"الشيوعية هي علم تحرر البروليتاريا"
فريديرك انجلز
1 ـــــ تحديد أولي
لن نطرح في هذه المحاولة الأولية كل التفاصيل الداخلية للأطروحات الماركسية الأساسية (أنظر بهذا الصدد مقالات العدد الأول من كراسات الشرارة)، و لا جميع تفاصيل التجربة البروليتارية الثورية التي بناها و قادها البلاشفة حتى انتصارها التاريخي، و فَتْح الطريق الثوري أمام البروليتاريا، طريق الديكتاتورية الديمقراطية الثورية و الاشتراكية في مرحلة الرأسمالية الامبريالية. كما لن نحاول عرض التفاصيل الدقيقة و الغنية جدا لعمل "فلاديمير إليتش أوليانوف" (لينين1) و أفكاره في عمق محور التجربة البلشفية الثورية. بل سنعمل، مع الأخذ ضمنيا بأهم تلك التفاصيل، على عرض أهم تلك الأطروحات الماركسية الأساسية و كذا العناصر المركزية للتجربة البروليتارية الثورية التي أنجزها البلاشفة بقيادة لينين، المناضل الشيوعي الثوري الذي سخر كل طاقاته، جهده و كل تفاصيل حياته اليومية في بنائها و تطويرها حتى انتصارها، و الذي لن نجد في التعبير عن مبدئه العملي في الحياة، سوى البراكسيس الثوري الذي يستبطنه جوهر الأطروحة الحادية عشر لماركس حول "فويرباخ": "عمل الفلاسفة فقط على تفسير العالم و بشكل مختلف، ما يهم هو تحويله"، و كذا الأطروحة الثالثة:"...أن الناس هم الذين يغيرون الظروف...".
2 ـــــ في حزب ـــ ثورة ـــ ديكتاتورية البروليتاريا
يستحيل، من وجهة نظر البروليتاريا، أي من زاوية النظر الماركسية ــ اللينينية، عزل قضية (بناء) الحزب البروليتاري عن قضيتي الثورة و الديكتاتورية البروليتارية، كعمليات العزل و الانتقائية الإيديولوجية التي بها يجزئ خط "اليسار" الانتهازي النظرية الماركسية (وحدها هنا)، بعد عزله لها، هكذا، عن "اللينينية" التي أخفى أرائه و مواقفه "النقدية" حولها، هو في حقيقته الفعلية تَخلٍ يخدم بالأساس المصالح الطبقية المباشرة لهذا الخط الانتهازي من جهة، و يعفي به ذاته، من جهة ثانية، من المهام و التبعات السياسية و التنظيمية العاجلة و الأساسية التي تفرضها عمليا عليه المهام البروليتارية الثورية التي لا و لن تخدم مصالحه المباشرة تلك.
هذه القضايا، هي في النظرية الماركسية عناصر مركزية و داخلية ــــ عضوية لوحدة شاملة، هي في العمق، أي استراتيجيا، قضية تحرر البروليتاريا، و عن طريق تحررها، تَحَرُر المجتمعات البشرية، بمن فيها طبقة ذاك الخط الانتهازي القصير النفس و الضيق الأفق، من نظام اجتماعي طبقي استغلالي و اضطهادي، يمثله في مرحلتنا التاريخية، نظام الرأسمالية الإمبريالي. لذا، من الضرورة البروليتارية الثورية أولا، و المنهجية الديالكتيكية2 ثانيا، التعاطي الشمولي مع هذه القضايا المركزية نظريا ــ إيديولوجيا، سياسيا و تنظيميا، و المصيرية اجتماعيا.
لقد أثبت تاريخ الصراعات الطبقية، ما أكدت عليه النظرية الماركسية، و هي النظرية الثورية التي تبلورت في قلب نيران تلك الصراعات الطبقية و النضالات الحية للجماهير الكادحة، و على رأسها النضالات المجيدة للبروليتاريا ضد أسياد الاستغلال و الاضطهاد الجدد: طبقة البرجوازية (و حتى القدامى)، أن النضال الطبقي للبروليتاريا هو وحده الكفيل بالقضاء على هذه الأخيرة، و هو وحده القادر على وضع حد لعلاقات الاستغلال و الاضطهاد.
فمعلما البروليتاريا، الشيوعيين الثوريين ماركس و انجلز، بلورا السلاح الفكري المادي الديالكتيكي المستند إلى المادية التاريخية و الحركة المنظمة و المستقلة للبروليتاريا، الذي به تعي هذه الأخيرة قوتها الذاتية و مصالحها الطبقية و وحدتها الضرورية و المصيرية في المعركة الحازمة و الحاسمة ضد الرأسماليين.
علمت الماركسية البروليتاريا أن تلف حولها كل القوى الاجتماعية الساخطة على طبقة البرجوازية، و تعمل على قيادتها إيديولوجيا؛ سياسيا و تنظيما في الهجوم على الرأسماليين، لتحطيم طبقة البرجوازية و دولتها، و إقامة السلطة السياسية البروليتارية لأجل التحويل الثوري للنظام الاجتماعي و لبناء المجتمع الجديد، مجتمع الإنسان الحر. فلا يجب، يؤكد معلما البروليتاريا استنادا إلى تجربة "كمونة باريس"، أن يقتصر استيلاء البروليتاريا على جهاز الدولة البرجوازية و استخدامه لمصالحها الخاصة، بل وجب تحطيم هذا الجهاز (الجيش ـ الشرطة ـ....) و بناء دولة البروليتاريا، نظام الديكتاتورية الثورية للبروليتاريا الذي يجسد المرحلة الانتقالية نحو المجتمع الشيوعي.
و من أجل تحقيق هذه المهمة التاريخية الثورية للبروليتاريا، أكدت الماركسية على ضرورة أن تتوفر البروليتاريا على حزبها الخاص بها كطبقة، الحزب الشيوعي.
فمنذ تأسيس العصبة الشيوعية، لم يفتأ ماركس و انجلز من ترديد و باستمرار، خلال كل نشاطهم الثوري، فكرا و ممارسة، أن حزب الطبقة هو الأداة و هيئة الأركان التي تعد البروليتاريا للاستيلاء على السلطة السياسية و ممارسة الديكتاتورية البروليتارية لتحطيم كل العقبات و الحواجز التي تحول دون تقدم و تطور قوى الإنتاج3.
فالمهمة العملية و المركزية الرئيسية للحزب البروليتاري هي الثورة البروليتارية و الاستيلاء على السلطة السياسية، و رفع البروليتاريا إلى طبقة سائدة (أنظر البيان الشيوعي)، و هو عمل ديكتاتوري بامتياز. فكل الدول الطبقية التي انوجدت و تستمر في الوجود، هي ديكتاتورية للأقلية المالكة و المستغِلة على الأغلبية المستغَلة و المنتجة و غير المالكة، أما ديكتاتورية البروليتاريا، فهي ديكتاتورية الأغلبية غير المالكة و غير المستغِلة على الأقلية المالكة المطاح بسلطتها السياسية، و هي بالتأكيد لن تكون ديمقراطية للجميع. إذ لا وجود لديمقراطية خالصة كتلك التي لوح بها كاوتسكي4 و أصحابه في حديثه عن المساواة الكونية (و على نهجه سار أحبار إيديولوجية "شمولية" حقوق الإنسان و المساواة الديماغوجية بين المستغِلين و المستغَلين). فهذه النظرية تخفي المصدر الحقيقي و الفعلي لألة الدمار الرأسمالية و تجعلها "أقل" وحشية، "مؤنسنة في قوانين الدولة المُؤَمِّنَة بالعنف و القهر استغلال البرجوازية و استعبادها لأغلبية البشرية"، مع منح هذه البرجوازية و دولتها، الدعم الإيديولوجي و القوة المعنوية في صراعها ضد الجماهير المستغَلة.
ديكتاتورية البروليتاريا لن تكون ديمقراطية ل"الأغنياء و الفقراء"، بل هي ديمقراطية من نوع جديد، ديمقراطية للبروليتاريين و غير المالكين بشكل عام، و ديكتاتورية من نوع جديد، ضد البرجوازية، لنزع الملكية عنها و تحطيمها، و إخضاعها بالقوة و العنف للعلاقات الاجتماعية الجديدة: الاشتراكية.
الديكتاتورية البروليتارية هي أداة الثورة لتحقيق الانتصار الكلي و الشامل للاشتراكية، و هي التجسيد الفعلي و نقطة الارتكاز الأساسية للثورة، و من دونها لا يمكن بأي حال سحق طبقة البرجوازية و الحفاظ على استمرار انتصار الثورة و المضي بها حتى تحقيق النصر النهائي للاشتراكية. فالثورة لن تكون قادرة على ذلك، في مرحلة محددة من تطورها، إذا لم تبني هذه الأداة الديكتاتورية. لأن الاستيلاء على السلطة ما هو إلا بداية المهمة التاريخية للبروليتاريا، و البرجوازية المطاح بسلطتها، و لأسباب تاريخية متعددة و مختلفة، قد تبقى و لفترة طويلة أقوى من البروليتاريا التي أطاحت بها. لذا، على ديكتاتورية البروليتاريا أن تكسر كليا مقاومة البرجوازية و محاربة كل محاولات ترميمها و إعادة إصلاحها. فالدولة البروليتارية هي أداة لسحق البرجوازية و إنهاء وجودها و كل موروثها الذي ساهم في سيطرتها5:
"على الطبقة العاملة الاستيلاء على السلطة السياسية للدولة، كي تسحق من خلالها و عن طريقها، مقاومة الطبقة الرأسمالية إعادة تنظيم الهياكل الاجتماعية" ( أنظر البيان الشيوعي).
ما يعتمل في قضية السلطة السياسية إذن، هو كل شيء أو لا شيء، و الاستيلاء عليها هو عمل رئيسي و ضروري للحزب الشيوعي. فالدولة، عمليا، هي الوسيلة و الأداة لإطلاق ديناميكية القوة و العنف الموجه نحو المستقبل من أجل تحطيم كل القيود و الحواجز المتعارضة و الكابحة للتطور اللاحق لقوى الإنتاج. هذا الاستيلاء لا يعني تغيير عناصر من السلطة بأخرى حتى و إن كانت هذه الأخيرة بروليتاريا و ذات القيم الشيوعية الثورية، كما لا يعني تغيير قوانين بأخرى تقدمية و ثورية مع الإبقاء على أشكال و بنى النظام القديم للاقتصاد و السياسة. بل هي دولة جديدة و أجهزة جديدة في كل المواقع. دولة البروليتاريا تتبلور خلال الثورة البروليتارية العنيفة عن طريق هدم نظام البرجوازية و على أنقاض دولتها، و خلال عملية التحويل الاشتراكية.
في هذا الاتجاه عبر لينين (أنظر "الدولة و الثورة") عن انشغال الاشتراكيين الطوباويين باكتشاف الأشكال السياسية التي فيها سيحدث التحول الاشتراكي للمجتمع، و عن تهرب الفوضويين من سؤال الأشكال السياسية بشكل عام. في حين، أن انتهازي الاشتراكية الديمقراطية، تقبلوا الأشكال السياسية البرجوازية، دولة الديمقراطية البرلمانية، كحد لا يمكن تجاوزه و اعتبروا كل محاولة لهدم هذا الأشكال هي فوضوية6.
إنه من الخطأ الاعتقاد أن الاستيلاء على السلطة قد يؤطر على طريق البرلمانية (حتى و إن رافقه نضال "الشوارع" و الحرب "الخارجية"). هذه العملية، هي في تطورها، تؤدي إلى وضع محجوز و محافظ، بل تسهل به "العودة" إلى أشكال التنظيم الاجتماعي ـ الاقتصادي التي بها و فيها تسيطر طبقة البرجوازية. فالوصول بها، طريق البرلمانية، إلى السلطة، لن يكون فعليا عملا ثوريا، أي لن يكون قادرا بالفعل على كنس و بالعنف كل العلاقات البورجوازية، كما لن يكون قادرا على إطلاق ديناميكية عنيفة للتثوير الاقتصادي الضروري لسحق كل علاقات الإنتاج الاجتماعي التي أرستها تاريخيا، خلال سيطرتها، طبقة البرجوازية. إن عملية المرور هذه، و ليس الاستيلاء هنا، إلى السلطة عبر طريق البرلمانية، تؤدي عمليا إلى القبول بتمرير جهاز الدولة من طبقة إلى أخرى، و كأن هذا الجهاز هو مفتوح، يقبل بمضامين اجتماعية مختلفة7 و متناقضة، و على رأسها المضمون الاجتماعي البروليتاري، النقيض الأساسي للمضمون الاجتماعي البرجوازي. فالدولة من خلال هذا الطريق، تظهر و كأنها خارج كل الطبقات و صراعاتها التاريخية، و ليست دولة طبقة محددة، هي دولة طبقة البرجوازية.
هذا النهج، لا يميز بين ديكتاتورية الدولة البرجوازية التي هي ديكتاتورية الاستغلال و الاضطهاد و الاستعباد، و بين ديكتاتورية الدولة البروليتارية التي هي ديكتاتورية تدمير هذا الاستغلال و التحرير من ذاك الاستعباد. ففي الوقت الذي فيه تميل الدولة البرجوازية إلى الحفاظ ما أمكن على الاستغلال و الاضطهاد، بل تعميقه و توسيعه، تكمن، لدى البروليتاريا، و تنمو عن طريق حزبها الشيوعي الثوري الذي يحمل مبادئ و أهداف مجتمع المستقبل، مجتمع الشيوعية، الإرادة السياسية العنيفة و النقيضة لتحطيم أولا دولة العدو الطبقي و أخذ رأس الدولة الجديدة، دولة ديكتاتورية البروليتاريا لتسريع تدمير الاستغلال و الاضطهاد8. هذا الاختلاف بين مضمون و أشكال الدولتين الديكتاتوريتين هو نوعي، شامل و لا يقبل التجزئ، و عدم التمييز بينهما، الذي يجد أصوله لدى أصحابه، المناشفة الجدد، في عجزهم دمج وجهة النظر البروليتارية الثورية في الممارسة9، هو ما أدى بهم، و يؤدي بمن يلفون لفهم، إلى المزيد من "الاحترام" الجبان للقانونية و طلب الترخيص ب"العمل الثوري"...كذا.
فلينين، لم يستعمل عمليا الدخول للبرلمان للاستيلاء على السلطة، و لا للتحطيم التدريجي لمؤسسات الدولة القائمة من الداخل، أو للحصول على بعض المقاعد في الحكومة البرجوازية، بل من أجل رفع صوت الثورة البروليتارية و إعداد الجماهير العمالية و الفلاحية للهجوم على الدولة و حل البرلمان بالقوة و العنف10.
ديكتاتورية البروليتاريا إذن، يستحيل أن تكون نتيجة التطور السلمي لنظام البرجوازية و ديمقراطيتها، فهي لا يمكن أن تكون إلا تدميرا لآلة الدولة البرجوازية. الثورة العنيفة هي قانون لا مفر منه لحركة البروليتاريا الثورية.
على نقيض الفكر البرجوازي، الفكر اللبرالي و "منوعاته" المشوهة التي يستبطنها استيلابا صغار البرجوازية، لا تعتبر الماركسية جهاز الدولة ضرورة تاريخية أبدية، بل تضعه في سيرورته التناقضية، سيرورة الصراع بين ضرورة وجوده المرتبطة بالسيطرة الطبقية، و بين ضرورة انتفاءه المرتبطة بإنهاء علاقات السيطرة الطبقية هذه. إنها سيرورة تحول الشيء إلى نقيضه. لذا، كان انمحاء الدولة في مركز مبدأ ديكتاتورية البروليتاريا التي من دونها لا يمكن السيطرة و لا سحق البرجوازية و علاقاتها الاجتماعية. و بشكل عام، لا يمكن من دونها تحطيم العلاقات الطبقية التي بتحطيمها تحطم البروليتاريا نفسها و تنتفي معها ضرورة وجود جهاز الدولة. فالهدف الأساسي لهذا الجهاز الذي هو جزء من بنية العنف الفوقية، هو تأمين و ضمان عن طريق العنف و القهر الاقتصادي لأغلبية العمال من طرف أقلية من الرأسماليين، و باندحار و انمحاء هذه الأقلية المستغِلة عن طريق ديكتاتورية البروليتاريا، تنمحي ضرورة وجود سلطة مضطهدة التي هي الدولة. فمرحلة الدولة الديكتاتورية البروليتارية هي مرحلة انتقالية، سيرورة، ضرورتها من ضرورة انتفاء الأقلية المستغِلة و جهاز الدولة11.
من المستحيل إذن، تحقيق ديكتاتورية البروليتاريا على طريق الانتصار الشامل للاشتراكية من دون الصراع الطبقي من أجل السلطة السياسية للدولة، و "ليس للبروليتاريا في صراعها من أجل السلطة غير سلاح التنظيم"12. هذه الحقيقة التاريخية، حقيقة استحالة قيادة و توجيه البروليتاريا و جماهير الشعب للقيام و إنجاز الثورة في الاستيلاء على السلطة السياسية و رفع البروليتاريا إلى طبقة مسيطرة من دون تنظيم بروليتاري ثوري، أكدها تاريخ الثورات البروليتارية في روسيا و الصين...
فلم تكن لتنجح الثورة لو لم يكن هناك تنظيم ثوري فعليا و منضبط، متماسك داخليا و مندمج عضويا بالطبقة العاملة و حاصلا على ثقتها و ثقة جماهير الفلاحين و دعمهما الشامل و اللامشروط. حزب على استعداد دائم لمتابعة خطوات المعركة خطوة خطوة، يعمل على بناء التماسك وسط البروليتاريا و تحصينها ضد تلاعبات و تأثيرات قوى البرجوازية الصغيرة. حزب بروليتاري طليعي يركز كل طاقات و جهد جماهير الشعب على أهداف جد محددة - تدمير جهاز الدولة البرجوازية، الاستيلاء على وسائل الإنتاج و تنظيمها، بناء سلطة جديدة -. في غياب حزب من هذا النوع، فإن هجومات الجماهير الأكثر قوة و شجاعة، و حتى انتصاراتها الأكثر أهمية و مردودية، لن تعرف أي انتصار سياسي تحرري فعلي و لا أي تحول اجتماعي ثوري.
فالحزب هو الذي يعمل على زرع روح الانضباط و التنظيم وسط جماهير البروليتاريا، و هو الذي يعمل على تحويل الانفجارات العمالية و الجماهيرية المعممة13 إلى هجمات ناجحة ضد الدولة البرجوازية، قلب النظام البرجوازي، و تحويلها إلى دولة الديكتاتورية البروليتارية، و هو الذي يعمل على المحافظة عليها و تعزيزها و تطويرها لضمان تهيئ الشروط المادية و الفكرية الضرورية للانتصار الشامل للاشتراكية. فالبروليتاريا في صراعها العنيد و الصعب ضد البرجوازية و جهاز دولتها، هي فيه محتاجة بشكل مصيري لحزب من هذا النوع، حزب بروليتاري حديدي منغرس في الصراع.
إن الحديث عن الانضباط الحديدي وسط حزب طليعي ثوري فعليا للبروليتاريا، لا يعني، و بالصيغة التي بها تتهجم البرجوازية و أذيالها من الانتهازيين و خونة البروليتاريا على طرق و أشكال تنظيم الحزب الثوري البلشفي14، ما يطلقون عليه "الانضباط الأعمى" (أو ما ينعتونه ب "الاستبداد الحزبي" و أحيانا ب"الستالينية")15، في إشهارهم اللبرالي لورقة ما يسمونها ب"الديمقراطية الداخلية" و "حرية التعبير" وسط الحزب. بل هو، الانضباط البروليتاري، الضامن و هو التجسيد المادي لوحدة الإرادة الجماعية الحرة و لوحدة الحركة و الفعل وسط الحزب و كذا ارتباطات هذا الأخير بحركة جماهير الشعب. كما، في الوقت ذاته، لا يمكن تصور هذا الانضباط من دون تلك الوحدة في الإرادة الجماعية الحرة و الفعل المنظم. فهو، في مضمونه البلشفي الثوري، يشترط: " أولا ( يقول قائد البلشفية الثورية)، وعي الطليعة البروليتارية و تفانيها للثورة، حزمها و روح التضحية لديها و شجاعتها. و من ثم قدرتها على الارتباط... الانصهار إلى حد ما مع الجماهير الواسعة للعمال، الجماهير البروليتارية في المقام الأول، و أيضا جماهير العاملين الغير البروليتاريين. ثالثا، سدادة القيادة السياسية التي تمارسها هذه الطليعة، سدادة استراتيجيتها و تكتيكها السياسيين، شريطة أن تقتنع أوسع الجماهير، عن طريق تجربتها، بها.
من دون توفر هذه الشروط، في حزب ثوري قادر فعلا على أن يكون حزب الطبقة الطليعية المدعوة للإطاحة بالبرجوازية و تحويل المجتمع، يستحيل تحقيق الانضباط. و من دونها، تصبح حتما كل محاولات لتثبيت الانضباط، عبارات فارغة و لغط... من جهة أخرى، لا يمكن لهذه الشروط أن تنشأ هكذا فجأة و مرة واحدة. فهي لا تنشأ إلا من خلال عمل طويل و تجربة عصيبة تيسرها النظرية الثورية السديدة التي هي ليست عقيدة، بل لا تتشكل نهائيا إلى بارتباط وثيق مع ممارسة حركة جماهيرية و ثورية فعليا.."16.
شروط الانضباط هذه، تُبْرز بوضوح هنا الخط الجماهيري للحزب الطليعي، و هي كذلك هنا رد حاسم على من يلصق به الانقلابية و البلانكية. في هذا الاتجاه، يؤكد مرة أخرى لينين: "حين ترفض أغلبية الشعب الاستيلاء على السلطة، فالأقلية مهما كانت ثورية و ذكية، فإنها لن تستطيع إجبار الشعب على القيام بذلك"، و أنه: "لا يمكن أن نمر فوق رؤوس الناس... نحن البلاشفة يجب أن نطرح و نفسر بصبر و بقوة و بصرامة مواقفنا للعمال و الفلاحين. هذا هو الطريق الوحيد لقيادة الشعب لفهم أفكارنا و استخلاص الدروس من تجاربه و التعلم من خبراته و للاستيلاء فعلا على السلطة"17.
"فقط من خلال اكتساب الجماهير، إذا كنا حقا قادرين على اكتسابها، سنقدم و سنمنح أساسا متينا و صلبا لانتصار النضال الطبقي البروليتاري" (لينين).
يكاد يكون من المستحيل بالنسبة لكتلة "مثقفي" صغار البرجوازية، أن تعي و تستوعب أهمية الانضباط الحزبي الثوري، و الدور المصيري لوجود حزب ثوري للبروليتاريا. فتلك الكتلة "المثقفية" من صغار البرجوازيين، و على الخصوص ذاك البعض منها الذي ينسب حزبه للماركسية، لم تكن لهم، و لن تكون لهم القدرة على استيعاب و فهم الدور التاريخي و المصيري الذي اضطلع به الحزب الثوري البلشفي في كل مراحل عمله الثوري. فهم غير قادرين، بسبب من نزعتهم الذاتية و عجرفتهم اللبرالية اللتين تطبعا، استيلابا، أيديولوجيتهم من خضوعهم لأسيادهم الرأسماليين، إلا على رؤية "قادة و حشد من الأتباع"، سواء وسط الحزب، أو في علاقة الحزب بالجماهير. فمن هنا رفضهم العنيد، على طريقة "الأنتلجنسيا" ذات النزعة الفردانية18، الإقرار و الاعتراف بدور الحزب و أهمية انضباطه الصارم في الصراع ضد طبقة البرجوازية و جهاز دولتها، رفضهم لدور هذه الأداة الفريدة من نوعها التي تشكلت بقيادة البلاشفة، و على رأسهم لينين، و التي قادت جماهير الشعب الروسي في خضم الصعوبات لإقامة ديكتاتورية البروليتاريا، و إطلاق عملية البناء الاشتراكية في بلد "متخلف". عجزهم و رفضهم ذاك، هو بالضبط ما دفع قائد البلاشفة لينين مرارا و تكرارا، الإصرار على الدور الهام و المصيري الذي يضطلع به، ارتباطا بجماهير الشعب، الحزب البروليتاري ذو الانضباط الحديدي19.
لقد عمل البلاشفة بقيادة لينين على بناء حزب ثوري مركزي، قادر على مواصلة نضاله في أحلك ظروف القمع و الاعتقالات، و تجنب الضربات و الاختراقات البوليسية20، لأنه يستحيل بناء حزب من هذا النوع، و بناؤه ضرورة مصيرية، من دون أن يتعرض مناضلوه للاعتقالات المتكررة على يد الأجهزة السرية. هكذا رفض لينين أن تكون عضوية الحزب مفتوحة لكل من يرغب في ذلك (مختلف لجان الحزب بالمدن تم اختيارهم من طرف اللجنة المركزية) و هو الأمر الذي انفجر في المؤتمر الثاني21 لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي بلندن 1903 بخصوص بعض القضايا التنظيمية الأساسية التي تركز فيها الصراع الرئيسي بين الخطين22 حول النظام الأساسي للحزب و اختيار المسئولين. و بالتحديد حول صيغة الفقرة الأولى التي تتناول عضوية الحزب : من يمكنه الانضمام (العضوية) للحزب؟ كيف ستكون طبيعة و تركيبة الحزب؟
فحسب صيغة الخط البلشفي الثوري بقيادة لينين، لا يمكن أن يصبح عضوا ( الانضمام) في الحزب إلا بتوفر الشروط الثلاثة: تقبل برنامج الحزب، الدعم المالي للحزب و الانتماء إلى إحدى تنظيمات الحزب ( يعني المساهمة النشيطة في التنظيم).
أما بالنسبة للخط الانتهازي بقيادة "مارتوف"، فيكفي فقط توفر الشرطين الأولين للانتساب للحزب، في حين لا لزوم للشرط الثالث بالنسبة له على الإطلاق، و يمكن الاستغناء عنه.
صيغة المنظور البلشفي تنبع من اعتباره الحزب فصيلة منظمة طليعية للطبقة العاملة، و هو بهذا الشكل، لا يمكن لأي كان أن يصبح عضوا من دون النضال في إحدى تنظيماته. بالعكس، يصبح عضوا في الحزب عن طريق ذاك النضال من داخل تلك التنظيمات. و بالتالي ضرورة الانضباط للحزب. أما بالنسبة للخط الانتهازي، فيمكن الانخراط في الحزب من دون التواجد و النضال في إحدى تنظيماته، أي أن مسألة الانضباط تصبح غير إلزامية (فوضوية). و هو ما يعني فتح الباب لكل أنواع الانتهازية و كل العناصر التخريبية و المتذبذبة و غير البروليتارية (أن ينضم للحزب تلقائيا مثلا كل من شارك في عمل إضرابي، كل مثقف متعاطف مع الحزب...)، ليتحول معها الحزب من تنظيم متجانس، متماسك و مناضل للطبقة العاملة، ذو الانضباط الصارم، إلى حزب غير متجانس، غير منظم و منفتح من نوع برجوازي. أي تحويله من فصيلة طليعية للطبقة العاملة إلى "فصيلة" ذيلية، مفككة و تابعة.
صيغة الخط الانتهازي هذه لا تفتح الباب فقط في وجه كل أنواع الانتهازية و الفوضوية، بل هي في العمق، تجرد الطبقة العاملة من هيئة أركانها السياسية، حزبها البروليتاري الطليعي23.
في رده على صيغة "مارتوف"، يقول لينين: "نحن حزب الطبقة، و لهذا فإن كل الطبقة (...) يجب أن تتحرك تحت قيادة حزبنا. يجب أن ترص ما أمكن من صفوفها حوله. لكن سيكون من الذيلية ــ التبعية، التفكير و الاعتقاد تحت سيطرة الرأسمالية، أن كل الطبقة تقريبا، أو كلها إطلاقا، سترتقي يوما ما إلى مستوى بلوغ درجة وعي و نشاط فصيلتها الطليعية... سيكون خداعا للنفس تجاهل ضخامة مهامنا.. تجاهل الفرق بين فصيلة الطليعة و الجماهير التي تلتف و تنجذب حولها، تجاهل الواجب الثابت للفصيلة الطليعية في رفع طبقات واسعة إلى هذا المستوى المتقدم..".
إن ضرورة وجود حزب بروليتاري طليعي تنبع من ضرورة خوض هذا النوع من العمل السياسي الذي يستحيل أن تخوضه جماهير العمال في ظل وضع الاستغلال و فوضى المنافسة التي تحكم نظام الرأسمالية، حيث تكون البروليتاريا منقسمة، مثقلة و مسحوقة في عملها الاستعبادي و الشاق لصالح حفنة من الرأسماليين الذين يعرضونها للاستيلاب و لتشيء كل العلاقات البشرية، ملقى بها دائما في أحياء القهر و التهميش و البؤس و التجهيل و الانحطاط. فهي، البروليتاريا، لا يمكنها و هي في وضعها المعمم دوليا هذا، سواء و هي تنخرط في نضالاتها دفاعا عن "مكتسباتها" و مصالحها ضد البرجوازية و جهاز دولتها، أو في فترات تراجع حركة الجماهير و تصاعد تأثيرات البرجوازية الصغيرة وسطها24، بلوغ وعي شامل بواقعها كطبقة و واقع الاستغلال و الاضطهاد الرأسمالي، إلا عن طريق الممارسة السياسية المنظمة. و بتدقيق أكثر، لن يبلغ هذا الوعي الطبقي إلا فئة قليلة منها تكون على استعداد لإطلاق و مواصلة العمل السياسي خصوصا في فترات التراجع تلك. من هنا تبرز الضرورة المادية لحزب بروليتاري طليعي، حزب يعمل على بناء الوحدة الإيديولوجية للبروليتاريا و القائمة على المبادئ الشيوعية الثورية، و بناء تماسكها المادي بالتنظيم الثوري الذي يضم جماهير العمال لجيش الطبقة العاملة.
3 ـــــ في الثورتين الديمقراطية و الاشتراكية
إن المهمة المركزية للحزب البروليتاري الثوري بعد الاستيلاء على السلطة السياسية هي مباشرة عملية بناء الاشتراكية، عن طريق الدولة الجديدة، دولة ديكتاتورية البروليتاريا، فهذه المهام هي انية و مباشرة للأحزاب الشيوعية الثورية في البلدان التي فيها أنجزت البرجوازية ثوراتها و أرست أسس نظامها الرأسمالي. أما بالنسبة للبلدان التي لم تنجز فيها البرجوازية ثوراتها و التي انجذبت بالعنف إلى خط الرأسمالية بتطور هذه الأخيرة إلى إمبريالية، فهي تفرض على حركة البروليتاريا الثورية إنجاز مهام الثورة الديمقراطية" البرجوازية" كمقدمة مباشرة للثورة الاشتراكية. هذه الأطروحة البروليتارية الثورية تجد جذورها في بعض الخطوط الأساسية التي وضعتها الماركسية مرحلة الرأسمالية بخصوص البلدان25، و على رأسها ألمانيا، التي فيها لم تتطور الرأسمالية بما فيه الكفاية و بالشكل الذي يوفر للبروليتاريا فرصة النجاح و إطلاق و على أوسع نطاق شرارة الثورة البروليتارية. و التي على خطاها، تلك الخطوط الماركسية الأساسية، وضع لينين الأسس الاستراتيجية و التكتيكية الثوريين للبروليتاريا بالبلدان المستعمرة و الشبه المستعمرة مرحلة الرأسمالية الإمبريالية.
هكذا، بخصوص ألمانيا26 ، تم تحديد التشكيلة الطبقية المتكونة من نبلاء الإقطاع، البرجوازية، البرجوازية الصغيرة و الفلاحين و البروليتاريا. هذه الأخيرة، كما يقول انجلز، هي "ضعيفة كي تأمل القفز على المرحلة البرجوازية و الاستيلاء لوحدها على السلطة"، في نفس الوقت، كانت قوية مما كانت عليه البروليتاريا في الثورة الفرنسية للقرن الثامن عشر و انجلترا للقرن السابع عشر (أنظر البيان الشيوعي). أما طبقة البرجوازية فلم تكن قوية بما فيه الكفاية لإخضاع الطبقات الأخرى تحت سيادتها حيث تميزت بضعفها أمام سلطة الإقطاع الإستبدادية27. يقول ماركس، في “الجريدة الرينانية الجديدة” (1848)، في حق البرجوازية الألمانية: "عديمة الإيمان بنفسها، عديمة الإيمان بالشعب، متذمرة من الكبار، مرتجفة أمام الصغار… خائفة من الإعصار العالمي… فاقدة العزيمة في أي مكان … دون مبادرة… ”. دون القفز هنا على إعلان28 باريس، ذو التدابير السبعة عشر و الموجه للبروليتاريا الألمانية و البرجوازية الصغيرة و الفلاحين، إبان ثورة 1848 التي "انطلقت" في برلين في 18 مارس، و الذي يقول بعد تحديده لتلك التدابير: "إنه من مصلحة البرجوازية الصغيرة و الفلاحين، و البروليتاريا الألمانية العمل بكل قوة لتنفيذ هذه الإجراءات ــ التدابير. لأنه فقط من خلال تنفيد و تحقيق هذه التدابير، يستطيع الملايين من الناس الذين يتم استغلالهم من طرف عدد ضئيل من المستغِلين الذين سيلجؤون للقمع للحفاظ على استغلالهم، تحقيق مكتسباتهم و تحصيل السلطة التي تعود لهم كونهم منتجي كل الثروات.".
على نفس هذا الخط، جاءت المبادئ التوجيهية29 التي وجهها ماركس للبروليتاريا الثورية الألمانية سنة 1850 حيث يؤكد:"لقد سبق أن قلنا سنة 1848 أن البرجوازية الليبرالية الألمانية ستصل للحكم و ستوجه فورا نفوذها ضد العمال….."، "فالدور الذي لعبته البرجوازية اللبرالية الألمانية سنة 1848 اتجاه الشعب، هذا الدور الخياني ــ الغادر، ستلعبه البرجوازية الصغيرة الديمقراطية في الثورة المقبلة، و التي تحتل الان نفس الموقع في المعارضة الذي احتلته البرجوازية اللبرالية سابقا.". لهذا دعا ماركس البروليتاريا إلى بناء تنظيمها في استقلالية عن البرجوازية الديمقراطية تفاديا لاستخدامها في الصراع ضد البرجوازية اللبرالية التي غدرت بالفلاحين و البروليتاريا، و تحالفت مع الإقطاع، و كذا تجنبا لتحطيم قوة البروليتاريا الثورية. فدعاها في حالة نجاح الثورة إلى تشكيل حكومتها العمالية الثورية الخاصة إلى جانب الحكومة الجديدة، و القيام "فورا بما هو ضروري لتسليح البروليتاريا" و "أن يتنظموا في جيش بروليتاري مستقل ذاتيا له قواده وهيئة أركانه العامة". كما حدد لها خطتها في "التحالف مع البروليتاريا الريفية" و "مباشرة بعد الانتصار، لا يجب أن يتجه حذر البروليتاريا ضد الحزب الرجعي المهزوم، بل ضد حلفائها، أي ضد الحزب الذي يريد استغلال النصر لوحده فقط.". هذا التكتيك البروليتاري الثوري انكشف جوهره بوضوح شديد، و تحققه العميق في التجربة البلشفية الثورية بقيادة لينين الذي استوعب أكثر من غيره المضمون الماركسي في الربط الديالكتيكي بين الثورتين الديمقراطية و الاشتراكية: " في حين (يقول دائما ماركس) تريد البرجوازية الديمقراطية إنهاء الثورة بأسرع وقت ممكن و تحقيق معظم هذه التدابير، فمن مصلحتنا و من مهمتنا أن نجعل الثورة متواصلة"30، بهدف "أن تطرد كل الطبقات من السلطة، و تستولي عليها البروليتاريا"، لأنه، يستمر ماركس في توضيح الأهداف الاستراتيجية للبروليتاريا: "بالنسبة لنا، لا يتعلق الأمر بتغيير الملكية الخاصة، بل بتحطيمها. و لا بحجب التناقضات الطبقية، بل بتحطيم هذه الطبقات، و ليس بتحسين المجتمع القائم، بل ببناء مجتمع جديد".
هكذا عمل لينين على تحليل التشكيلة الطبقية31 بروسيا التي كانت مقيدة بأنماط إنتاج مختلفة و سابقة على الرأسمالية، و في نفس الوقت تعرف سيرورة تطور اقتصاد السوق و صعود الرأسمالية (وحدات صناعية بالمدن الكبرى) بسبب الاستثمارات و دخول الرساميل الخارجية. في هذا الاتجاه، استطاع لينين القبض على نقط التحول الذي عرفته الرأسمالية: "ينبغي علينا أن نتناول بوجه خاص ذلك الدور الذي يلعبه تصدير رأس المال في إنشاء شبكة التبعية والترابط العالمية للرأسمال المالي"، حيث عرفت الرأسمالية تطورا إلى نظام عالمي من الاضطهاد الاستعماري و الاستعباد المالي لأغلبية البشرية من طرف فئات قليلة من الدول الرأسمالية "المتقدمة" التي أقحمت الوضع العام، بفضل تسلحها، في الحرب و تقاسمت ثروات الشعوب32:
"إن البلدان مصدرة الرساميل قد اقتسمت العالم فيما بينها بمعنى الكلمة المجازي. غير أن الرأسمال المالي قد أفضى إلى اقتسام مباشر للعالم. " (لينين).
حدد لينين الكيفية التي بها تبلور الرأسمال المالي و بروز الطغمة (الأوليغارشية) المالية في اندماج الرأسمال البنكي بالرأسمال الصناعي، و هيمنته في البلدان الرأسمالية "المتقدمة"، حيث لا يوجه فائض الرأسمال إلى الرفع من مستوى معيشة الجماهير، بل إلى المزيد من الربح و مضاعفته عن طريق تصديره إلى البلدان "المتخلفة" التي انجذبت بالعنف إلى خط الرأسمالية و بدأ فيها تهيئ الظروف الأولية ل "التطور الصناعي". "إن القرن العشرين (يقول لينين) هو نقطة التحول من الرأسمالية القديمة إلى الحديثة، من سيطرة الرأسمال بوجه عام إلى سيطرة الرأسمال المالي" و الاحتكارات التي فيها تكمن النزعة إلى السيطرة و العنف.
هي الإمبريالية33 التي كشف لينين عمق تناقضاتها و حدد علاماتها الخمس الأساسية في:
1 ــ تمركز الانتاج و الرأسمال تمركزا بلغ في تطوره حدا من التطور أدى إلى نشوء الاحتكارات التي تلعب الدور الفاصل في الحياة الاقتصادية
2 ــ اندماج الرأسمال البنكي و الرأسمال الصناعي و نشوء الطغمة المالية
3 ــ تصدير الرأسمال، خلافا لتصدير البضائع
4 ــ تشكيل اتحادات رأسماليين احتكارية عالمية تقتسم العالم
5 ــ انتهى تقاسم الأرض إقليميا بين كبريات الدول الرأسمالية و ابتدأ تقاسم العالم بين التروستات العالمية.
فالإمبريالية هي الرأسمالية في مرحلة سيطرة الاحتكارات و الرأسمال المالي و تصديره.
4 ـــــ الإمبريالية هي تمهيد للثورة الاجتماعية للبروليتاريا (لينين)
اعتقد جل الماركسيين الروس أن الثورة التي بدأت تلوح في الأفق، سوف تمر من مرحلتين مختلفتين، مرحلة الديمقراطية البرجوازية و متابعة التطور الرأسمالي ثم إطلاق الثورة الاشتراكية، إلا لينين الأكثر تشبعا و عمقا بالنظرية الثورية، كانت له نظرة عميقة بما ستكون عليه الثورة الروسية، و على الخصوص في مرحلتها الديمقراطية الثورية و الربط الديالكتيكي بينها و بين الثورة الاشتراكية.
هكذا زعم المناشفة، و كذا في البداية العديد من البلاشفة، أن هذه الثورة الوشيكة لن تكون إلا ثورة برجوازية، و بما أن طبيعتها ديمقراطية برجوازية، فيجب أن تكون بقيادة البرجوازية اللبرالية. لهذا، وجب على البروليتاريا أن تعمل على مساندة و دعم البرجوازية اللبرالية و أن لا تقيم أية رابط بينها و بين الفلاحين34 الذين يشكلون الأغلبية العددية. و بالتالي، يجب على البروليتاريا أن لا تتولى قيادة هذا التحالف لأجل الثورة، و أن لا تنخرط بشكل حماسي و نشيط يفوق أو يتجاوز انخراط البرجوازية اللبرالية، لأنها بهذا الشكل، ستدفع البرجوازية اللبرالية للهروب إلى أحضان الأوتوقراطية للتحالف معها و إجهاض الثورة في عدم القضاء على الإقطاع و السلطة القيصرية، أو الانصراف مع باقي الطبقات البرجوازية و ابتعادهم عن الثورة.
وفق هذا الطرح المنشفي إذن، على البروليتاريا أن تمارس ضغطا خارجيا يدفع في اتجاه يجبر البرجوازية اللبرالية على قيادة الثورة البرجوازية الديمقراطية حتى "نهايتها"، أي أن يكون للبروليتاريا دور ثانوي و ذيلي للبرجوازية اللبرالية.
عكس هذا الطرح المنشفي، و الذي أطلق عليه البلاشفة ب " تكتيك خيانة الثورة"، أو " تكتيك يحول البروليتاريا إلى طرف ذيلي يثير شفقة الطبقات البرجوازية"، جاء الطرح اللينيني الذي يجد جذوره في الخطوط الماركسية الأساسية، عصر الرأسمالية، بخصوص البلدان التي انوجدت فيها برجوازية لبرالية عاجزة سياسيا أمام الإقطاع و السلطة الاستبدادية. ليؤكد على أنه رغم كون الثورة الوشيكة ذات طبيعة برجوازية ديمقراطية، فإن البروليتاريا هي من يهتم في المقام الأول بنجاحها الكامل و الشامل، أي في القضاء على الإقطاع و السلطة القيصرية. نجاحها الشامل هذا، سيجعل البروليتاريا قادرة أكثر على التنظم و التطور سياسيا، و على اكتساب الخبرة و التجربة في القيادة السياسية للجماهير العاملة، و بالتالي الانتقال مباشرة من مرحلة الثورة البرجوازية الدمقراطية إلى مرحلة الثورة الاشتراكية35. فالبروليتاريا مهتمة أكثر بانتصار الثورة البرجوازية الديمقراطية أكثر من البرجوازية نفسها، لأن "الثورة البرجوازية هي، بمعنى ما، إيجابية جدا و لها فائدة كبيرة للبروليتاريا على البرجوازية" (لينين). لهذا يجب على البروليتاريا تولي قيادة الثورة، لكنها لوحدها لن تستطيع تأدية مهمة الثورة البرجوازية الديمقراطية بنجاح كامل، من دون المساهمة النشيطة و الفعالة لحليف موثوق موضوعيا فيه. هذا الحليف حدده لينين و البلاشفة في جماهير الفلاحين، كونهم هم الاخرين لهم كل المصلحة في نجاح الثورة، لأنها ستمكنهم من انتزاع أراضيهم و تصفية حساباتهم مع طبقة ملاكي الأراضي، فاهتمامهم "يتركز في مصادرة أراضي الأسياد (الشكل الأساسي للملكية) أكثر من اهتمامهم في الحفاظ على الملكية الخاصة."(لينين). ففئة الفلاحين و من دون أن تكون اشتراكية أو أن تتوقف على أن تكون برجوازية صغيرة، هي " قادرة على أن تصبح حليفا حازما و ثابتا و الأكثر جدرية للثورة الديمقراطية. ستصبح لا محالة إذا استمر مجرى الأحداث الثورية التي تعلمها، و لم تنقطع مبكرا بخيانة البرجوازية و هزيمة البروليتاريا. بهذا الشرط، يصبح الفلاحون حصن الثورة و الجمهورية. لأنها وحدها ثورة منتصرة بالكامل، يمكن أن تمنحها كل شيء في مجال الإصلاح الزراعي. كل ما يرغب فيه الفلاحون، كل ما تحلم به، كل ما هو ضروري بالنسبة لها." (لينين).
لهذا دافع و عمل البلاشفة، عكس الطرح المنشفي القائل بالتحالف مع البرجوازية، في اتجاه عزل هذه الأخيرة و شل تذبذبها للقيام بالثورة البرجوازية الديمقراطية بكاملها تحت القيادة السياسية و الإيديولوجية للحزب البروليتاري.
في رده على الطرح المنشفي الذي يقول بضرورة عدم الانخراط في التحالف مع الفلاحين مخافة تراجع و ابتعاد البرجوازية و إجهاض الثورة، يقول لينين: "من يستوعب فعلا دور الفلاحين في الثورة الروسية المنتصرة، لن يقول إن مدى الثورة سيتقلص حين ستتراجع و تبتعد البرجوازية. لأن الانطلاقة الحقيقية للثورة الروسية لن تبدأ فعلا، لن تحقق الثورة فعلا أقصى مدى ممكن في إطار حركة ديمقراطية برجوازية، إلا حين ستتراجع البرجوازية. و أن جماهير الفلاحين تمضي مرافقة للبروليتاريا، و تتولى دورا ثوريا فعالا و نشيطا. كي تتم و تنجز و بشكل متسق حتى النهاية، ثورتنا الديمقراطية يجب أن تستند على قوى قادرة على شل تناقض و تذبذب البرجوازية ( تريد الثورة، لكن تريدها منقوصة، في حدود معينة تخدم فقط مصلحتها) أي قادرة فعلا على إجبارها على الابتعاد.".
على خطى الطرح الماركسي المركزي في ضرورة "بناء دولة الديكتاتورية البروليتارية لسحق طبقة البورجوازية و مقاومتها".. " تسليح البروليتاريا" .. "الانتظام في جيش بروليتاري مستقل ذاتيا.."، طرح الحزب الثوري البلشفي، في إطار الثورة الديمقراطية للبروليتاريا و الفلاحين، و بهدف الانتصار الحاسم و الشامل على القيصرية الذي يجب "أن يستند على القوة المسلحة (تسليح الجماهير) و على الانتفاضة و ليس على المؤسسات المشكلة "قانونيا" ( الطريق السلمي)"، بناء سلطة سياسية مؤقتة هي الديكتاتورية الثورية للبروليتاريا و الفلاحين، يكون هدفها القضاء على الأوتوقراطية و تحطيم و بالقوة مقاومتها، و شل تذبذب البرجوازية، أي القيام بمهام الثورة البرجوازية الديمقراطية حتى نهايتها:
"الانتصار الحاسم للثورة على القيصرية، هو الديكتاتورية الثورية للبروليتاريا و الفلاحين…" (لينين).
فالتحولات الضرورية للبروليتاريا و جماهير الفلاحين تدفع القيصرية و الملاكين العقاريين و البرجوازية الكبيرة إلى مقاومة هذه التحولات، بنفس المنطق الذي يدفع البرجوازية المطاح بسلطتها إلى مقاومة السلطة السياسية للبروليتارية في مرحلة ديكتاتورية البروليتاريا.
فمن دون الديكتاتورية الثورية للبروليتاريا و الفلاحين، يستحيل تحطيم هذه المقاومة (هو جوهر الطرح الماركسي في ضرورة تحطيم الديكتاتورية البروليتارية لمقاومة البرجوازية بعد الاستيلاء على سلطتها السياسية). فهي هنا، الديكتاتورية الثورية للبروليتاريا و الفلاحين، ليست ديكتاتورية اشتراكية، و لكن ديكتاتورية ديمقراطية. لأنها لن تستطيع بعد ضرب أسس الرأسمالية و إطلاق سيرورة التحويل الاشتراكية.
لم يضع البلاشفة فاصلا بين الثورتين الديمقراطية و الاشتراكية. فالأولى ليست هدفا في ذاتها، بل هي مرحلة أولى ضرورية و أساسية في اتجاه الجمهورية الاشتراكية. مرحلة ضرورية في تطور حركة البروليتاريا الثورية و تقدمها نحو ديكتاتورية البروليتاريا. و هذا لا يمكن تحقيقه إلا إذا كانت البروليتاريا على رأس الشعب، و على الخصوص الفلاحين في مرحلة الثورة الديمقراطية. و على رأس جماهير العمال في مرحلة الصراع من أجل الاشتراكية.
لقد حدد البلاشفة بقيادة لينين، و بدقة، استراتيجية و تكتيك حزب البروليتاريا في مرحلة الثورة الديمقراطية البرجوازية المتصلة بالثورة الاشتراكية:
" على رأس الشعب بكامله، و على الخصوص الفلاحين، من أجل الحرية الكاملة، و من أجل ثورة ديمقراطية متسقة، من أجل الجمهورية.
على رأس العمال و كل المستغَلين من أجل الاشتراكية. هذا ما يجب أن تكون عليه عمليا سياسة البروليتاريا الثورية، هذا هو جدول أعمال الطبقة التي يجب أن تسيطر و تحدد حلول كل المشاكل التكتيكية، كل الإجراءات العملية للحزب خلال الثورة" (لينين)
"على البروليتاريا أن تقوم بالثورة الديمقراطية حتى النهاية، بالتحالف مع الفلاحين لسحق بالقوة مقاومة الأوتوقراطية و شل تذبذب البرجوازية.
على البروليتاريا أن تقوم بالثورة الاشتراكية بالتحالف مع العناصر الشبه البروليتاريا من الشعب لتحطيم بالقوة مقاومة البرجوازية و شل تذبذب الفلاحين و البرجوازية الصغيرة. هذه هي مهام البروليتاريا" (لينين).
5 ـــــ رصد أولي مركز ل"ماركسية" القوى الانتهازية سياسيا و الانتقائية أيديولوجيا
تضع بعض القوى السياسية الفكر الماركسي (وحده) مرجعا لها، بعد تصفيتها الجبانة ("نقد" ممركز وسط صفوف قيادتها و طمس مواقفها عن قواعدها) ل"اللينينية" و عزلهم لها عنها، معتبرين التجربة الثورية البلشفية، هكذا، مجرد تجربة سياسية محدودة تاريخيا كأي تجربة سياسية ثورية أخرى، ناجحة كانت أو فاشلة، وجب فقط استخلاص بعض الدروس منها جميعها. مع تركيزهم المسموم و الموسوم بالإيديولوجية اللبرالية، على الأخطاء العملية لما بعد الانتصار التاريخي لتلك التجربة الثورية الذي به فتحت أمام البروليتاريا أمميا طريقها الثوري و شقت عصر اندحار الرأسمالية، من دون أن تربط تلك القوى أخطاء تلك التجربة و لا حتى فشالاتها، ديالكتيكيا و ليس تقابليا بنجاحاتها و انتصاراتها، و من دون تقديم الدراسات و التحاليل التاريخية النقدية الضرورية لاستخلاص الدروس العملية من تلك الأخطاء.
هذه القوى المدعية للماركسية، "بدون لينينية"، تضرب أخماس في أسداس، حين يتعلق الأمر ببعض الأطروحات الماركسية المركزية: ديكتاتورية البروليتاريا36، العنف الطبقي البروليتاري الثوري و راهنية قيادة البروليتاريا للثورات.
حقيقة، إن تصفية هذه القوى السياسية ل "اللينينية" هو في جوهره تصفية لهذه الأطروحات الماركسية المركزية. فماذا تبقى من ماركسية هؤلاء، و من الماركسية ذاتها في تعاطي هؤلاء لها، بعد تصفيتهم لتلك الأطروحات حول البروليتاريا؟ و انتقائهم لموضوعات هي، من دون ترابطاتها الداخلية و العضوية بالموضوعات الماركسية المركزية حول البروليتاريا، تفقد كليا مضمونها المادي التاريخي الثوري و كونيتها مرحلة الهيمنة الرأسمالية عالميا.
فالحديث عن الصراع الطبقي دون ربطه بحركة البروليتاريا و مهمتها التاريخية في الاستلاء على السلطة السياسية و بناء دولتها الديكتاتورية الثورية، هو حديث لا رابط داخلي له بالفكر الماركسي، بل هو في مضمونه لا يختلف عن مضمون فكر لبرالي القرن التاسع عشر (نحن في هذه الحالة خارج الإطار الفكري الماركسي) الذين أوجدوا موضوعة الطبقات و صراعاتها و بشهادة ماركس نفسه (أنظر رسالة ماركس ل "وايد ماير" بتاريخ 5 مارس 1852).
أما المادية الديالكتيكية التي يقدمها هؤلاء "الماركسيين" على أنها، هكذا فقط، منهجية للتحليل، هي في حقيقتها هنا، أي في أيديولوجية هؤلاء، "ديالكتيكية" من دون مادية، كالأيديولوجية المنفصلة عن طبقتها (الاستيلاب الإيديولوجي). و كأنه، أي هذا الديالكتيك الذي يقدمه لنا هؤلاء "الماركسيين"، هو مفتوح (بنفس المنطق الذي ينوجد عليه جهاز الدولة البرجوازي في تصور أصحاب إيديولوجية التداول السلمي على السلطة و طريق البرلمانية) بيد كل الطبقات، مثقفيها و أحزابها المعبرة عن مصالحها و طموحاتها، تستخدمه (أي الديالكتيك) كلها و ببراعة علماء الرياضيات لتحصيل نفس النتائج بعد طرح نفس البراهين و التحاليل لنفس المسائل و القضايا (المسائل ــ الواقع واحد، و الطريقة ــ المنهجية واحدة، ليكفي فقط الضبط الذهني لعناصر هذه المنهجية و قوانينها في التحليل لتحصيل نفس النتائج السليمة ــ المنطقية).
و كأن المادية الديالكتيكية هي خارج الطبقات هي الاخرى و خارج تاريخ صراعاتها، أو أن كل المسألة، أي مسألة المادية الديالكتيكية، تتلخص كلها في الاستيعاب الفكري ــــ الذهني المجرد من كل موقع اجتماعي (المادة) و من كل ممارسة ــ ديناميكية اجتماعية (حركة) و ما تقدمه هذه الأخيرة من معطيات و معارف (حركة المادة، إلا أنها هي هنا واعية)، و بالتالي، مجردة من كل معرفة يؤطرها و يحددها ذاك الموقع الاجتماعي في ديناميكيته، أي في صراعه ضد مواقع اجتماعية أخرى (فالتناقض هو محرك الأشياء)، على شاكلة ذكاء و عبقرية الاشتراكيين الطوباويين الأوائل الذين ابدعوا في تشييد "مجتمعات اشتراكية" من رماد بعد أن «لم يروا في البروليتاريا أي نشاط تاريخي و لا أي حركة سياسية خاصة بها" البيان الشيوعي.
إن كانت مسألة الديالكتيك المادي بذاك الشكل الذي به تتصوره هذه القوى، فلما لا يبدعون في التعميق و التطوير الذهني لعناصره، و إن اعتقدوا أنه نهائي، و هو واقع الأمر المضمر و الضمني في تقديمهم له، فتلك و بلغة هذه القوى الانتهازية التي ما فتأت تنعت بها اليسار الثوري الماركسي اللينيني، عقائدية و جمود (هنا على هذا المستوى من نهائية الديالكتيك المادي في منظور هؤلاء، يلتقي خط "الجمود العقائدي" مع خط الانتهازية و الانتقائية).
في الحقيقة لن نجد هنا أفضل من ما كتبه انجلز في كتابه "لودفينغ فويرباخ و نهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية" حول هذه المسألة: "كيف باستخدام منهج ثوري بعمق (يقصد الديالكتيك)، نتوصل لنتائج سياسية جد معتدلة".
في الواقع، هذه القوى الانتهازية سياسيا، تتموقع إيديولوجيا في مرحلة ما قبل صعود الماركسية لواجهة الصراع الطبقي و تخندقها طيلة تبلورها النظري في قلب حركة البروليتاريا. فهي، تلك القوى، مرتبطة بسياسة و إيديولوجية البرجوازية اللبرالية و تدافع عمليا على التحالف معها ضد الاستبداد السياسي و الاقتصادي، فهي من أنصار صناعة الوهم ـ البناء الرأسمالي بقيادة برجوازية ( ما يسمى ب"الثورة الوطنية الديمقراطية"، بقيادة برجوازية)، و على الطبقة العاملة، بعد أن تناضل ذيليا37 لإيصال هذه القوى الاجتماعية اللبرالية إلى السلطة، أن تتحمل بنفسها مسؤولية تخليص نفسها مِن مَن أوصلتهم هي إلى السلطة. و كأن تاريخ هذا العالم لم يعرف لا مرحلة إمبريالية، و لا ثورة اشتراكية، و لا انهزام هذه الأطروحات التحريفية إيديولوجيا و سياسيا، و لا إفلاسها تاريخيا.
هذا الأمر، ليس هو فقط تخل عن البروليتاريا و خيانتها من طرف هذه القوى التي تدعي الماركسية، بل هو عمليا قبول بالرأسمالية و استسلام لها. لدى كان النضال البروليتاري ضد الامبريالية و وكلائها المحليين، هو وثيق الصلة بالنضال ضد الانتهازية، و إلا، كما يقول "لينين":"يكون ــ ذاك النضال ــ عبارة فارغة و كاذبة. "
إن من يعادي الثورة البروليتارية ـ ديكتاتورية البروليتاريا و العنف البروليتاري الثوري، إما أنهم لا يعلمون و لا يستوعبون ما يقولون، و هم بهذا يساهمون عمليا في زرع الضبابية و التخبط، أو هم فعلا يعلمون بذلك، و هم بهذا يتخلون علنيا و عمليا، و يخونون قضية البروليتاريا. و في الحالتين معا، هم يخدمون الرجعية القائمة.
حمو العبيوي
يناير 2017