Ok

En poursuivant votre navigation sur ce site, vous acceptez l'utilisation de cookies. Ces derniers assurent le bon fonctionnement de nos services. En savoir plus.

الشرارة - Page 95

  • موضوعات حول المادية التاريخية ــ الحلقة الأولى ــ علي محمود

     

    "فليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، بل، على العكس،

    إن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم" .

    كارل ماركس (مقدمة "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي")

    "في القصور يفكرون غير ما يفكرون في الأكواخ"

    فردريك انجلز ("لويدفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية")

     

    الموضوعة الأولى : في التعريف العام للمادية التاريخية

    ساهم المعلمان البروليتاريان العظيمان كارل ماركس (1818 – 1883) وفردريك انجلز (1820 – 1895) في تزويد البروليتاريا الثورية بسلاحين حادين و حاسمين في نضالها الثوري من أجل المجتمع الاشتراكي والشيوعي، وهذان السلاحان هما المادية الجدلية والمادية التاريخية.

    إن المادية التاريخية جزء لا يتجزأ من الفلسفة الماركسية، وهي في نفس الوقت تشكل قاعدة علمية لسياسة المنظمات والأحزاب الماركسية ـــ اللينينية التي تعرف، حسب لينين، كيف تجمع بين الشغف القوي في النضال الثوري الكبير، والدراسة الأكثر وضوحا، المنجزة بدم بارد للظرف الموضوعي.

    وتهدف المادية التاريخية إلى دراسة بنية المجتمع الإنساني والقوانين التي تحكم تطوره. وبفضل المادية التاريخية أصبح بالإمكان القيام بمقاربة علمية لتطور المجتمع الإنساني، باعتباره سيرورة طبيعية وتاريخية رغم طابعها المعقد المتعدد الأشكال، تخضع لقوانين عامة، وذلك من طرف الفكر العلمي.

    إن معرفة هذه القوانين تسمح بتحديد علمي لمعنى اتجاه تطور المجتمع، ولذلك قيمة كبرى لمن يريد أن يفهم الواقع الاجتماعي، من أجل المساهمة في تغييره ثوريا.

    الموضوعة الثانية : ماركس وانجلز والثورة العلمية في مجال التاريخ

    قبل مجيء كارل ماركس وفردريك انجلز كانت المثالية هي السائدة بشكل كبير في حقل التاريخ، بل كان الفلاسفة الماديون أيضا (ماديو القرن 18 مثلا) ينظرون إلى التطور الاجتماعي باعتباره نتيجة للتغير في المفاهيم والأفكار الاجتماعية، ولذلك كانت ماديتهم ليست إلا نصف مادية لا تتجاوز حدود النظرة إلى الطبيعة، ولم يطبقوا تلك المادية على مجال الحياة الاجتماعية، الشيء الذي تحقق بفضل كارل ماركس وفردريك انجلز، ونتذكر جميعا قولة ماركس الشهيرة :

    "فليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، بل، على العكس،

    إن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم".


    يجد الفلاسفة والمؤرخون صعوبات كبيرة في محاولاتهم لتفسير الظواهر الاجتماعية، ويعود ذلك إلى مجموعة من الأسباب، أهمها كون الحياة الاجتماعية هي نتاج الأنشطة الإنسانية، خلافا للحياة الطبيعية. بمعنى أن الناس يعملون بشكل واعي، فعن طريق الإرادة والذكاء يتابعون في نشاطهم أهدافا محددة، وفي مجهوداتهم لفهم الطبيعة، يصطدم الناس بواقع الأشياء والظواهر، التي توجد مستقلة عن وعيهم، بينما يصبح تفسير ظواهر الحياة الاجتماعية أكثر تعقيدا، ذلك أن أول ما يفقأ العين هو أن الحياة الاجتماعية من صنع الناس، مما يخلق الوهم لديهم بأن العلاقات الاجتماعية قائمة طبقا لوعيهم، ومن تم محددة بالكامل بطموحاتهم وبالأهداف التي يتابعون في نشاطهم.

    في مقالة لينين الشهيرة "كارل ماركس"، يحدد لينين العيبين الأساسيين للمفاهيم القديمة حول التاريخ التي تمنع من فهم التطور الاجتماعي، كسيرورة تخضع لقوانين محددة، وهذان العيبان هما :

    - العيب الأول : يتمثل في النظر إلى النشاط التاريخي للإنسانية عبر الأسباب الإيديولوجية بدون تحليل أسبابها، وبالتالي عدم فهم أن تطور نظام العلاقات الاجتماعية يخضع لقوانين موضوعية، ولذلك وجب البحث عن جدور هذه العلاقات في مستوى تطور الإنتاج المادي.

    - العيب الثاني : يتمثل في تجاهل الجماهير الشعبية واعتبار التاريخ كعمل لهذه الشخصية أو تلك من الشخصيات التي تسمى كبيرة.

    إن مثل هذه التصورات للتاريخ لا تأخذ بعين الاعتبار إلا الأسباب الأكثر مباشرة والأكثر ظاهرية، دون القدرة على تحليل الأسباب الأكثر عمقا التي تتولد عنها، وبناءا عليه، كان المؤرخون المثاليون يعتقدون أنه لتفسير الأحداث التاريخية يكفي توضيح الأفكار التي تلهم المشاركين المباشرين في تلك الأحداث، والأهداف التي يعملون من أجلها. لكن بعد حل هذه الإشكاليات ينطرح سؤال آخر : لماذا هؤلاء المشاركون اختاروا هذه الأهداف دون غيرها ؟ ما هي الأسباب في ذلك ؟

    بطبيعة الحال يظل هذين السؤالين عند المثاليين دون جواب. وبخلاف ذلك لا تتوقف المادية عند حدود تفسير الدوافع الإيديولوجية لتصرف الناس، بل تقوم بتحديد الأسباب المادية. فوفق التصور المادي للتاريخ، فإن الوجود الاجتماعي هو المعطى الأول، بينما الوعي الاجتماعي أو الحياة الفكرية للمجتمع ليست إلا معطى ثاني، الشيء الذي لا يعني أن المادية التاريخية تتجاهل الدور الهائل للأفكار في التطور الاجتماعي، لكنها تنظر إلى تلك الأفكار باعتبارها انعكاسا لظروف الحياة المادية الاجتماعية.

    بإعطائهم للأفكار والتصورات دورا حاسما في تطور التاريخ الإنساني، يتوصل المثاليون إلى نتيجة مفادها أن أصحاب هاته الأفكار (عظماء الرجال، الإيديولوجيون، السياسيون، المشرعون ...) هم من يصنع التاريخ. إن هذا التصور في جوهره لا يعطي أية قيمة للقوى المبدعة والخلاقة للشعب، ويسقط حتما في إنكار قوانين التطور التاريخي، فالتاريخ بهذا المنظور لا يشكل إلا تراكما لوقائع ولدت صدفة وترتبط بالمسارات أو الخصوصيات الفردية لعظماء الرجال.

    إن المذاهب المثالية تبرر وتكرس اضطهاد الجماهير في المجتمعات القائمة على الاستغلال، وتعكس في نفس الوقت الخوف من الطاقة الخلاقة للشعب لدى منظري وإيديولوجي ومؤرخي الطبقات المستغلة، بينما تكشف المادية التاريخية عن الدور الهائل الذي يلعبه الشعب في التاريخ، فالجماهير، أي أولئك الذين يخلقون كل ثروات المجتمع بأيديهم ويضمنون إنتاج الخيرات المادية، إن هؤلاء هم العامل الحاسم في التطور التاريخي.

    إن قول المادية التاريخية بهذا، لا يجعل الماركسية ـــ اللينينية تنكر دور الأفراد والقادة في التاريخ، لكنها تنطلق من أن هذا الدور لا يمكن فهمه بدون فهم قوانين التاريخ، بدون دراسة معمقة لظروف حياة الشعوب والطبقات، مما يظهر ويبرر وجود أفراد يلعبون أدورا مهمة في السيرورة التاريخية.

    فكيف نشأت المادية التاريخية ؟

    لم تظهر المادية التاريخية إلا عندما تهيأت المقدمات الاجتماعية والنظرية والتاريخية لذلك، ويتمثل ذلك في :

    - ظهور المذاهب الاجتماعية وبالأخص الاقتصادية الفرنسية والانجليزية في النصف الثاني من القرن 18 وبداية القرن 19، ونظريات المؤرخين الفرنسيين في النصف الأول من القرن 19، وقد أثارت هذه الأعمال الكثير من الأسئلة الهامة شكل حلها مقدمة للفهم العلمي للحركة الاجتماعية.

    - لتظهر المادية التاريخية كان لابد كذلك أن تتجمع بعض الظروف التاريخية الموضوعية، أي أن العلاقات الاجتماعية تكون قد وصلت درجة من النضج، وكمثال على ذلك، فقد تم اكتشاف قانون الصراع الطبقي الذي بدونه لا نستطيع فهم تطور مجتمع طبقي.

    فقبل ماركس فقد كان هناك اعتراف بوجود مجتمع مقسم إلى طبقات، لكن دون استطاعة الكشف عن حقيقة هذا التقسيم وأسبابه. ففي قلب التشكيلات ما قبل الرأسمالية كان التقسيم معقدا وتراتبيا بشكل كبير يضم الهيئات والطوائف ("كاسط" = caste) والمهن، مما كان يمنع من فهم واضح لهذه الظاهرة، لكن التطور الاجتماعي جعل العلاقات الطبقية تصبح بسيطة، وظهر بوضوح للعيان، مع المرور إلى الرأسمالية، تبعية البنية الطبقية للمجتمع والعلاقات الاقتصادية، هنا فقط، كما سجل ذلك انجلز "اللغز قد تم حله".

    لقد كشف المؤرخون الفرنسيون في مرحلة عودة الملكية (la restauration)، أن وجود الطبقات مرتبط بظروف حياة المجتمع المدني، أي العلاقات الاقتصادية وعلاقات الملكية، لكنهم كانوا عاجزين عن تقديم تفسير علمي لأصل الطبقات، بسبب ضيق أفقهم وفكرهم البورجوازي، وبعدما قدموا تفسيرا منطقيا لتاريخ الثورات البورجوازية الفرنسية والانجليزية، الذي أرجعوه إلى نضال "الهيئة الثالثة" (le tiers-etat) خاصة البورجوازية ضد نبلاء الأرض الإقطاعيين، ولما ظهرت البروليتاريا كقوة مستقلة على مسرح التاريخ تراجع مؤرخو البورجوازية عن فكرة الصراع الطبقي.

    هكذا، ولاستخلاص النتائج الضرورية من وجود الطبقات واكتشاف قانون صراعها، كان لابد من الوقوف على أرضية طبقية جديدة، وهذه الأرضية تمثلها البروليتاريا كطبقة اجتماعية.

    إن العائق الطبقي المشار إليه أعلاه يبرز إلى أي حد كيف أن اكتشاف قوانين التطور الاجتماعي يتم بشكل متأخر عن القوانين الطبيعية، فالطبقات الحاكمة التي كانت تحتكر كل الأنشطة الفكرية كانت لديها مصلحة في تطوير العلوم الطبيعية، التي تخدم بشكل مباشر الإنتاج المادي. وبالمقابل لم تكن هناك نفس المصلحة لفهم الطبيعة العميقة للحياة الاجتماعية، بل كانت تعمل على إخفاء أسباب الظروف السيئة، التي كانت تعيشها الطبقة العاملة، بينما كانت الطبقات الكادحة قابعة في جهل مطبق وغير قادرة عن البحث عن معرفة الظروف التي تسمح لها بالتحرر.

    إن البروليتاريا هي أول طبقة ظهرت على مسرح التاريخ مهتمة بالقضاء على كل أشكال الاضطهاد الطبقي،أي طبقة مهتمة بالمعرفة الموضوعية والدقيقة لاتجاهات التطور الاجتماعي. فبالنسبة للبروليتاريا فمعرفة قوانين التطور الاجتماعي أصبحت ضرورة موضوعية، لأنها وحدها تجعل من الممكن التغيير الثوري للمجتمع الرأسمالي، والانتقال إلى مجتمع اشتراكي يسير نحو الشيوعية.

    إن اكتشاف قوانين التطور الاجتماعي ساهم في انتقال الاشتراكية من اشتراكية طوباوية إلى علم. وهنا انتصبت قامتان عظيمتان ثوريتان وهما كارل ماركس وفردريك انجلز اللذان بلورا المفهوم أو التصور المادي للتاريخ، وأبانا على أن المجتمع، كما الطبيعة يتبع تطورا دياليكتيكيا غير منقطع. هكذا بينا لأول مرة أن الاشتراكية ليست فكرة طوباوية، بل ضرورة تاريخية ستحقق على يد البروليتاريا وحلفائها.

    هكذا فالقاعدة النظرية للاشتراكية العلمية عند ماركس وانجلز مشكلة فلسفيا، والفلسفة التي تقوم عليها هي المادية التاريخية بالإضافة إلى المذهب الاقتصادي.

    وفي معرض حديثه عن عبقرية ماركس في هذا المجال يقول لينين :

    " ... غير أن الثورات العاصفة التي رافقت سقوط الإقطاعية، القنانة، في كل مكان في أوروبا وخاصة في فرنسا، بينت بوضوح متزايد على الدوام أن الصراع الطبقي هو أساس كل التطور وقوته المحركة . فما من حرية سياسية تم انتزاعها من طبقة الإقطاعيين دون مقاومة يائسة. وما من بلد رأسمالي قام على أساس حر، ديموقراطي، إلى هذا الحد أو ذاك، دون نضال حتى الموت بين مختلف طبقات المجتمع الرأسمالي. ومن عبقرية ماركس، أنه كان أول من استخلص هذا الاستنتاج الذي ينطوي عليه التاريخ العالمي، وطبقه بصفة منسجمة إلى النهاية. وهذا الاستنتاج هو مذهب الصراع الطبقي ".

    ولإبراز الأهمية الثورية لما استخلصه ماركس، وطبقه بشكل منسجم إلى النهاية، كتب لنيين أيضا يقول (وهذا يجب أن ينقش في ذاكرة كل مناضل ومناضلة) :

    " لقد كان الناس وسيظلون أبدا في حقل السياسة، سذجا يخدعهم الآخرون ويخدعون أنفسهم، ما لم يتعلموا استشفاف مصالح هذه الطبقات أو تلك، وراء التعابير والبيانات والوعود الأخلاقية والدينية والسياسية والاجتماعية، فعن أنصار الإصلاحات والتحسينات سيكونون أبدا عرضة لخداع المدافعين عن الأوضاع القديمة، طالما لم يدركوا أن قوى هذه الطبقة السائدة أو تلك تدعم كل مؤسسة قديمة، مهما ظهر فيها من بربرية واهتراء. فلكي نسحق مقاومة هذه الطبقات، ليس تمة سوى وسيلة واحدة، هي أن نجد في نفس المجتمع الذي يحيط بنا القوى التي تستطيع ــ وينبغي عليها بحكم وضعها الاجتماعي ــ أن تغدو القوة القادرة على تكنيس القديم وخلق الجديد، ثم أن نشخص هذه القوى وننظمها للنضال ". "مصادر الماركسية الثلاثة وأقسامها المكونة الثلاثة"، لينين.

     

    الموضوعة الثالثة : كيف نشأت المادية التاريخية عند ماركس وانجلز ؟

    - في جدور النظرة المثالية للتاريخ :

    قبل مجيء كارل ماركس وفردريك انجلز سادت حقل التاريخ النظرة المثالية لآلاف السنين، وقد شكل التصور الديني للتاريخ الجدر المعرفي الأول لنشأة المثالية التاريخية.

    قبل الدين الاجتماعي، عرف الإنسان الأول ما يطلق عليه الدين الطبيعي (الإحيائية، الأرواحية)، فأمام العجز عن فهم الظواهر الطبيعية أعطى الإنسان لعناصر الطبيعة روحا وإرادة حيث كان يحاول إرضاءها تلافيا لغضبها وعقابها.

    من هذه النظرة البدائية نشأ المفهوم الديني للتاريخ الذي يرى في تاريخ الإنسان تمظهرا لإرادة إله أو مجموعة من الآلهة، فالمسيحية مثلا، من خلال فكر منظرها الكبير سان أغوسطين (القرن الخامس الميلادي) فالله يتحكم في قدر الإنسان. فالحروب والمجاعات والامبراطوريات التي تتشكل أو تنهار، كل هذا يتحكم فيه القدر( لابروفيدانس = la providence). عند المسيحي فإن تاريخ الإنسان ليس له إلا هدف واحد : ضمان سيطرة الديانة المسيحية وتحقيق مجد الله على الأرض.

    ضمن هذا المنظور، ليس الإنسان سوى شيئا في يد قوى ما فوق الطبيعة، وأن الذات التاريخية ليست إلا الإله، فهو في نفس الوقت الممثل والمخرج للتاريخ.

    وقد نشأت النظرة المثالية للتاريخ على نفس الأرضية مع تحوير للذات التاريخية، التي لم تعد الإله ولكن أفكار الناس كما هو الحال مثلا عند فولتير وفلاسفة الأنوار، بل حتى لدى بعض الفلاسفة الماديين أمثال هولباخ وهيلفيسيوس، وغيرهم ممن كانوا يرون أن الأفكار هي التي تصنع التاريخ. ويشكل التصور الغائي للتاريخ إحدى الأشكال الخاصة للمثالية التاريخية.

    - التصور الغائي أو منظور هيجل للتاريخ :

    عند هيجل فإن الواقع الملموس ليس إلا انعكاسا لفكر الإنسان، يطلق عليه هيجل اسم "الفكرة" أو "الروح"، أو ما يسميه أيضا "العقل الكوني"، الذي يعني به هيجل التعبير بلا جسد عن الفكرة والعقل الإنساني. ضمن هذا التصور للتاريخ، فالأصل في العلاقة بين الروح أو العقل هو الانفصال، لكن خلال مسار التاريخ وبشكل خطي وتدريجي، نقف عند مسار تتحقق فيه أكثر فأكثر الوحدة بين الفكر الفاعل والواقع. إن هذا التطور التاريخي يعود إلى تطور العقل، فذات التاريخ عند هيجل هي ذات متعالية، فالروح أو العقل يعي بشكل تدريجي جوهره ووجوده.

    عند هيجل فإن نوع الحرية الذي يسود في كل مرحلة تاريخية، هو الذي يبين لنا حالة التقدم التي يعرفها تطور العقل. وفي منظور هيجل فهذا التصور للحرية يختزل في تحرر العقل الإنساني ولا يعني التحرر الملموس للإنسان.

    إن التاريخ وتطوره الذي يسيطر فيه العقل له غاية هي : تجسيد العقل في ما يسمح بحرية الجميع، فالتاريخ إذن له معنى منطقيا ومصيرا محددا : التحقيق الكامل والشامل للعقل عبر تعايشه التام مع الواقع، الملموس. وعند هيجل تتحقق هذه الغاية مع الدولة البورجوازية بالشكل الذي تطورت به في عصره، وعلى هذا الأساس، رأى هيجل أن تاريخ الإنسانية كان يسير في اتجاهه نحو هذا الهدف الوحيد الذي لا يمكن تلافيه.

    خلاصة القول فإن هيجل بتصوره للتاريخ يعطي لهذا الأخير غاية وهدفا محددا لا مناص منه، وهذه النظرة تسمى التصور الغائي للتاريخ، وإن دحض هذا المفهوم المثالي للتاريخ سيقع على عاتق اسمان كبيران هما فيورباخ أولا ثم كارل ماركس ثانيا.

    - نحو اكتشاف نظرية المادية التاريخية :

    إن استعمال مصطلح المادية التاريخية يعود إلى سنة 1892، وكان فردريك انجلز أول من استعمله وقام بليخانوف بتعميمه بعده، إلا أن اكتشاف المادية التاريخية قد حصل في منتصف أربعينيات القرن 19 (1844 ــ 1846)، كنتاج لبلورة نظرية انطلاقا من مواد فلسفية (الدياليكتيك الهيجلي ومادية فيورباخ)، وبارتباط مع الصراعات الطبقية التي عرفتها تلك الفترة من حياة كارل ماركس وفردريك انجلز الفكرية والنضالية، فعبر نقد الدين والفلسفة والسياسة (الدولة) اكتشف مؤسسا الماركسية أهمية الظواهر الاقتصادية في فهم المجتمعات الإنسانية.

    إن النقد الديني، من خلال استيعاب نقد فيورباخ للدين الذي أطاح بامبراطورية هيجل المثالية لما أظهر فيورباخ طبيعة الدين باعتباره نتاجا للإنسان الذي بنى لنفسه صورة مثالية كاملة عبر خلقه لإله واحد أحد.

    إن هذا الإسهام قد أبان لماركس حقيقة الطرح الهيجلي، الذي لم يكن سوى تفسيرا مجردا للإنسان يعتمد على الدين، من حيث أن حقيقة المثالية الهيجلية الملخصة في مفهوم "الفكرة المطلقة" الخالقة للكون لم تكن سوى انعكاسا محرفا لفكرة الإلاه المسيحية، وذلك عبر غطاء فلسفي، من هنا انطلق النقد الماركسي لفلسفة هيجل (لقد كانت فلسفة هيجل آنذاك هي المسيطرة)، ولكل المفاهيم المجردة عن الإنسان والمجتمع.

    اعتبر هيجل أن الدولة هي تجسيد للعقل، لذلك سينتقل ماركس وانجلز إلى نقد الدولة، وفي سياق هذا النقد سيكتشفان الأسس التي تقوم عليها الدولة البورجوازية، وينطبق ذلك على كل أشكال الدولة، تلك الأسس التي لا يجب البحث عنها في ذاتها، بل في المجتمع المدني الذي يعبر عن علاقات قوى محددة داخله، ومن تم طرح ماركس وانجلز سؤال لماذا علاقات القوى هاته بين مختلف الطبقات الاجتماعية ؟

    إن هذا السؤال سيقودهما إلى ضرورة دراسة الطريقة التي يتنظم عليها الناس، من أجل ضمان عيشهم، أي الإنتاج، فوجد ماركس وانجلز نفسهما أمام ضرورة دراسة الاقتصاد السياسي.

    إن نقد هيجل لم يكن خاتمة النقد الفلسفي لماركس وانجلز، بل وجه سهام نقدهما كذلك نحو فيورباخ، حيث أظهر هذا النقد محدودية مادية فيورباخ، التي لم تستطع تجاوز حدود مادية القرن 18، فالإنسان عند فيورباخ ليس سوى "شيء حسي"، مما جعل هذا الأخير يغفل جانب "النشاط الحسي" عند الإنسان، فالواقع مشكل من مواجهة بين النظرية والواقع، بين الفكر والواقع، فهذا الإنسان "الحسي" سيتم اعتباره خارج أي تاريخ. بالنسبة لفيورباخ فالمادية والتاريخ منفصلان بشكل كامل، ويظل الإنسان كائنا مجردا لاتاريخيا.

    هكذا، فقد انتقل كل من ماركس وانجلز من نقد مثالية هيجل ومادية فيورباخ التأملية، إلى تطوير تصور جديد للتاريخ (المادية التاريخية) مبرزين أهمية ومكانة الإنتاج المادي والاقتصاد في فهم المجتمعات وتطورها التاريخي.

    - كيف عبر ماركس وانجلز عن اكتشافهما ؟ :

    لقد قام كارل ماركس وفردريك انجلز بعملية قلب للنظرية المثالية الهيجلية. يقول كارل ماركس :

    " فليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، بل، على العكس،

    إن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم".

    والمقصود عموما بالوجود الاجتماعي هو الظروف المعاشية المادية.

    وفي قولة أخرى مشهورة "لا يجب شرح حياة الناس بأفكارهم، ويجب شرح أفكار الناس بحياتهم".

    ويلخص ماركس اكتشافه العلمي الكبير كما يلي : يقول ماركس في مقدمة كتابه "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي"

    "...لاتستطيع العلاقات القانونية والاشكال السياسية للدولة أن تفسر نفسها بنفسها، ولا عن طريق ما يدعى التطور العام للعقل البشري، إن أساسها بالعكس هو في ظروف الحياة المادية التي يطلق عليها هيجل، وهو يحذو حذو الانجليز والفرنسيين في القرن الثامن عشر، اسما من نوع خاص هو" المجتمع المدني"، ويجب أن نبحث في الاقتصاد السياسي عن تشريح المجتمع المدني".

    علي محمود

    18 ـــ 04 ـــ 2017