Ok

En poursuivant votre navigation sur ce site, vous acceptez l'utilisation de cookies. Ces derniers assurent le bon fonctionnement de nos services. En savoir plus.

الشرارة - Page 73

  • ماركس الإنسان، ماركس عقل العالم ـــ الحلقة الثانية

     

     الهجرة نحو فرنسا والمنعطف الفكري – الإيديولوجي  لماركس

    في خريف السنة التي غادر فيها عمله في "الجريدة الرينانية"، نحن هنا في سنة 1844، غادر ماركس إلى فرنسا قاصدا باريس ليواصل شغفه ونشاطه الصحفي، فأصدر هناك مجلة راديكالية، لكن لم يصدر من هذه المجلة المسماة "الحوليات  الفرنسية - الألمانية " سوى العدد الاول، لأن الصعوبات الناجمة عن توزيعها في ألمانيا سرا اضطرتها إلى التوقف، وأيضا بسبب الخلافات مع أرلوند روجي، الذي كان هيجليا يساريا وأصبح من أنصار بسمارك، ومن خلال المقالات الصادرة في هذه الجريدة، تم الإعلان عن ماركس الثوري الذي كان يتوجه بالنقد لكل ما هو قائم بدون هوادة.

    كان قرار ماركس الهجرة إلى فرنسا نابعا من كون الواقع الألماني لا يسعفه، ورأى أنه في فرنسا يستطيع أن يسهم بنصيب مبتكر في القضايا المثيرة التي كانت منتشرة في ذلك العهد، يقول ماركس مبررا هذا الانتقال:

    "إن ألمانيا لم يعد فيها ما أستطيع أن أفعله، إن المرء لا يستطيع بها إلا أن يكون غير آمن على نفسه".

    وكان ماركس قد سبقته شهرته إلى فرنسا، ففي ذلك الوقت، كان قد عرف عنه أنه صحفي متحرر ذو قلم حاد، أرغم على مغادرة ألمانيا لأنه دعا بعنف إلى الإصلاح الديموقراطي. عاما بعد ذلك أصبح معروفا لدى الشرطة في دول كثيرة بأنه شيوعي ثوري لا يقبل مساومة، لقد كانت سنوات 1843" – 1845 أكثر سنين ماركس خطورة وأبعدها أثرا، ففي باريس مر بمرحلة تكوينه الفكري النهائي، وفي نهايتها كان قد بلغ مكانا شخصيا وسياسيا واضحا، وقد كرس بقية حياته لتنميته وتحقيقه عمليا، ففرنسا هي ملاذ المنفيين و الثوريين من بلدان عديدة، لكن ماركس لم يستشعر ذلك الإحساس بالتحرر في باريس، الذي استشعره معاصروه، اللذين أعلن بعضهم في ألفاظ ساحرة أنهم قد وجدوا في باريس كل ما هو جميل يدعو إلى الإعجاب بالمدنية الأوروبية كلها، هذا الانبهار لدى معاصريه لم يكن حاضرا عند ماركس، فهو اختار باريس دون غيرها لسبب عملي محدد، هو أنها بدت له أكثر الأماكن ملائمة لإصدار مجلته "الحوليات الفرنسية – الألمانية.

    كان ماركس منذ أيام دراسته يقضي معظم أوقات فراغه في القراءة، لكن إقباله على القراءة  في باريس تجاوز كل الحدود، فقد كان يقرأ ليلا ونهارا، كما كان يفعل أيام اعتناقه الهيجلية في سرعة محمومة، وما أن انتهت سنة 1848 حتى كان قد تعرف على المذاهب السياسية  والاقتصادية لكبار المفكرين الفرنسيين والانجليز، وبدأ تأثير الكتاب الاشتراكيين  الفرنسيين والكتاب الاقتصاديين الانجليز يبدد ضباب الهيجلية، الذي أحاط به من كل جانب، وعقد ماركس مقارنة بين الحالة العامة في فرنسا وبين الحالة في بلاده، فأثر فيه كل الأثر ما لاحظه في الأولى من مستوى أعلى بكثير في نواحي الذكاء والقدرة على التفكير السياسي، ويرى أن الألمان هم اكثر الشعوب الغربية تخلفا.

    1844 أهم منعطف في حياة ماركس : الالتقاء بفردريك انجلز

    في باريس سيظهر أشهر رفيقين في التاريخ، كارل ماركس وفردريك انجلز، فقد أضحى النطق بكلمة ماركس دون ان تكون مصحوبة بكلمة انجلز أمرا مستحيلا، فقد ارتبط الاسمان ارتباطا أبديا، لقد شكلا ثنائيا لم تنفصم عراه إلى أن فرق الموت بينهما، فما هي ظروف نشأة هذه العلاقة بين الرجلين وما هو  المسار الذي أخذه ذلك اللقاء وتلك الصدفة الجميلة التي سيكون لها ما بعدها ؟

    في سنة 1844 ، سيحصل أهم منعطف في حياة ماركس عندما سيلتقي من سيصبح رفيقه حتى الممات وهو فردريك انجلز، ففي هذه السنة حل هذا الأخير بباريس، آتيا إليها من ألمانيا ليقضي بعض الوقت فيها، وهنا سيلتقي ماركس، وسيشكلان أشهر ثنائي في التاريخ، كانت بدايتهما، منذ هذا اللقاء في باريس، عندما أسهما كلاهما بالحماس الشديد في الحياة المحمومة للجماعات الثورية التي كانت آنذاك في باريس، وكانت هنا في باريس الشهرة لمذهب برودون، الذي سدد له ماركس الضربة القاضية في كتابه "بؤس الفلسفة" الذي صدر سنة 1847، ردا على فلسفة البؤس التي تمثلها البرودونية كمذهب اشتراكي بورجوازي صغير .

    خاض كارل ماركس وفردريك انجلز هنا في فرنسا نضالا بالغ الحدة ضد مختلف نظريات الاشتراكية البورجوازية الصغيرة وصاغا نظرية وتكتيك الاشتراكية البروليتارية الثورية، أي الشيوعية .

    يصف انجلز لقاءه بماركس قائلا :

    "عندما زرت ماركس في باريس إبان صيف 1844، ظهر على أننا على اتفاق تام في كل الميادين النظرية، وبدأ منذ ذلك اللحظة تعاوننا، فماركس لم يكن قد وصل فقط إلى رأيي ذاته، بل كان عميقا في "الحوليات الفرانكو – ألمانية" وفحواه أنه ليست الدولة في المحصلة هي التي تحدد سير المجتمع البورجوازي، إنما المجتمع البورجوازي هو الذي يحدد الدولة ويسيرها، فمن الواجب إذن تفسير السياسة وتاريخها انطلاقا من الظروف الاقتصادية وتطورها وليس العكس".

    عندما التقى ماركس انجلز ظلا لعشرة أيام و عشرة ليالي يتكلمان، وفي نهاية المطاف وجدا نفسيهما يتفقان على كل شيء، كان كارل ماركس وفردريك انجلز المناضلان الثوريان الأمميان اللذين جمعهما درب النضال الاشتراكي الثوري، فتخندقا في الصفوف الأولى للنضال البروليتاري، وانصهرت في خضمه أواصر الصداقة والتضامن التي جمعتهما إلى الأبد، ولا استغراب في ذلك، فقد كانت قائمة على المبادئ الثورية الصارمة، وعلى الروح النقدية الرفاقية المتفتحة .

    في الأصل لم يكن ماركس يرتبط بالصداقة إلا مع قليلين، لكن صداقته مع انجلز كانت تغنيه عن كل الصداقات لأنها صداقة لا مثيل لها ، كانت هذه الصداقة من العمق الكبير جدا كان أساسها الثقة والحب، حتى بلغت أنه في كل ما كان يكتبه ماركس، كان دائما يطلب رأي انجلز فيه، كما بلغ من عظمة انجلز أن هذا الأخير كثيرا ما كان يقوم بعمل وينسبه لماركس، والعكس صحيح، فلم يكن يضر الرجلين أن ينسب إنجاز أحدهما للآخر، لقد كان يشتركان في نفس التفكير و في نفس النضال، وهذا هو المهم بالنسبة للرجلين .

    كان الشابان متشابهان ويكمل أحدهما الآخر، فكلاهما في حاجة إلى الكتابة، إلى هدف، إلى خصم يسمح لهما في ثنايا جملة ما بإحراز مراكز نظرية متقدمة، وكلاهما بحاجة إلى الاعتماد على وقائع، فهما صحفيان ثوريان بكل جوارحهما، لكنهما في نفس الوقت مختلفان بشكل ملحوظ، إذ أن الأول فقير، يميل إلى النظري، ارتبط بالأب أكثر من الأم، والآخر غني ذو فكر عملي، شديد الارتباط بأمه يكره الأب، الأول دكتور فلسفة والثاني أوقف دراسته مكرها قبل الدخول إلى الجامعة، الأول متزوج و الآخر لا يحرص على تكوين أسرة، لكن الاثنان لن يفترقا منذئذ لا في الحياة ولا في التفكير ولا في العمل.

    ويقول بول لا فارغ عن علاقتهما:

    "لقد حقق ماركس وانجلز مثال الصداقة الأعلى الذي وصفه شعراء العصور القديمة، وكان لهم أيضا أعداء مشتركين كثيرون" .

    كان بؤس ماركس وفقره وإملاقه يفوق كل وصف، فالرجل رب أسرة وعليه أن يعيلها، ولم يكن له عمل يتعيش منه، ولا أي مورد يعتمده، فإلى جانب أنه كان مضطهدا في أي بلد يحل به، لم يتمكن من الحصول على عمل، فإن مختلف الأمراض التي حاصرت جسمه كانت تقعده وتتسبب في عجزه عن القيام بأي عمل، لقد كان القشة الوحيدة التي يتعلق بها ماركس هي صديقه ورفيقه انجلز، فقد كان المنقذ الوحيد لماركس ، لقد ظل طيلة حياته إلى أن مات مدينا لانجلز بكل شيء له علاقة بالمال، ولم يكن أبدا مشتكيا أو متبرما، لأن القضية العظيمة التي يحمل همها تستحق كل التضحيات، لقد كان انجلز صندوق المال ذلك، الذي لا يبخل عن تلبية الحاجات المادية  لماركس، لقد كان انجلز رفيقه وصديق عمره الوحيد الذي يحس بإملاقه، وقد كرس كل ثروة أبيه في خدمة القضية العادلة، قضية تحرير البروليتاريا، فلم يكن يبخل على رفيقه بما توفر له من مال، من أجل أن يستمر الرجل في إنجاز الأعمال العظيمة التي نذر لها، ولم تنذر لغيره، ومشاركته فيها بالنقطة والفاصلة، حتى أنه يمكن القول أنه لولا وجود انجلز في حياة ماركس لما تمكن الرجل من إنجاز ما تم إنجازه من الأعمال العظيمة.

    عندما كان كارل ماركس ينجز كتابه العظيم "الرأسمال"، كان الرجل في قمة البؤس، ولولا المساعدة المالية الدائمة المخلصة التي كان يقدمها له انجلز، لما تمكن من إنجاز هذا الكتاب، بل لولا هذه المساعدة لمات ماركس. لقد تم بشكل مستمر انتشال ماركس من الأوضاع البائسة التي كان يعيشها من قبل رفيقه المخلص فردريك انجلز.

    في ظروف شديدة البؤس، فقد ماركس نصف عدد أبنائه، ومن شدة تأثره من بؤس صديقه، يقدم انجلز على القيام بتضحية كبيرة، إذ يتخلى عن العيش في لندن  ويذهب إلى مانشستير للعمل في مصنع أبيه، لقد اضطره عوز ماركس إلى تقلد وظيفة رب المعمل التي يمقتها أشد مقت، ويفيد ماركس بجزء من راتبه ومن تحويلات مالية، وليس تمة مثال آخر في تاريخ الأفكار والمفكرين على تضحية كهذه، ولن يعيد انجلز النظر فيها أبدا حتى وإن كلفته الكثير. عندما فقد ماركس إحدى طفلاته، وفي رسالة تعزية إلى ماركس، عبر انجلز عن ألمه لفاقة أسرة ماركس، وللظروف الصحية المؤسفة التي أفضت إلى موت الطفلة، متأسفا لعدم قدرته على فعل المزيد لهم.

    وقد كان أعداء الرجلين كثر، وكان انجلز الرجل الذي جعل منه الأعداء مجرد ممول لماركس.

    كان لماركس دائما إحساس باللوم للإرهاق المادي الذي يسببه لانجلز ، وفي إحدى الرسائل المتبادلة بين الرفيقين (غشت 1862)، يقول ماركس:

    "عزيزي فردريك : شكرا على الجنيهات الاسترلينية العشرة، إنه لينتابني شعور كبير بالانزعاج لأنك مرتبك في شؤونك المالية بسببي، لكن ما العمل؟"

    كان انجلز تلك الطينة من البشر التي لا  مثيل لها في التاريخ، فقد بلغ التواضع بالرجل حدا خرافيا، فكثير من الأعمال كان انجلز من يقوم بها، ولم يضره في شيء ان ينسبها لماركس، وقد عد انجلز أيضا مرجعا أساسيا بالنسبة لماركس، فقد كان دائما في كل ما يكتبه يطلب رأي انجلز فيه.

    عندما انتقل ماركس للعيش في لندن لم يكونا دائما متواجدين في نفس المكان، بل إن تباعدهما المكاني كان الأغلب، لذلك فإن هذا الغياب ملأته الرسائل المتبادلة بين الرفيقين، حين كان كل طرف يطلع الآخر على كل المستجدات التي يعرفانها، وكل ما كتبه ماركس، وخاصة كتابه "الرأسمال" تبادل فيه ماركس الرأي مع انجلز، ويطلب مشورته، كما يطلب منه التصحيحات والتعديلات، ولم ينهكه من الكتب أكثر مما أنهكه تأليف كتاب "الرأسمال"، الذي أخذ عمرا طويلا من ماركس، وكثيرا ما كان يقعده المرض فيتباطأ ماركس في العمل أو يتوقف، فيجد انجلز حاثا إياه وضاغطا عليه من أجل الإسراع في إنجاز الكتاب.

    لقد قدمت هذه الصداقة للتاريخ مناضلان ثوريان أمميان،  جمعهما درب النضال الاشتراكي الثوري، فتخندقا في الصفوف الأولى للنضال البروليتاري، وانصهرت في خضمه أواصر الصداقة والتضامن، التي جمعتهما إلى الأبد، ولا غرو في ذلك، فقد كانت قائمة على المبادئ الثورية الأممية الصارمة، وعلى الروح النقدية الثورية الرفاقية المتفتحة.

    جميلة صابر