Ok

En poursuivant votre navigation sur ce site, vous acceptez l'utilisation de cookies. Ces derniers assurent le bon fonctionnement de nos services. En savoir plus.

ماركس الإنسان، ماركس عقل العالم (الحلقة الرابعة)ـ

 الحلقة الرابعة

 

 

 

 

"من المعاناة تولد الحياة" القولة التي تنطبق على حياة كارل ماركس

 

كارل ماركس وسنوات الإنتاج الغزير و البؤس الوفير

إن مقولة "من المعاناة تولد الحياة" تنطبق على ماركس أيما انطباق، فسنوات الشباب في لندن كانت فيها حياة ماركس شديدة البؤس، لكن كانت في نفس الوقت السنوات التي أنتج فيها أكثر كتبه وأهمها. كان البؤس يلبسه منذ أن حل في هذه البلاد، لكن الشباب أعطاه القدرة على التحمل، لكن مع التقدم في السن، و كلما مرت الأعوام و السنون يصبح الجسد غير قادر على مراكمة المزيد من الأمراض و الآلام، إذ تزداد علل ماركس، بعضها جرها منذ شبابه فتطورت، و بعضها جديد زاد من معاناته، أضف إلى ذلك أن الأولاد يكبرون و التكاليف تزيد عبئا، ووسط كل هذا الركام من الأدواء التي ألمت بالجسم، فقد ظل الذهن متوقدا و الدماغ يفرز الأفكار بغزارة، و أنتج أعظم ما كتب في الاقتصاد السياسي، كتابه "راس المال".

1) 1860 – 1864: السنوات العصيبة

كان لاستمرار حرب الانفصال في الولايات المتحدة الأمريكية نتائج كارثية على كارل ماركس، ففي هذه الفترة ارتفعت أسعار القطن، فوقعت صناعة النسيج في بريطانيا في أزمة خطيرة، و أهم من ذلك عند ماركس، أنها وضعت حدا نهائيا لتعاونه مع جريدة "نيويورك ديلي تريبيون" - بعد أن كانت حلا لماركس في سنوات الخمسينات بالجنيهين اللذين كان يتقاضاهما عن كتاباته بها، اللذين فرح بهما كارل ماركس في تلك السنوات عندما تهافتت عليه أنواع البؤس من كل مكان- نظرا لصعوباته المالية- و حرمته من مصدر دخله المهني الوحيد، ليقع من جديد في ضائقة مالية شديدة، إذ لم يعد يعيش إلا من معونات انجلز المالية، في الوقت الذي كانت التكاليف التي عليه تحملها كبيرة جدا، فسن بناته يزداد، و تزداد حاجتهم إلى الدروس الخاصة و الأنشطة الفنية، فقد كان عشق بناته للمسرح كبيرا، و في الشهر التالي بعد كل شهر، يتأسف لأن بناته ليست لديهن الملابس اللائقة بمتابعة دروسهن، و لا يقوم بزيارة المعرض العالمي للصناعة، الذي حصل من أجله على بطاقة صحافية دائمة، و هو يائس إلى حد الشعور بالذعر، هل عليه التنقل مرة أخرى؟ إن الانهيار يترصده من جديد.

 كم كان ماركس ينزعج باستمرار بسبب، كما يقول، الحاجة إلى "الدراهم القذرة"، التي لم تكن تترك له سلاما. وفي 18 يونيو 1862 كتب ماركس إلى انجلز يطلب منه مرة أخرى بعض الجنيهات معددا احتياجاته في رسالة مؤثرة:

"إن فكرة تحميلك بؤسي تؤلمني، و لكن ما العمل؟ فكل يوم تقول لي زوجتي أنها تتمنى أن تكون في القبر مع أطفالنا، و لا أستطيع لومها نظرا لمهانة وضع كهذا، و كما تعلم، فقد ذهبت الخمسين جنيها لسداد ديون و بقي أكثر من النصف ينتظر السداد، من جنيهين للغاز (...) و لن أقول شيئا عن وضع من يعيش في لندن بدون بنس لسبعة أسابيع، و هو ما يحصل لنا غالبا (...) و أنا متأسف بالخصوص من أجل أطفالنا ذوي الحظ العاثر لأنها فترة الأعياد".

و يشرح ماركس لانجلز، أنه إذا لم يجد مالا، فسيضطر إلى إعلان عجزه عن الدفع، و ترك مالك منزله يبيع أثاثه و ترك هيلين ديموت عاملة المنزل تبحث عن رب عمل آخر، لأن الأمر أصبح من باب الترف، يجب التخلي عنه، و الانتقال مع جيني و إليانور إلى غرفة مفروشة ب 3 شلنات للأسبوع، و تشغيل لورا و جيني و هما في 18 و 19 سنة من عمرهما كمدبرتي منزل، لكن انجلز يطمئنه، و يغطي تكاليفه، و مرة أخرى يفلح كارل في عدم تجاوز حدود الغرف المفروشة، أي بيت السكن النموذج، رمز الانحطاط إلى درك البروليتاريا الرثة.

لم تكن سنة 1862 في سوء السنة التي سبقتها، بل كانت أسوأ بالفعل، فقد كان شتاء 1862 – 1863 شديد البرودة بصفة خاصة، و يبقى وضع ماركس المادي على ما هو عليه، مع هذه الظروف الطبيعية القاسية، و لم يبق له من مورد إلا ما يدفعه له انجلز بحساب، حرجا للغاية، و وصل الأمر بماركس إلى التفكير في البحث عن عمل مأجور، فتقدم لوظيفة في مكتب من مكاتب السكك الحديدية (قاطع تذاكر)، لكن ملابسه الرثة و مظهره المخيف، كان أبعد من أن يترك أثرا طيبا في نفس أي صاحب عمل يطلب عملا مكتبيا، و قد رفض طلبه في النهاية بسبب رداءة خطه غير المقروء (ربما قام ماركس بذلك عمدا، لأن في قرارة نفسه كاره لهذا العمل المأجور) أفشل المشروع، فيشعر بالراحة لذلك، و ستكون هده محاولته  الوحيدة بهذا الشأن.

إنه لمن العسير أن يرى المرء كيف كان ماركس و عائلته يستطيعون البقاء إبان هذه السنوات البشعة لولا مساعدة انجلز، و عن قصة ماركس مع هذا المال اللعين يقول انجلز:

"لا أعتقد أن أحدا سبق أن كتب عن النقود و عانى إلى هذا الحد من الافتقار إليها".

خلال صيف 1863، تسوء صحة ماركس إلى أقصى حد، فالدمل الواحد يتحول إلى اثنين فثلاثة ... و يكاد ذلك يودي بحياته، تاركا إياه ممتدا على السرير لمدة شهر، وكم يكون الأمر ثقيلا على رجل لا يستطيع أن يكف عن الحركة، و تتعاقب عليه أمراض الجمرة و الشقيقة و الالتهابات الرئوية و الكبدية بوتيرة متسارعة، و مرة أخرى يتوقف عن العمل .

في هذه السنة (1863) تتوفى في تريفر والدة ماركس، و قد كان الأمر محزنا و هو الذي يعيش في المنفى لا يستطيع توديع أمه، لكن موت أم ماركس سيحرر تركة والديه، حيث سيحصل على ما يزيد عن 1000 جنيه، و هذا يعتبر بالنسبة للوضع الذي عليه ماركس حيث ليس في جيبه فلسا واحدا بمثابة ثروة سقطت من السماء على غير انتظار، إذ أنه سيضمن بها العيش على الأقل لثلاثة أعوام، لكن ماركس الذي لا يعطي قيمة للنقود حتى يفتقدها، و لأن يده كانت "مثقوبة" كما يقول المغاربة، فإنه مرة أخرى و كعادته، يقرر إنفاق الأموال، التي تلقاها دون أن يفكر في المستقبل، و هكذا، و بفضل تركة أمه، تنتقل الأسرة إلى منزل جميل مجاور لمنزلها الحالي في حي راقي، يسكنه أطباء و محامون، و يهتم كارل بالأساس بدراسة بناته و بدروسهن في البيانو و المسرح .

1864 – 1870: تنتهي الهموم المادية لماركس و يغزر إنتاجه الفكري

كانت سنة 1864 سنة سعيدة لماركس – تلك السعادة التي ما أن تطل حتى تختفي ثانية- فقد توفي أحد أصدقاء ماركس القدامى و هو ويلهايم وولف و يوصي لكارل ب 840 جنيها – و هي ثروة صغيرة- و هكذا يشكل مجموع التركتين (من أمه و صديقه) لأسرة ماركس أكثر من نفقاتها المعتادة آنذاك لمدة خمسة أعوام، فهو الانفراج و الرخاء إذن.

كانت سنة 1864 هذه سنة الإرث، فقد توفي والد انجلز، فيصبح فردريك المالك للمصنع العائلي في مانشستر، و يستطيع زيادة مساعدته لماركس، لكن بصفة محسوبة، ضامنا له 200 جنيها كحد أدنى في السنة.

هكذا، و هو في 46 من عمره، ستصبح الهموم المادية لماركس جزءا من الماضي، فمنذ عام فقط (1863) كان يحدث له أن لا يجد ما يطعم به أسرته، لكنه يستطيع اليوم تقديم شيء من الرفاهية لبناته. لكن الأهم من ذلك، ينوي ماركس التفرغ جديا لكتابه العظيم عن رأس المال، الذي انقطع عنه منذ ما يقرب من أربع سنوات و الذي يأمل به "أن يوجه للبورجوازية على الصعيد النظري ضربة لن تقوم بعدها أبدا"، فقد استعاد كل نشاطه، و لم يعد يحسب إلا بالشهور بل بالأسابيع، و يكتب في هذا الشأن:

"كان علي استغلال كل لحظة استطيع فيها العمل على إتمام عملي، الذي من أجله ضحيت بالصحة و السعادة و بالعائلة (...) و أنا أضحك من الناس العمليين و الحكماء المزعومين، فإذا أراد المرء التصرف كالبهيمة سيتمكن بالطبع من إدارة ظهره إلى مآسي البشرية و عدم الاهتمام إلا بالنجاة بجلده، لكنني سأعتبر نفسي غير عملي إذا ما مت قبل أن أتم كتابي"

لكن الرياح ستجري بما لا تشتهيه سفينة ماركس، ذلك أنه ستطرأ أحداث عديدة ستحوله عن هذه المهمة العسيرة، و سيتخذ قرارا بتأجيلها.

و يبدو، وهو في 46 من عمره، أن كل الأبواب تفتح أخيرا أمامه، فتحت تصرفه أداة سياسية عالمية، و هي الأممية، التي انغمس فيها أربع سنوات، و يعيش حياة لائقة، و لم تعد تقض عيشه مشكلات آخر الشهر، و هو بصحة جيدة، و يسكن منزلا جميلا، لكنه لم يعد يكتب.

بعد أربعة أعوام من الانقطاع، بسبب انغماسه في الأممية، وكأنما جاء النشاط السياسي ليغذي نشاطه الفكري، فيعكف من جديد على تحرير كتابه العظيم، الذي يقرر نهائيا تسميته "رأس المال"، و لم يعد النشاط السياسي هذه المرة ذريعة للتوقف عن الكتابة. و لم تمنع الكتابة و الاشتغال بالسياسة ماركس من أن يلتمس بعض الترفيه لنفسه و أسرته، بأن يقضي أيام الآحاد دائما و بدون استثناء في توفير نزهة لجيني و بناته، أو يروي لهن الحكايات، سواء في المنزل أو أثناء نزهاتهم.

كانت أكثر النصوص التي يحرس انجلز على أن يكملها ماركس، كتاب "رأس المال"، فقد كان يستبد به الخوف و القلق، و هو الذي خبر أدواء ماركس و علله و أوضاعه المادية المزرية التي قد تعود في أي وقت، فلا يخرج هذا المشروع العظيم إلى النور. لذلك، في سنة 1866، و بإلحاح من انجلز يقبل ماركس تخصيص وقت أقل للإدارة اليومية لشؤون الأممية حتى ينتهي من كتابه العظيم ذاك، لكن كما هو الحال في كل مرة يعتزم التفرغ لهذا العمل العظيم بجدية، تأتي نوبة كبدية أو نوبة برد لتوقفه، لكن ماركس مهووس بالكمال بشكل يكاد يكون مرضيا - و هو المؤمن بالنسبية- و يسجل عنه صهره بول لافارغ الذي كان يرافقه كل يوم:

"ما كان له أن يستند قط إلى واقعه، ما لم يكن متأكدا منه تماما التأكد، و ما كان له أن يسمح لنفسه بمعالجة موضوع دون دراسته بعمق، و ما كان ينشر شيئا قبل أن يعدله عدة مرات إلى أن يعثر على الشكل الأنسب، فلم يكن يطيق إعطاء الجمهور دراسة لم تمحص بصورة كافية، و من أشق الأمور عليه إطلاع أحد على مخطوطاته قبل أن يكون قد وضع اللمسات الأخيرة عليها، و كان هذا الشعور قويا لديه حتى أنه كان يفضل – كما قال لي يوما- حرق مخطوطاته على تركها غير مكتملة، أما مع المفكرين الآخرين، فقد كان ماركس على قسوته المعتادة، فقد اعتبر كتاب أوغوست كونت بعد 30 عاما من نشره كتابا رديئا، لم يستفد شيئا من قراءته، غير أنه عندما يقدر مؤلفا يستشهد به، كان ضميره الأدبي مثل صرامة ضميره العلمي"

كان أسلوب ماركس على عادته شديد الغموض عندما يتكلم في الاقتصاد، و شديد الوضوح عندما يتكلم في السياسة أو في الأحداث الراهنة، لكنه يصبح متألقا عندما يعود إلى الفلسفة.

كان ماركس شديد الضعف أمام بناته، فكلما أحس أن جيبه منتفخا يغدق على البنات بلا حدود، و في نهاية يناير 1867، بعدما يغمر ماركس بناته بالهدايا يجد نفسه من جديد غارقا في الديون، و هو الذي قبل ثلاثة سنوات كانت بحوزته ثروة صغيرة من تركة أمه و صديقه و المبلغ السنوي الذي يقدمه له انجلز، التي كان يمكن أن تزيد في سنوات رخائه، لكن النقود تأبى أن تبقى في جيبه، فيطارده تجار حيه و مالك منزله، و تصبح تكاليف الديون التي عليه استدانتها لا تطاق، فيصاب بالدماميل بشكل خطير، و يسر لانجلز في جملة شهيرة بأنه يعتبر الرأسمالية مسؤولة عن أوجاعه:

"آمل أن تتذكر البورجوازية دمامله بقية حياتها".

في سنة 1867، كان سن ماركس 50 سنة، و قد كتب عشية ميلاده الخمسين هاته:

"نصف قرن على ظهري و لا أزال عالة"، و في إحدى المرات تمنى أن يغرق منه قدم في البحر بدلا من أن يستمر في العيش كالنباتات، و في مرة انفجر يائسا فقال أنه لا يتمنى لأعدى أعدائه أن يصادف ما يصادفه، إذ ظل ثمانية أسابيع و قلبه يتمزق غيظا، لأن ذكاءه و قدراته تتفتتان تحت وطأة التفاهات، و مع ذلك لم يصبح ماركس أبدا "كلبا حزينا ملعونا" كما وصف نفسه بهزء ذات مرة. حقا لا يعود انتصار حياة ماركس إلى قدراته البالغة فقط، فقد كان لابد أن ينهار في نضاله بشكل أو بآخر، لولا الصديق والرفيق اللذان وجدهما في انجلز.

جميلة صابر

19-2-2019