لينين، لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية"ـ"
أهمية سلاح النظرية في بناء الحزب البلشفي وقيادة الثورة الاشتراكية العظمى في روسيا
ــــــ سلسلة ملخصات ومقالات حول أهم النصوص اللينينية التي ساهمت في بناء الحزب الاشتراكي الديموقراطي العمالي البلشفي الروسي ـــــ
المرحلة الأولى:1900-1912
تقديم:
بدأ لينين الاشتغال على كتابه الفلسفي "المادية والمذهب النقدي التجريبي" في فبراير 1908. وقد كتب لينين رسالة إلى صديقه مكسيم غوركي يتحدث فيها عن المرحلة التي كان فيها يشتغل على كتابه هذا، يقول لينين:
"لقد أهملت الجريدة بسبب إدماني الفلسفي ..." "... أقرأ طيلة النهار هؤلاء الماخيين الملعونين ..." المجلد 34 لينين.
لم يشتغل لينين فقط في جنيف من أجل إنجاز كتابه "المادية والمذهب النقدي التجريبي"، ففي ماي 1908 توجه خصيصا إلى انجلترا من أجل دراسة وثائق مكتبة المتحف البريطاني في لندن. وقد استعمل لينين لتحقيق هدفه أكثر من 200 مجلد، ومقالات كثيرة، بما فيها كتب بالإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية وذلك في مواضيع الفلسفة والعلوم الطبيعية، وخاصة الفيزياء. وأعاد لينين من جديد دراسة الكتب الفلسفية لماركس وانجلس وكبار الفلاسفة المعاصرين.
في صيف 1908 كتب لينين إلى أخته يقول: "لقد اشتغلت كثيرا على الماخيين، وأظن أنني قمت بتحليل كل تفاهاتهم المدانة ..." لينين، الطبعة الخامسة الروسية المجلد 55 ص، 252.
في نونبر 1908 أرسل لينين مخطوطة الكتاب إلى روسيا، وبالضبط إلى صديق لعائلة أوليانوف، وهو الطبيب ف. ليفيتسكي، وبفضل مجهودات أخته أوليانوفا وكذلك إليزاروفا تم إيجاد ناشر للكتاب. هكذا طبع الكتاب وصدر في 2000 نسخة، وذلك في موسكو سنة 1909.
إن كتاب "المادية والمذهب النقدي التجريبي" هو أهم عمل فلسفي أصدره لينين، وقد لعب دورا حاسما وبارزا في المعركة الإيديولوجية للبلاشفة، حيث قدم الحجة النظرية لمبادئ الحزب الثوري اللينيني في معركة بنائه وصيانة وحدته وتقوية أسسه.
إن المعركة التي خاضها لينين ضد منوعات التحريفية الفلسفية الماخية وغيرها شكلت لبنة أساسية على طريق بناء الحزب الاشتراكي الديموقراطي البلشفي، الذي تحقق خلال الندوة الوطنية التي انعقدت في براغ سنة 1912، ومن المعروف بأنه في هذه الندوة تم طرد المناشفة، وأصبح البلاشفة حزبا قائم الذات.
ويسر موقع الشرارة أن يقدم هنا ملخصا لهذا الكتاب الفلسفي العظيم، على أن تتلوه مجموعة من الحلقات تتطرق لأطروحاته المختلفة ولسياقاتها التاريخية.
موقع الشرارة
في 4 دجنبر2018
بصدد كتاب لينين:
"المادية والمذهب التجريبي النقدي"
المؤلف: لينين
ترجمة: الدكتور فؤاد أيوب
الطباعة والنشر: دار دمشق
باشر لينين تأليفه لكتاب "المادية والمذهب التجريبي النقدي" في فبراير عام 1908، حيث كان منفيا في جنيف، و لقد أصر على الإسراع في إخراجه، و تم ذلك سنة 1909 في موسكو، باعتبار أن ذلك لا تقتضيه اعتبارات أدبية فحسب، بل اعتبارات سياسية خطيرة أيضا نظرا لما قام به عدد من المؤلفين أدعياء الماركسية من حملة حقيقية ضد الفلسفة الماركسية، حيث صدرت في أقل من ستة أشهر أربعة كتب، مكرسة بصورة رئيسية للهجوم على المادية الجدلية، وبالرغم من الاختلافات الحادة في آرائهم السياسية، مثال بوغدانوف1 في مؤلفه "التجريبية الأحادية"و برمان الذي يقول أن جدلية فردريك انجلز عبارة عن "صوفية"، بينما ادعى بازروف قائلا، لقد عتقت آراء انجلز، وذلك تحت غطاء "النظرية المعاصرة في المعرفة" و فلسفة العلوم الطبيعية المعاصرة"، ولقد كانت تلك طريقة بالغة الخطورة يقول لينين، إذ كان يمكن أن تضلل عددا من المناضلين الحزبيين في القاعدة. إنها تحريفية في أعلى مستوياتها، تعبر في محتواها عن صراع فكري ونظري في ميدان الفلسفة، بين اتجاهين أساسيين متناقضين بالضرورة، يمتد في التاريخ منذ أن تولد فيه الوعي عند الإنسان، كانعكاس لمستوى بالغ التطور في أعلى أشكال المادة في الطبيعة إلى الآن، وهو يشكل كذلك تعميما فلسفيا للنظرة المادية الجدلية لكل الأسئلة المطروحة آنذاك حول مفهوم المادة ونظرية تطور المعرفة البشرية، اعتمادا على علوم الطبيعة.
إن نظرة ارنست ماخ2 حول أن الأشياء والأجسام هي عبارة عن مركبات إحساسات لتشكل النقطة المركزية في مذهبه لكل القضايا المتعلقة بالمعرفة البشرية، والتي سيتطرق لها لينين بدقة و وضوح في الفصول الثلاثة الأولى، فيقول لينين أنها ليست سوى مثالية تصورية خالصة.
إن ما يؤكد عليه لينين أيضا في مسألة الفرق بين المادية والمثالية، خصوصا في بداية البحث، هو أن أية مجابهة فكرية مع ماخ و أتباعه من الروس يجب إحالتها و إرجاعها إلى فلسفة بيركلي، و يقصد بذلك القول، أن الماخية ما هي إلا اجترار لفلسفة بيركلي المثالية، التي لا يمكن أن تعتبر العالم بأسره سوى تصوره الخاص، و بالتالي لا يمكن أن نتصور بشرا آخرين فيما عدانا، هذا من جهة، و من جهة أخرى، يتضح الفرق أيضا، في كون أن المادية باتفاق تام مع علوم الطبيعة، تعتبر المادة بمثابة المعطى الأول، والشعور و الإحساس بمثابة المعطى الثاني، لأن الإحساس لا يرتبط في شكله الأوضح إلا بأشكال عليا للمادة، بينما يعتبر ماخ أن الإحساس بمثابة المعطى الأول، بالرغم من أنه لا يرتبط بغير عمليات معينة تحصل في قلب مادة منظمة على شكل معين.
إن الأساس المادي في الفرق الذي قدمه لينين في هذا المؤلف، ينبني على ما يقوله انجلز مؤسس الاشتراكية العلمية في المقولة التالية: إن المسألة الكبرى الأساسية لكل فلسفة، وبالأخص الفلسفة الحديثة، هي مسألة العلاقة بين الفكر والوجود، بين المادة والروح، أي من أين يستمد الفكر مبادئه الأولى في المعرفة، كما أن هناك جانب آخر لهذه الفلسفة، ألا وهو، ما هي العلاقة القائمة بين أفكارنا عن العالم المحيط بنا وهذا العالم نفسه؟ هل نستطيع في تصوراتنا وأفكارنا عن العالم الخارجي أن ننتج انعكاسا صحيحا عن الواقع؟ وتبعا لجواب كل واحد عن هذه المسألة، يقسم انجلز الفلاسفة إلى معسكرين كبيرين: معسكر مثالي ومعسكر مادي.
ولتوضيح وجه المقارنة بين بيركلي وماخ من جهة ولينين من جهة أخرى نقدم المثال التالي:
يقول بيركلي في مؤلفه الذي ظهر في عام 1710 بعنوان "بحث في مبادئ المعرفة البشرية" ما يلي: إني أدرك بواسطة اللمس، الرخو والصلب والحار والبارد، ويزودني الشم بالروائح، والذوق بالطعام، والسمع بالأصوات ... وكما كانت أفكار عديدة تشاهد مترافقة، فإننا نطلق عليها اسم تفاحة، وتؤلف مجموعة أخرى من الأفكار، الحجر والشجر ... وما شابه ذلك من الأشياء الملموسة ... ويضيف أيضا، أن الأفكار لا يمكن أن توجد خارج الذكاء الذي يدركها، أي أن وجود الشيء يعني أنه مدرك. كما أنه بالنسبة إليه، الموضوع والإحساس شيء واحد، ولا يمكن بالتالي أن يجرد الواحد عن الآخر. كما أنه لا يفترض علاقة السبب بالنتيجة، بل يفترض فقط الإشارة أو الرمز بالشيء المرموز إليه، أي من المفروغ منه أن الألوهية هي التي تعلمنا بواسطة هذه الرموز التجريبية.
وفي نفس الوقت يقول ماخ في كتابه "الميكانيك" عام 1883: ليست الإحساسات رموزا للأشياء، بل الشيء بالحري، هو رمز ذهني لمركب من الإحساسات ذي ثبات نسبي. فنستنتج بالنسبة لماخ أن الأشياء والأجسام هي عبارة عن مركبات إحساسات. فهو بذلك لا يعيد سوى تكرار ما قاله بيركلي، أي أنه يجابه وجهة نظره الفلسفية بالنظرية المعاكسة، القائلة بأن الإحساسات هي صور أو انعكاسات الأشياء في ذاتها، أي الخارجة عنا بشكل مستقل عن وجودنا وعن إحساساتنا، بدلا من أن يكون قد قدم لنا مفهوما جديدا للمادة، وأحدث بذلك "ثورة علمية" جديدة في الفلسفة كما يدعي ذلك أتباعه.
وخلاصة القول، يؤكد لينين باتفاق مع علوم الطبيعة، أن المادة تثير الإحساس بتأثيرها في أعضاء حواسنا، ويرتبط الإحساس بالدماغ والأعصاب والشبكية ...يعني بالمادة المنظمة تنظيما معينا، ولا يرتبط وجود المادة بالإحساس، وبالتالي فإن إحساسنا، شعورنا هو مجرد صورة للعالم الخارجي، ومن الواضح أن الصورة لا توجد بدون الشيء المتصور، وأن هذا الأخير يوجد بصورة مستقلة عن ذلك الذي يتصوره، عكس ما عبر عنه أفيناريوس3 من خلال نظرية التوافق المبدئي غير القابل للانحلال بين الذات واللا ذات (البيئة، الموضوع) حيث يقول:
إن الذات واللا ذات نجدهما دائما مجتمعين، ولا يمكن لأي وصف كامل لما نعثر عليه أن يحتوي على بيئة بدون ذات ما تعتبر هذه البيئة خاصة بها، على الرغم من أن الذات وحدها التي تصف ما يعثر عليه، وهذا ما يؤكد عليه بيركلي في قوله "إن العالم هو إحساسي"، أي أن ما يريد أن يفسره أفيناريوس، أن اللا ذات تنتج وتخلق من قبل الذات، يعني أن الشيء مرتبط بالشعور بصورة غير قابلة للانحلال.
حسنا، إذا كانت نظرية العالم الخارجي المستقل عن ذاتنا باطلة، وأن نظرية التوافق المبدئي غير القابل للانحلال هي الصحيحة، فبماذا يمكننا أن نجيب عن سؤال: هل وجدت الطبيعة قبل الإنسان؟
يقول لينين أن المادية باتفاق مع نظرية تطور العلوم تؤكد بأن المادية العضوية ظاهرة متأخرة، ثمرة تطور طويل، حيث لم يكن في تلك العصور مادة مزودة بالإحساسات ولا مركبات إحساسات، ولا ذات من أي نوع كان يفترض أنها مرتبطة بصورة غير قابلة للانحلال بالبيئة وفقا لمذهب أفيناريوس.
إن المادة أولية، بينما الفكر، الشعور والإحساسات منتجات لتطور عالي جدا، تلك هي النظرية المادية للمعرفة. وفي محاولة فاشلة من أفيناريوس لإزالة التناقض مع علوم الطبيعة، يطرح نظرية "الانضمام الذهني" بحيث يقول:"... يمكن أن نعتقد بأنه من وجهة نظر التجريبية النقدية بالضبط، ليس لعلوم الطبيعة الحق في الاستقصاء عن حقب لبيئتنا الحالية سبقت في الزمان وجود الإنسان، لأنه ... بالنسبة لكل من يطرح هذه المسألة لا يمكن أن يتجنب الانضمام الذهني، يعني أن يتخيل نفسه حاضرا.
ويسترسل أفيناريوس قائلا، أن ما يبحث عنه العالم الطبيعي، إنما هو في الأساس الطريقة التي يجب أن يتصور بها الأرض، أو العالم الخارجي قبل ظهور الكائنات الحية أو الإنسان، إذا هو انضم ذهنيا في دور المتفرج، بالتالي لا يمكن أن يوجد الشيء مستقلا عن شعورنا، فنحن ننضم إليه دائما، من حيث أننا ذهن يسعى للنفوذ إلى طبيعة هذا الشيء.
وفي الرد على سفسطة هذه النظرية أكد لينين: إذا نحن "انضممنا ذهنيا" أصبح حضورنا خياليا، ولكن وجود الأرض واقعي، كما لو أننا نقول: إذا انضممنا إلى الجحيم ذهنيا بصفة متفرج، فإننا سنتمكن من مشاهدة الجحيم. إننا نلاحظ من نتيجة "نظرية التوافق المبدئي غير القابل للانحلال" المتبوعة بنظرية الانضمام الذهني أنهما تغيبان بجلاء العامل الموضوعي، وبالتالي تسقطان في المثالية، حيث لا موضوع بدون ذات، تكون في نفس الوقت نقطة انطلاق الفلسفة التجريبية النقدية لماخ وأفيناريوس.
لنخلص إلى ما يلي: إن المادة تعتبر المعطى الأول، والشعور والإحساس والفكر بمثابة المعطى الثاني، لأن الشيء موجود في ذاته منذ ملايين السنين قبل تشكل الإحساس والفكر كأعلى شكل متطور للمادة، كما يجب أن نذهب من الأشياء إلى الإحساس والفكر وليس من الفكر والإحساس إلى الأشياء والأجسام، لأن المادة وجودها غير مرتبط ومحدد بالإحساس، بينما الإحساس إن وجد فهو مرتبط بالمادة.
لننظر مثلا إلى قضية أخرى: هل يفكر الإنسان بواسطة الدماغ؟
يقول أفيناريوس بوضوح، كما يؤكد ذلك ماخ عندما يقول أنه، ليس دماغنا مسكنا للفكر، أو مقره، أو خالقه، أو أداته، أو عضوه، أو حامله، أو قوامه ... فهو يعني أن التصورات ليست وظائف (فيزيولوجية ونفسية وفيزيائية) للدماغ، أي أن الإحساسات ليست وظائف نفسية للدماغ بصيغة نهائية، ليس الدماغ عضو للفكر، كما أن الفكر ليس وظيفة للدماغ.
يرد لينين على ذلك بمقولة انجلز القائلة بأن الفكر والشعور هما منتجات الدماغ البشري، أي أن شعورنا، فكرنا، ليس، مهما ظهرا متعاليين على الحس، سوى نتاجين لعضو مادي، جسدي، هو الدماغ، تلك هي وجهة نظر المادية، التي يدينها أفيناريوس حين يقول أيضا أن "الدماغ المفكر" هو "وثن علوم الطبيعة"، فهو بذلك لا ينطوي إذن على أي وهم بشأن خلافه المطلق مع علوم الطبيعة في هذه القضية، كما لا يسلم ويعلن بصراحة أنه على اختلاف مطلق مع علم النفس السائد، الذي يرتكب جريمة "تقمص" غير مقبول، أي ما يعني إقحام الفكر في الدماغ. ويرد لينين أننا أمام شعوذة فكرية تحاول بذل قصارى جهدها في التظاهر بمحاربة المثالية، فتحول العالم الخارجي إلى إحساس، إلى فكرة، وبالتالي فإن نظرية التقمص لا تنكر سوى كون الفكر وظيفة الدماغ.
إذن نخلص إلى ما يلي: إن الفكر هو وظيفة مباشرة للدماغ كما أن الدماغ هو مسكن الفكر.
لننتقل إلى قضية أخرى تتعلق ب السببية و الضرورة في الطبيعة، و التي تتمتع بأهمية خاصة في تحديد الاتجاه الفلسفي، يقول لودفيك فويرباخ في كتابه "جوهر الدين" أنه لا يمكن أن ندرك الطبيعة إلا من خلال الطبيعة نفسها، وليست ضرورتها منطقية أو بشرية، ولا ميتافيزيقية أو رياضية، و الطبيعة هي وحدها الكائن الذي لا نستطيع أن نطبق عليه أي قياس بشري، على الرغم من أننا نقارن ظواهرها ونطلق عليها أسماء، كي نجعلها مفهومة بالنسبة لنا، و على العموم نطبق عليها تعابير و تصورات بشرية كالنظام و الهدف، والقانون، ونحن مجبرون على ذلك من جراء لغتنا. هل يعني هذا أنه لا يوجد أي نظام في الطبيعة؟ بحيث يمكن مثلا أن يتلو الصيف الخريف ... وأنه لا يوجد أي هدف، بحيث لا يقوم مثلا أي اتساق بين الرئتين والهواء، إن هذا لهراء. وبذلك فهي رؤية مادية للمسألة، وعلى العكس من ذلك، فإنه من الواضح حقا أن الاتجاه المثالي الذاتي (الإيماني، المعتقد بالله) في مسألة السببية واستنباط نظام الطبيعة وقوانينها ليس من العالم الموضوعي الخارجي، بل من الشعور والعقل والمنطق، لا يفصل العقل البشري عن الطبيعة فحسب، بل يجعل الطبيعة جزءا من العقل بدلا من أن يعتبر العقل جزءا من الطبيعة. كما يؤكد انجلز بهذا الصدد أن التصور البشري للسبب والنتيجة يبسط دائما بعض الشيء الارتباطات الموضوعية للظواهر الطبيعية، فلا يعكسها إلا بصورة تقريبية، عازلا بصورة مصطنعة هذا المظهر أو ذاك من عملية شاملة واحدة. وبالتالي يستنتج لينين أن انجلز يقر بالأسباب الموضوعية والضرورة في الطبيعة، بالإضافة إلى اعترافه بالطابع النسبي لانعكاساتنا، يعني الانعكاسات التقريبية، وبالتالي إننا نشتق الفكر من الطبيعة ولسنا نشتق الطبيعة من الفكر.
إذن نخلص إلى ما يلي: إن مذهب الاعتقاد بالله يستدل على وجود كائن مختلف عن الطبيعة يحمل النظام والهدف والقانون إلى الطبيعة، التي هي عشوائية في ذاتها وغير مبالية بكل تحديد، وكأنها هي السبب في حدوث النتيجة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، إن ما هو علة في هذا المكان، وهذه الآونة، يصبح نتيجة في ذلك المكان، وتلك الآونة، والعكس صحيح.
وتوجد قضية أخرى أساسية تحدد اختلاف الاتجاهات الفلسفية وهي:
هل المكان والزمان واقعيان أم مثاليان؟
وهل مفاهيمنا النسبية عنهما مقاربات لأشكال الوجود الواقعية بصورة موضوعية؟ أم أنها ليست سوى منتجات للفكر البشري الذي هو في سبيل النمو، والانسجام، والتنظيم؟
فلنبدأ بالطرح المادي للمسألة، حيث يقول فيورباخ، أنه، ليس المكان والزمان مجرد شكلين للظواهر، بل شرطين جوهريين للوجود، ويضيف انجلز، أن الوجود خارج الزمان هو عبث فظ كمثل الوجود خارج المكان.
إذن فبالنسبة للينين، ليس في الكون سوى المادة في حالة الحركة، وهذه الحركة لا يمكن أن تتم إلا في المكان والزمان، وعلى النقيض من ذلك يقول ماخ أن المكان والزمان منظومتان متناسقتان من مجموعة من الإحساسات، ويضيف:
ليس الإنسان بإحساساته هو الذي يوجد في المكان والزمان، بل المكان والزمان هما اللذان يوجدان في الإنسان.
إن وجود الطبيعة في المكان والزمان، المقدر بملايير السنين، بصورة سابقة عن الإنسان والتجربة البشرية، يبرهن على مدى عبث هذه النظرية.
ولنخلص إلى ما يلي: لا وجود لشيء بدون حدود مكانية وزمانية.
أما فيما يخص قضية الضرورة والحرية، يعترف انجلز أن هيجل هو من قرر بصورة صحيحة العلاقة بين الحرية والضرورة، بحيث يقول: ليست الضرورة عمياء إلا بمقدار عدم فهمها. ويوضح ذلك لينين من وجهة نظر المادية، أنه ما دمنا نجهل قانونا من قوانين الطبيعة، فإن القانون الموجود والفاعل بمعزل عن ذهننا وخارج ذهننا، يجعل منا عبيدا حتى نصبح أسيادا للطبيعة، على العكس، فإن الماخيين يستمدون من ماخ نتفة من اللاأدرية وقبضة من المثالية، ويضيفون له شرائح من مادية ماركس الجدلية، ويسمون هذا الخليط تطويرا للماركسية، حيث يعبر عن ذلك ماخ في كتابه "الميكانيك"، أن الآراء الدينية تظل شؤونا فردية تماما، ما دام الفرد لا يسعى لفرضها على الغير، أو ليطبقها على مسائل تتعلق بمجال آخر.
كانت تلك مختلف القضايا الأساسية، التي كانت تقسم الاتجاهين الأساسيين في الفلسفة إلى معسكرين، مادي ومثالي، ولا خليط بينهما، حيث يقول لينين: "حكوا اللاأدري تجدون المثالي".
خلاصة:
إن العلوم الطبيعية تقود إذن إلى وحدة المادة، وإن المادة تلاشت لا تعني سوى تلاشي الحد الذي عرفنا المادة ضمنه حتى هذا الحين، و إن معرفتنا تتغلغل أعمق فأعمق، وأن خصائص المادة التي كانت تبدو لنا سابقا، مطلقة، ثابتة، و أولية تتلاشى، و تنكشف الآن على أنها نسبية، مميزة لبعض حالات المادة فقط، ذلك أن الخاصية الوحيدة للمادة، التي تحدد بها، والتي تسلم بها المادية الفلسفية هي خاصية كونها واقعا موضوعيا، ووجودها خارج ذهننا، لأن مفهوم المادة لا يتضمن معرفيا شيئا سوى الواقع الموضوعي الموجود بصورة مستقلة عن ذهن الإنسان الذي يعكسه.
إن الشيء الوحيد والثابت من وجهة نظر انجلز، هو أنه في الذهن البشري ينعكس عالم موضوعي خارجي موجود ومتطور بصورة مستقلة عن الذهن، ولا يوجد بالنسبة لماركس وانجلز أي ثبات آخر، وأي ماهية ثابتة، وأي جوهر مطلق الخ. إن ماهية الأشياء أو الجوهر نسبية أيضا، وهي لا تعبر إلا عن درجة عمق المعرفة البشرية للأشياء، فإذا كان عمق المعرفة بالأمس لا يتجاوز في أيامنا هذه، الكهرباء والفوتون، فإن المادية الجدلية تلح على الطابع العابر النسبي التقريبي لكل هذه المعالم لمعرفة الطبيعة المكتسبة بفضل العلم البشري المتطور. إن السيطرة على الطبيعة، التي تتمظهر في الممارسة، تنتج عن انعكاس صحيح موضوعيا يحصل في الذهن البشري لظواهر الطبيعة وعملياتها، وهي أن البرهان على أن هذا الانعكاس (ضمن الحدود التي تكشفها لنا الممارسة) حقيقة أزلية، موضوعية ومطلقة.
وفي الأخير يخلص لينين إلى أن الماخية أولا مرتبطة إيديولوجيا بمدرسة واحدة في فرع واحد من العلوم الطبيعية الحديثة. وثانيا، وهذا هو المهم، أن الماخية ترتبط بهذه المدرسة ليس بما يميزها من جميع التيارات الأخرى والمذاهب الصغيرة في الفلسفة المثالية، بل ما هو مشترك بينها وبين المثالية الفلسفية عامة.
إن ماخيونا، يقول لينين، يتبعون الموضة بكل خنوع، سواء في الفلسفة أم في العلوم، وبالتالي فهم ينحرفون نحو فلسفة رجعية، هذا الانحراف الفلسفي إلى الرجعية، الذي لم يكن سوى انعطافا مؤقتا، سوى مرحلة قصيرة من المرض في تاريخ العلم، سوى وعكة من وعكات النمو، منشأها في الدرجة الأولى الانقلاب السريع في المفاهيم القديمة المقررة، ذلك أيضا لكونها كانت عاجزة عن الارتفاع مباشرة ودفعة واحدة.
حمو خالد
1 ــ بوغدانوف : هو الإسم الأدبي المستعار لألكسندر مالينوفسكي
2 ـــ أرنست ماخ 1838 – 1916