعبرة عن مصالح الطبقة العاملة وعموم الكادحين، والإيديولوجيا السياسية للبورجوازية المعبرة عن مصالح المستغلين (كسر الغين).

    إن الإيديولوجيا السياسية للماركسية ــــ اللينينية لها طابع علمي وثوري متسق.

    في المجتمع، توجد كذلك الإيديولوجيا السياسية للبورجوازية الصغيرة، التي تعكس المصالح، والمواقف السياسية للبورجوازية الصغيرة وللفلاحين والحرفيين، هذه الإيديولوجيا تعكس الوضع الغامض لهذه الفئات الاجتماعية، التي هي من جهة، مناهضة للاستغلال، وتعبر عن اتجاهات ثورية وديموقراطية، ومن جهة أخرى تطمح إلى الملكية الخاصة وذات اتجاه مستمر نحو تقديم التنازلات للرجعية.

    إن أحد أسس الإيديولوجيا السياسية الماركسية ــــ اللينينية، هو مبدأ الأممية البروليتارية، ويقوم على الاعتراف بالمساواة بين مختلف الأمم، وبسيادة واستقلال وطني للشعوب.

    ب – الإيديولوجيا القانونية:

    إن الإيديولوجيا القانونية، أو الوعي القانوني، مرتبط بشكل حميمي بالسياسة، إن هذا الارتباط مشروط بعاملين:

    أولا، القواعد القانونية تعكس مباشرة علاقات الإنتاج السائدة، وكما السياسة، فالإيديولوجيا القانونية مرتبطة أشد الارتباط بالبنية الاقتصادية للمجتمع، وذلك أكثر من الأشكال الإيديولوجية الأخرى.

    ثانيا، قواعد القانون يتم بناؤها تحت التأثير الحاسم لسياسة الطبقة السائدة، فالمصالح الأساسية لهذه الأخيرة تجد تعبيرها تحت شكل نظام محدد من المبادئ والقوانين، مدعمة من طرف سلطة الدولة وملزمة للجميع، وفي "البيان الشيوعي" حدد ماركس وانجلز القانون، باعتباره إرادة الطبقة السائدة المحولة إلى قانون.

    إن القانون هو نظام قواعد ملزمة لسلوك الناس في المجتمع يتم تثبيتها في القوانين وتعتمد على القوة الزجرية للدولة.

    أما الإيديولوجيا القانونية، فهي تشكل مجموع التصورات التي تعبر عن موقف طبقة اجتماعية تجاه قانون محدد أو تشريع، وكذلك، مواقفها حول ما هو شرعي، ما هو ملزم وما هو غير ملزم.

    إن الوعي القانوني يعكس العلاقات الاقتصادية للمجتمع في شكل مفاهيم قانونية محددة، وتصورات حول واجبات أعضاء المجتمع، وكذلك قوانين وشرعية، وبالإضافة إلى أنها تعكس العلاقات الاقتصادية، فهي تعكس العلاقات السياسية والعائلية.

    تقدم الإيديولوجيا القانونية طابعا معياريا منظما لسلوك الناس في المجتمع، ومقولاتها الأساسية هي الحقوق والواجبات، القانون والشرعية، العدالة وجهاز العدالة، المخالفات والعقوبات.

    إن نظريات القانون، كما هو الحال بالنسبة للنظريات السياسية، لها طابع طبقي متميز، ففي مجتمع تصادمي، فالتصورات القانونية لطبقة في السلطة، تبرر شرعية العلاقات الاجتماعية، القائمة على نوع من الملكية المحددة. ففي المجتمع الرأسمالي، فإن القانون يدافع عن مصالح الملكية الخاصة الرأسمالية، والديموقراطية في هذا المجتمع لا تتجاوز حدود مساواة شكلية أمام القانون، إنه أحد أشكال دكتاتورية البورجوازية.

     ج – الأخلاق:

    ما يميز الأخلاق بشكل خاص، باعتبارها شكلا إيديولوجيا، هو كونها تعكس تلك المظاهر من الوجود الاجتماعي، التي تمس العلاقات بين الناس، علاقة الفرد بطبقته، وبباقي الطبقات، وبالجماعة ومجموع المجتمع.

    إن الأخلاق، باعتبارها شكلا من الوعي الاجتماعي، تمثل مجموعة من القواعد والمعايير لسلوك الناس، مشتركة بالنسبة لطبقة اجتماعية محددة، أو لكل المجتمع، لها أصل تاريخي، وتتعرض لتغييرات مستمرة.

    وتعتمد الأخلاق، لتقدير سلوك الناس، على مقولات الشر والخير، العدل والظلم، الشرف والرذيلة، الوعي، الواجب ... وتشترك الأخلاق في نقط مشتركة مع القانون، فكلاهما ينظم سلوك الناس في المجتمع، لكن على خلاف معايير القانون، التي تفرضها سلطة الدولة، فالأخلاق تعتمد على قوة الرأي العام والاقتناع الداخلي، وعلى العادات والتربية.

    وإذا كان القانون هو إرادة الطبقة السائدة، أي إرادة تم تحويلها إلى قانون، فالأخلاق هي إرادة الطبقة التي أصبحت رأيا عاما.

    قبل الماركسية، لم تكن هناك أي نظرية علمية حول أصل وجوهر الأخلاق. إن الماركسية هي أول من بين المصدر الحقيقي وطابعها الطبقي والتاريخي، ومكانتها ودورها في تطور المجتمع. لقد حطمت الماركسية كل النظريات، التي ترى أن أصل الأخلاق في التوجيهات الإلهية أو في الفكرة المطلقة، أو في الطبيعة الخالدة للإنسان. لقد بينت الماركسية علميا، أن مصدر التصورات الأخلاقية هو المجتمع الإنساني، الذي يتشكل أساسا من العلاقات الاقتصادية، يقول انجلز:

    "كل نظرية لأخلاق الماضي، هي في آخر التحليل نتاج وضع اقتصادي لمجتمع في زمانه"

    (أنتي دوهرينغ).

    أمثلة: في المجتمع العبودي، فإن الأخلاق، هي أخلاق مالكي العبيد، وفي المجتمع الإقطاعي، فهي أخلاق الإقطاعيين، وفي المجتمع البورجوازي، فهي أخلاق الرأسماليين. وفي مقابل هاته الأخلاق، تنشأ المعايير والمبادئ الأخلاقية للعبيد والأقنان والبروليتاريين. فالأخلاق البورجوازية تكرس الملكية الخاصة والاستغلال، ومبادئها فردانية بشكل أساسي (الإنسان هو ذئب لأخيه الإنسان) وهذا هو جوهر نشاط وأخلاق الرأسماليين. أما بالنسبة للبروليتاريا، فهناك الأخلاق الشيوعية، ويقول لينين:

    "إن أخلاقنا تقوم على منطق مصالح النضال الطبقي للبروليتاريا".

     ← بدورها التاريخي، فالبروليتاريا مطالبة بتجديد الإنسانية على المستوى الأخلاقي، عن طريق بناء مبادئ جديدة للحياة، قائمة على التعاون والمساعدة، وإرجاع ثمرات العمل إلى الإنسان، وفرحة الإبداع، وحرية تطوير المواهب والنضال ضد الاضطهاد والأخوة بين الشعوب ...

    إن الأخلاق الشيوعية تتطلب التطبيق المتسق للمبادئ الجماعية، والتعاون الأخوي والصداقة، والأخوة بين الشعوب، وعدم التسامح، مع من يخرق مصالح المجتمع، ومع اعداء الاشتراكية والشيوعية، وقضية السلم وحرية الشعوب.

    د – الدين:

    ككل أشكال الوعي الاجتماعي، فالدين هو انعكاس للوجود الاجتماعي، لكن ما يميزه بشك خاص، هو أنه يقدم انعكاسا خياليا وهميا مشوها للواقع، انعكاس، الذي، في سياقه، كما يقول انجلز:

    "القوى الأرضية تأخذ شكل ما فوق أرضية" (أنتي دوهرينغ).

    الدين هو مجموعة محددة من الأفكار مشوهة للواقع، أي نظام من الأساطير الدينية، وباعتباره شكلا خاصا من أشكال الوعي الاجتماعي، يقوم الدين بوظيفة اجتماعية خاصة.

    إن القولة المأثورة لماركس: "الدين أفيون الشعوب"، تعتبر من طرف لينين، كحجر الزاوية لكل مواقف الماركسية من المسألة الدينية.

    فبادعائه السلطة الوحيدة المؤهلة لحل المشاكل الفلسفية والأخلاقية، فالدين يتيه المؤمنين، ويترجم بشكل مغلوط مصالحهم وحاجياتهم الحيوية، فدوغما القدرية تعرقل نشاطهم وتربطهم بمثل وأهداف وهمية.

    وبخلاف الفكر المثالي، الذي يدعي أن الدين أبدي، بينت الماركسية، على أنه ظاهرة تاريخية، وكشكل من أشكال الوعي الاجتماعي، يتوفر الدين على استقلالية نسبية لا بأس بها، بما يفسر طابعه المحافظ، الذي يجعل المعتقدات والأساطير الدينية تستمر في البقاء، حتى بعد انتهاء الظروف الاجتماعية التي ولدتها، ومع ذلك، فالدين يخضع بدوره لقوانين التاريخ، فما يسمى الديانات العالمية الكبرى كاليهودية والمسيحية والبوذية والإسلام، هي نتاج ظروف تاريخية محددة، وتتغير بارتباط مع تطور العلاقات الاجتماعية.

    الدين في جوهره ضد العلم، فهو يستعمل تصورات، مثل الوحي الإلاهي، ويقدم تفسيرا مشوها للظواهر الطبيعية والاجتماعية، لذلك عرف التاريخ صراعا مستمرا بين العلم والدين، فالكنيسة مثلا، وخلال قرون، حاولت خنق العلم واضطهاد العلماء ومنع نشر الأفكار التقدمية، وإحراق الكتب، ورمي العلماء في السجون وإحراقهم ... وتحاول المسيحية اليوم مثلا، نشر فكرة الانسجام بين الإيمان والعقل، بين الدين والعلم، ومحاولات المصالحة بين الدين والعلم، هدفها الرجوع إلى الوراء بالمعرفة العلمية، واكتساب فضاءات جديدة للإيمان، وإخضاع مكتسبات العلم الحديث للإيمان.

    إن القضاء على الدين يمر بالضرورة عبر تصفية العلاقات الاجتماعية الاستغلالية، التي هي مصدر الإيمان بوجود قوى ما فوق الطبيعة.

    يقول لينين:

    "إن وحدة هذا النضال الثوري حقا للطبقة المضطهدة، المكافحة من أجل خلق جنة على الأرض، يهمنا أكثر من وحدة الرأي للبروليتاريين حول الجنة في السماء"، (لينين، المجلد العاشر).

    إن النضال ضد الدين، ليس هدفا في حد ذاته، بل يجب ربطه بالمهمة الرئيسية، وهي النضال من أجل الديموقراطية والاشتراكية، ويجب أن تبقى دائما، مصالح النضال السياسي في المقدمة، لأنه من الانتصارات في هذا النضال ضد الامبريالية، يرتبط بشكل نهائي، تحرر العمال تجاه الأحكام الدينية المسبقة.

    يوم 23 يناير 1918 أصدر لينين مرسوما حول الفصل بين الكنيسة والدولة، والمدرسة والكنيسة، وقد منع هذا المرسوم كل حد من حريات الوعي، كما وضع المساواة بين مختلف الديانات، وكذلك حق المواطنين في عدم الانتماء إلى أي ديانة، بل واختيار الإلحاد، وضمن المرسوم حرية ممارسة الشعائر الدينية، شرط ألا تقوم بالمس بالأمن العام، وألا تمس بالحقوق وبصحة المواطنين، لقد أصبحت المدرسة لائكية، وتحررت من كل تأثير من طرف الكنيسة.

    ه – الفن:

    يتميز الفن، كشكل من أشكال الوعي الاجتماعي، بموضوعه، وبطريقة عكسه للواقع، إن ميزة الفن الخاصة، هي اهتمامه بالإنسان الاجتماعي، وبمستقبله، وبالطابع والعلاقات مع الواقع وعالمه الفكري، وأفعاله وأفكاره وعواطفه. إن أصالة الفن تتجلى في إعطائه انعكاسا مصورا للواقع وليس انعكاسا علميا ومنطقيا، بينما العلم والفلسفة، يمثلان ظواهر الطبيعة والمجتمع، بواسطة مقولات منطقية ومفاهيم مجردة، أما الفن فيقدم ذلك عبر الصور الأدبية أو المسرحية أو الموسيقية، في شكل حسي ملموس، تكشف لنا جوهر الواقع، ومضمون العلاقات الاجتماعية وحقيقة الحياة.

    إن الصور التي يخلقها الفن هي فردية وملموسة، لكنها تكشف الميزات العامة لمجموعة من الظواهر، تقوم بتعميم الواقع تحت شكل فني، مظهرة ما هو عام، عبر الملموس الحي الخاص، مثلا النماذج التي تقدمها شخصيات الأدب الروائي عند نجيب محفوظ، أو كذلك شخصية بافيل في رواية غوركي "الأم" التي تعكس الخطوط النمطية للبروليتاريا الثورية الروسية.

    إن الوظيفة الاجتماعية للفن، هي قبل كل شيء، تأثيرها على حياة المجتمع، عن طريق القيمة التربوية، كما يقول تشيرنيشيفسكي: "الفن دفتر الحياة" (ملخص حياة). إن القوة الإيديولوجية والتربوية هنا، تكمن في التأثير العاطفي على الوعي الإنساني.

    يحاول التصور المثالي فصل الفن عن الواقع الاجتماعي، الذي يغرس فيه جدوره، معتبرا الإبداعات تعبيرا عن فكرة خالدة أو مطلقة للجمال، أو للأنا الفردية، بعيدا عن الظروف الاجتماعية، فحسب هذه النظرة، ليس هناك فن حقيقي إلا في الفن من أجل الفن، وخلافا لهذه النظرة، فتاريخ الفن يشهد على أن تطوره مرتبط أشد الارتباط بالحياة الاجتماعية، وأنه انعكاس للظروف والحياة الاجتماعية.

    ولكونه، أي الفن، أبعد عن القاعدة الاقتصادية للمجتمع، مقارنة بأشكال الوعي الاجتماعي الأخرى، فإنه يتميز بدور خاص مرتبط بعوامل مثل التقاليد الفنية وحالة الحياة السياسية والفكرية للمجتمع، ويقدم لنا التاريخ أمثلة عن دول متخلفة اقتصاديا استطاع فيها الفن أن يعرف تفتحا كبيرا خلافا لدول متقدمة اقتصاديا، حيث يعاني من الجمود، مما يعني أن الفن في المجتمعات الطبقية يعكس بشكل مباشر، ليس مستوى تطور الإنتاج، بل مجموع الظروف الاجتماعية وتطور الصراع الطبقي.

    الفن الحقيقي هو دائما فن شعبي، ذلك أن الأعمال الكبرى في الأدب والموسيقى والفنون الجميلة ارتبطت بطموحات الشعب.

    يقول مكسيم غوركي:

    "ليس الشعب فقط، القوة التي تخلق القيم المادية، بل هو كذلك المصدر الوحيد الذي لا ينضب للقيم الروحية، إنه الفيلسوف الأول، والشاعر الأول في الزمان، والأول من أجل الجمال وعبقرية العمل، فهو الذي خلق كل القصائد الكبرى، وكل تراجيديات الأرض وأكبرها جميعا تاريخ الثقافة العالمية" (مكسيم غوركي، المجلد 24).

    لقد عكس كتاب مرموقون في الأدب العالمي، مثل بوشكين وغوغول وستاندال وهوغو وديكنز وتولستوي ... في أعمالهم، وأحيانا دون أن يدركوا ذلك، عواطف الحالة الوجدانية وآمال الفئات الدنيا للمجتمع. لقد استعار الفنانون الكبار الذين كانوا في الماضي من كنوز الإبداع الشعبي، واستلهموا المشاريع والأفكار وإيمان قوى الخير بالانتصار، وكل هذه الأشياء مرتبطة بالجماهير الشعبية.

    في المجتمع الطبقي، فالفن، الذي هو شكل من أشكال الإيديولوجيا، له طابع طبقي، وفي نفس الوقت، يحافظ على مجموعة من المميزات الإنسانية الكونية. وسواء وعى الكتاب أو الفنانون ذلك، أو لم يعوه، فهم دائما يعبرون عن مصالح هذه الطبقة أو تلك، وعن تصور للعالم، وعن آرائهم، وعن موقفهم تجاه الواقع، وكما قال غوركي، فالأديب هو عيون وآذان وصوت طبقة. ففي مجتمع طبقي، لا يمكن للفن أن يكون مستقلا عن السياسة، ولا يمكن أن يكون خارج نظام العلاقات الطبقية.

    علي محمود

    27 دجنبر 2017