Ok

En poursuivant votre navigation sur ce site, vous acceptez l'utilisation de cookies. Ces derniers assurent le bon fonctionnement de nos services. En savoir plus.

قراءة في كتاب "ما العمل؟" ــ الجزء الثالث ــ الفصل الأول والثاني

قراءة في كتاب "ما العمل؟"

علي محمود

الجزء الثالث ــــــ الفصل الأول والثاني

"لقد كان الناس وسيظلون أبدا، في حقل السياسة، أناسا سذجا يخدعهم الأخرون ويخدعون أنفسهم، ما لم يتعلموا استشفاف مصالح هذه الطبقات أو تلك وراء التعابير والبيانات والوعود الأخلاقية والدينية والسياسية والاجتماعية"

لينين، المؤلفات، الطبعة الروسية الخامسة، المجلد 23، ص 40-48

بعد الجزء الأول والثاني يقوم الجزء الثالث بعرض وتلخيص لأهم أطروحات كتاب "ما العمل؟"

ما العمل؟

(المسائل الملحة لحركتنا)

مؤلفات ماركس انجلز لينين

لينين "ما العمل؟" ترجمة إلياس شاهين، طبع في الاتحاد السوفياتي 1986، دار التقدم، موسكو

مقدمة "ما العمل؟"

كتبها لينين في فبراير 1902

"تصبح هذه الجريدة جزء من منفاخ حدادة هائل ينفخ في كل شرارة من شرارات النضال الطبقي والسخط الشعبي ويجعل منها حريقا عاما. وحول هذا العمل الذي هو بريء جدا وصغير جدا بحد ذاته، ولكنه منتظم وعام بكل معاني الكلمة، يتعبأ بصورة منتظمة ويتعلم جيش دائم من مناضلين مجربين..."(لينين، ما العمل؟)

يضم الكتاب خمسة فصول:

-الفصل الأول: الجمود العقائدي وحرية النقد

-الفصل الثاني: عفوية الجماهير و وعي الاشتراكية – الديموقراطية

-الفصل الثالث: السياسة التراديونية والسياسة الاشتراكية – الديموقراطية

-الفصل الرابع: عمل الاقتصاديين الحرفي وتنظيم الثوريين

-الفصل الخامس: مشروع جريدة سياسية لعامة روسيا

* لينين قبل صدور كتاب ما العمل؟

ولد لينين في 22 أبريل 1870 في مدينة سمبيرسك الواقعة على ضفاف نهر الفولغا، وتسمى حاليا أوليانوفسك.

تشكلت أفكار لينين الماركسية بشكل نهائي بعد تخرجه من جامعة بترسبورغ و حصوله على الدبلوم من الدرجة الأولى في المحاماة، و انتقاله إلى مدينة سمارة للاستقرار، و كانت هذه المدينة الريفية البعيدة عن مراكز الحركة البروليتارية متعبة و مضجرة بالنسبة له، و كان سعي لينين هو الوصول إلى صميم البروليتاريا الصناعية للنضال الثوري على صعيد واسع، وفي خريف 1893 انتقل لينين إلى مدينة بترسبورغ، فاشترك فورا وبشكل فعال في عمل الحلقات الماركسية، وهنا توطدت وتعززت ثقته بالدور التاريخي الذي تلعبه البروليتاريا، حيث رأى لينين في الطبقة العاملة تجسدا لكل ما هو تقدمي وإنساني: التعطش للعدالة الاجتماعية، الحرية، والسعادة لكافة الكادحين، إمكانية تحقيق الحلم بالعيش برفاهية، والنضال من أجل ذلك بشكل فعال. هكذا وجد لينين في نضاله هذا هدفه في الحياة، وكرس في هذا المجال فكره النابغ وإرادته الحديدية التي لا تقهر.

في صيف 1895، توجه لينين بمبادرة تدعو إلى جمع شمل المجموعات والحلقات الماركسية المتفرقة، وتوحيدها في منظمة سرية واحدة اشتراكية – ديموقراطية ستدخل التاريخ تحت اسم "اتحاد النضال من أجل تحرير الطبقة العاملة"، لكن في دجنبر من السنة نفسها ألقي القبض على لينين ورفاقه في تلك المنظمة.

بعد 16 شهرا في زنزانة سجنه، نفي لينين إلى قرية شوشنسكويه في سيبيريا، وهنا قرأ لينين العديد من الكتب والمؤلفات، ومارس المراسلة على نطاق واسع.

في غضون السنوات الثلاث التي قضاها في المنفى، قام بتأليف أكثر من 13 كتابا وكراسا، منها "تطور الرأسمالية في روسيا"، "مهام الاشتراكيين – الديموقراطيين الروس"، "مشروع برنامج حزبنا"،" تعليقا على ميزة الرومانطيقية الاقتصادية ". خلال تواجده في مدينة سمارة، وفي ظروف السجن والمنفى، قام لينين بدراسة أكثر من 500 كتاب ومجموعة وتقرير ومقالة تتعلق باقتصاد روسيا، ثم قام بمراجعة كتابه بكل عناية، وجمع مواده الرئيسية، ونعني بذلك كتاب "تطور الرأسمالية في روسيا".

كلما اقتربت نهاية فترة النفي السيبيري، كلما ازداد اهتمام لينين وتركيزه على مهام و واجبات العمل الثوري اللاحق، ففي هذا المنفى ابتدع لينين خطة لتكوين الحزب الثوري البروليتاري، وقد أفصح عن هذه الخطة في مقالاته: "برنامجنا"، مهمتنا القريبة، "المسألة الملحة".

ومن آخر أعمال لينين في المنفى كان "مشروع برنامج حزبنا"، حيث سيقترح فيه إيلاء الصراع الطبقي للبروليتاريا سمة أكثر دقة، وتوضيح أهداف وغايات هذا الصراع والطابع العالمي للحركة العمالية الثورية العالمية.

في 29 يناير 1900، انتهت فترة النفي التي حوكم بها لينين، فعاد ليسكن في المدينة الروسية العريقة بيسكوف، ذلك لكونه منع من المكوث في موسكو و بترسبورغ وكافة المراكز الصناعية الأخرى، ومن تلك المدينة أخذ لينين زمام قيادة الحياة الثورية في روسيا، وتجنبا لأخطار التنكيل البوليسي، اضطر لينين في صيف 1900 إلى مغادرة روسيا، بيد أن كافة أعماله ونشاطاته، كانت مكرسة آنذاك لهدف واحد وهو تكوين حزب ماركسي للطبقة العاملة في روسيا، وفي المقالة "المهام الملحة لحركتنا" التي كتبها لينين ونشرها في أول عدد من جريدة "إسكرا"، العدد الأول الذي صدر في دجنبر 1900، سيبين لينين من جديد أن البروليتاريا لن تستطيع النهوض إلى صراع طبقي واعد ما لم يكن لها حزب ماركسي.

* بصدد كتاب ما العمل؟

يعتبر كتاب "ما العمل؟" امتدادا لمخطط لينين الأول، الوارد في مقالة "بما نبدأ؟" الصادرة في جريدة "إسكرا"، العدد 4، ماي 1901. وقد تأخر لينين في إصدار كتابه حسب ما وعد به في تلك المقالة، وذلك بسبب طارئ، وهو أنه جرت سنة 1901 محاولة لتوحيد جميع المنظمات الاشتراكية – الديموقراطية في الخارج، وكان على لينين أن ينتظر نتائج هذه المحاولة، لأن ذلك يؤثر على شكل عرض نظرات "إسكرا" التنظيمية بشكل مختلف، لكن المحاولة باءت بالفشل، وذلك واضح بسبب الانعطاف الجديد نحو الاقتصادوية من جانب "رابوتشي ديلو" في العدد العاشر، وعليه، يقول لينين:

"قد ظهر أن خوض النضال الحازم ضد هذا الاتجاه المائع وغير الواضح المعالم، ولكنه بالمقابل، وبالتالي اتجاه ثابت وقادر على الانبعاث بشتى الأشكال، إنما هو أمر لا مفر منه، وتبعا لذلك، تغير المخطط الأول الموضوع للكراس واتسع جدا.

 لقد كان من المقرر أن يكون الموضوع الرئيسي للكراس المسائل الثلاثة الواردة في مقال "بما نبدأ" وهي: طابع تحريضنا السياسي ومضمونه الرئيسي، ومهامنا التنظيمية، ومشروع إنشاء منظمة كفاحية لعامة روسيا".

ويضيف لينين:

"لكن تبين لي أن تنفيذ الفكرة الأولى والاقتصار على بحث هذه المسائل الثلاث في الكراس وعرض وجهة نظري بشكل إيجابي بقدر الإمكان، دون اللجوء البتة إلى الجدال، أو دون اللجوء إليه إلا لماما، هو أمر غير ممكن التحقيق على الإطلاق لسببين اثنين، فقد اتضح، من جهة، أن الاقتصادوية هي أشد حيوية بكثير مما كنا نقدر".

ويضيف:

"ولم يبق مجال للشك في أن اختلاف وجهات النظر حول حل هذه المسائل الثلاث يفسره التضاد الجدري بين اتجاهي الاشتراكية – الديموقراطية الروسية أكثر بكثير مما يفسره اختلاف وجهات النظر حول الجزئيات".

وباشر لينين صياغة كتابه مخالفا بعض الشيء تصميمه الأول، وذلك بتطرقه لشعار "حرية النقد"، بعد ذلك دخل في القضايا الأساسية، التي سبق أن أعلن عنها، ويقول:

" لماذا لا نستطيع الاتفاق حتى حول المسألة الأساسية – دور الاشتراكية – الديموقراطية في الحركة الجماهيرية العفوية؟ وبعد، إن عرض نظراتنا في طابع التحريض السياسي ومضمونه، قد تحول إلى شرح للفرق بين السياسة التريديونية والسياسة الاشتراكية الديموقراطية. أما عرض نظراتنا في المهام التنظيمية، فقد تحول إلى شرح للفرق بين الطريقة الحرفية، التي ترضي الاقتصادويين وتنظيم الثوريين الضروري في رأينا، وبعد، إني أتمسك بمشروع الجريدة السياسية لعامة روسيا بإصرار متزايد. كلما ازداد بطلان الاعتراضات المقدمة ضده، والتهرب من الجواب على جوهر سؤالي المطروح في مقال "بما نبدأ" وهو: كيف يمكننا أن نبدأ في وقت واحد، ومن جميع الجوانب ببناء المنظمة التي نحن بالحاجة إليها".

إن طابع الصراع الرئيسي الذي خاضه لينين، كان موجها ضد جريدة "رابوتشيه ديلو"، التي اكتسبت أهمية خاصة وتاريخية، لكونها كما يقول لينين قد أعربت بأتم شكل و أوضحه، لا عن الاقتصادوية المتماسكة، بل عن التشويش والتردد الذين كانا الصفة المميزة لمرحلة كاملة من تاريخ الاشتراكية – الديموقراطية الروسية، وأن هذا الجدال مع "رابوتشيه ديلو"، الذي يبدو لأول وهلة مفصل جدا، يكتسب لذلك أهمية أيضا، ما دمنا لا نستطيع متابعة السير إلى الأمام دون أن نصفي هذه المرحلة تصفية هامة.

الفصل الأول

الجمود العقائدي و "حرية النقد"

1) ما معنى "حرية النقد"

في زمن كتابة "ما العمل؟" كان هناك شعار يرفع بين المتجادلين داخل الحركات الثورية أو الحركة الاشتراكية – الديموقراطية العالمية، والخاصية التي تميز هذا الشعار أنه تخطى الحدود المحلية ليصبح عالميا، من خلال التضامن والتآزر ما بين الفرقاء في الداخل والفرقاء في الخارج، وسيتمظهر هذا الشعار فيما يخص فحواه ومضمونه منذ أن أعلن برنشتاين و مليران و أذنابهما ما يسمى باتجاه موقف نقدي مما أسموه بالماركسية القديمة الجامدة.

 ويلخص لينين فحوى ذلك فيما يخص الاشتراكية - الديموقراطية في:

"ينبغي للاشتراكية – الديموقراطية أن تتحول من حزب للثورة الاجتماعية إلى حزب ديموقراطي للإصلاحية الاجتماعية. هذا المطلب السياسي أحاطه برينشتاين ببطارية كبيرة من البراهين والاعتبارات "الجديدة" نسقها تنسيقا لا بأس به، فقد أنكر إمكانية دعم الاشتراكية علميا، وإمكانية البرهان على ضرورتها وحتميتها من وجهة نظر المفهوم المادي للتاريخ. أنكر واقع تزايد البؤس والتحول إلى البروليتاريا، وتفاقم التناقضات الرأسمالية، وأعلن أن مفهوم الهدف النهائي ذاته باطل، ورفض فكرة دكتاتورية البروليتاريا رفضا قاطعا، أنكر التضاد المبدئي بين الليبرالية والاشتراكية، أنكر نظرية الصراع الطبقي، وزعم أنها لا تنطبق على مجتمع ديموقراطي صرف يدار وفق مشيئة الأكثرية ...".

وحول السياق العام الذي نشأ فيه هذا التيار النقدي، يقول لينين:

"وهكذا، فإن مطلب الانعطاف الحاسم من الاشتراكية – الديموقراطية إلى الإصلاحية الاجتماعية البورجوازية، قد رافقه انعطاف لا يقل حسما نحو النقد البورجوازي لجميع أفكار الماركسية الأساسية. ولما كان هذا النقد يساق ضد الماركسية منذ أمد بعيد من المنابر السياسية ومنابر الجامعات، وفي مجموعة كبيرة من الكراريس، وجملة من الأبحاث العلمية. ولما كان الجيل الثاني الناشئ كله من الطبقات المتعلمة يتربى بانتظام وطيلة عشرات السنين على هذا النقد، فلا غرو أن ينبثق الاتجاه "النقدي الجديد" في الاشتراكية – الديموقراطية بشكله المتكامل دفعة واحدة كما انبثقت منيرفا من رأس جوبتير. لم يكن من الضروري أن يتطور هذا الاتجاه ويتكون من حيث مضمونه، فقد نقل نقلا من المطبوعات البورجوازية إلى المطبوعات الاشتراكية.

ودفع لينين الأطروحات البرنشتاينية حتى نهايتها قائلا:

"وبالفعل، إذا كانت الاشتراكية – الديموقراطية ليست في جوهرها إلا حزب الإصلاحات، وإذا كان ينبغي لها أن تجد في نفسها الجرأة على إعلان ذلك أمام الملأ، فعندئذ لا حق للاشتراكي أن يشترك في الوزارة البورجوازية فحسب، بل ينبغي عليه أن ينزع دائما إلى ذلك. وإذا كانت الديموقراطية تعني في جوهرها إلغاء السيادة الطبقية، فلماذا لا يعمد الوزير الاشتراكي إلى إغراء العالم البورجوازي كله بخطابات عن تعاون الطبقات؟، ولماذا لا يبقى في الوزارة، ولو بعد أن جاءت مصارع العمال على يد الدرك دليلا للمرة المائة، بل الألف عن حقيقة الطابع التعاوني الديموقراطي بين الطبقات؟ ولماذا لا يشترك شخصيا في تحية القيصر، الذي لا ينعته الاشتراكيون الفرنسيون في الوقت الحاضر إلا ببطل المشانق والسياط والمنافي؟ وتعويضا عن هذا الحضيض من الهوان الذي سقطت الاشتراكية فيه، والاحتقار الذي جلبته لنفسها أمام العالم كله، وتعويضا عن إفساد الوعي الاشتراكي بين جماهير العمال، وهو الأساس الوحيد الذي في وسعه أن يضمن لنا الانتصار، تعويضا عن كل ذلك نرى مشاريع طنانة لإصلاحات تافهة، حيث أمكن الحصول على أكثر منها من الحكومات البورجوازية".

وفي مكان آخر، يستمر لينين في تحليل هذه الظاهرة ويقول:

"إن الذين لا يتعامون عن عمد يرون لا محالة أن الاتجاه "النقدي" الجديد في الاشتراكية ليس غير مظهر جديد من مظاهر الانتهازية. وإذا حكمنا على الناس لا على أساس الرداء البراق الذي يخلعونه على أنفسهم بأنفسهم، لا على أساس اللقب الطنان الذي ينحلونه لأنفسهم، بل على أساس تصرفاتهم وعلى أساس ما يدعون إليه في الواقع، اتضح:

أن "حرية النقد" تعني حرية الاتجاه الانتهازي في الاشتراكية – الديموقراطية، حرية تحويل الاشتراكية إلى حزب إصلاحي ديموقراطي، حرية إدخال الأفكار البورجوازية والعناصر البورجوازية إلى الاشتراكية. الحرية كلمة عظيمة، ولكن، تحت لواء حرية الصناعة، شنت أفظع حروب السلب والنهب، وتحت لواء حرية العمل جرى نهب الشغيلة، وعبارة "حرية النقد" في استخدامها الحالي تتضمن مثل هذا الزيف. إن الذين يؤمنون بأنهم دفعوا العلم إلى الأمام لا يطلبون حرية وجود المفاهيم الجديدة إلى جانب المفاهيم القديمة، بل إبدال الجديدة بالقديمة، أما الصرخة الحالية: "عاشت "حرية النقد""، فتشبه شديد الشبه حكاية الطبل الأجوف".

وفي نهاية هذا الفصل (جزء منه) يتوجه لينين إلى أنصار "حرية النقد" قائلا:

"صحيح، صحيح أيها السادة! لا في أن تدعوا وحسب، بل وأيضا في الذهاب إلى المكان الذي يطيب لكم، إلى المستنقع إن شئتم، ونحن نرى أن مكانكم أنتم هو المستنقع بالذات، ونحن على استعداد للمساعدة بقدر الطاقة على انتقالكم أنتم إليه، ولكن رجاؤنا أن تتركوا أيدينا، ألا تتعلقوا بأذيالنا، ألا تلطخوا كلمة الحرية العظمى، ذلك لأننا نحن أيضا أحرار في السير إلى حيث نريد، أحرار في النضال لا ضد المستنقع فحسب بل أيضا ضد الذين يعرجون عليه!".

بعدما تطرق لينين إلى التعريف بما سمي "حرية النقد"، وفي التدقيق في منهجيته ومخرجاته ونتائجه، والدعوة إلى وضع حد فاصل بين الاشتراكيين – الديموقراطيين الثوريين وبين أنصار ما يسمى ب "حرية النقد" الانتهازيين، انتقل لينين إلى التعريف بمن أسماهم المدافعون الجدد عن "حرية النقد"، سيتلوه جزء آخر مخصص في التعريف بالنقد في روسيا.

2)المدافعون الجدد عن "حرية النقد"

التصق شعار "حرية النقد" باسم جريدة "رابوتشيه ديلو" لسان حال "الاشتراكيينالديموقراطيين الروس"، وقد طرح الشعار لا كأمر مسلم به نظريا، بل كمطلب سياسي، وكجواب على سؤال: "هل يمكن توحيد المنظمات الاشتراكية – الديموقراطية العاملة في الخارج" "الاتحاد الوطيد يقتضي حرية النقد".

 انطلاقا مما سبق، يمكن الخلوص إلى استنتاجين واضحين كل الوضوح كما يقول لينين:

1-"رابوتشيه ديلو" تأخذ على عاتقها الدفاع عن الاتجاه الانتهازي للاشتراكية – الديموقراطية العالمية بوجه عام"

2-"رابوتشي ديلو" تطلب حرية الانتهازية في الاشتراكية – الديموقراطية الروسية".

يقوم لينين ببحث هذين الاستنتاجين ليسجل ما يلي:

. لقد "أظهرت رابوتشيه ديلو" عدم رضاها بوجه خاص بميل "إسكرا" و "زاريا" إلى التنبؤ بالانفصال بين الجبل و الجيروند في الاشتراكية – الديموقراطية العالمية".

وتقول" رابوتشيه ديلو" زاعمة أنه:

"لا يوجد في الحركة الاشتراكية المعاصرة تصادم بين المصالح الطبقية، فهي بمجموعها وبجميع مظاهرها، بما في ذلك البرنشتاينيون المتطرفون، تقف على مصالح البروليتاريا الطبقية، على صعيد نضالها الطبقي في سبيل تحررها الاقتصادي والطبقي".

يرد لينين بسؤال رئيسي، وهو:

"بم يدعم كاتبنا رأيه، إذ يزعم أن البرنشتاينيين المتطرفين يقفون أيضا على صعيد النضال الطبقي في سبيل تحرير البروليتاريا السياسي والاقتصادي؟ لا ندري، لأن الكاتب لا يقدم أية حجة ودليلا على ذلك".

 وعن سؤال "هل يقف هؤلاء على صعيد نضال البروليتاريا الطبقي؟ يجيب لينين بأنه سؤال لا يمكن لغير التجربة التاريخية أن تجيب عنه الجواب النهائي الفاصل".

"إن القول بأن الحزب الاشتراكي – الديموقراطي الألماني قد حافظ على وحدته لأن الألمان أناس عقلاء، وأن الحزب الفرنسي انقسم لأن الفرنسيين أناس غير متسامحين، أمر يطمس حقيقة المشكل وطبيعته. والحقيقة أن الحزب الاشتراكي – الديموقراطي (الألماني) قد رفض البرينشتاينية مرتين، موجها إنذارا إلى برنشتاين، ولذا، فالتفكير بأن مثل الألمان يثبت دعوى أن البرنشتاينيين المتطرفين يقفون على صعيد نضال البروليتاريا الطبقي في سبيل تحررها الاقتصادي والسياسي، يعني عدم فهم أي شيء على الإطلاق أمام أعين الجميع.

وفي مواجهة لعبة "الغميضة" حيث يتكلم النقاد الجدد عن الإهانات التي يتعرضون لها، أن تتعرض لها حرية النقد، دون ذكر من هم هؤلاء الذين تعرضوا للإهانة، وفيما تتجلى أطروحات النقاد الجدد على الأرض الروسية".

ويخلص لينين إلى:

"إما أن ينبري المرء، ويعلن أن حرية النقد وحرية البرنشتاينية هما شرط لاتحاد الاشتراكيين – الديموقراطيين الروس دون أن يبين مظاهر البرنشتاينية الروسية، والثمار الخاصة التي حملتها، وذلك أشبه بمن يتكلم لكيلا يقول شيئا".

وسيحاول لينين في الجزء الثالث من الفصل الأول، فضح، في بضع كلمات، ما لم ترغب في قوله "رابوتشيه ديلو":

3)النقد في روسيا

عند تحليله لخاصية روسيا الأساسية، قال لينين، أنها تتلخص في كون حركة العمال العفوية من جهة، وانعطاف الرأي العام التقدمي نحو الماركسية من جهة أخرى، قد تميزا منذ بدئهما بالذات باتحاد عناصر غير متجانسة بتاتا تحت لواء مشترك، ومن أجل النضال ضد عدو مشترك، أي ضد عقيدة اجتماعية سياسية انقضى زمنها، ونحن هنا نعني "الماركسية الشرعية" في شهر العسل، وقد كانت هذه، بوجه عام ظاهرة على درجة من الأصالة، بحيث لم يكن هنالك في العقد التاسع من يمكنه حتى أن يصدق ولو بإمكانها، ففي بلاد يسودها الحكم المطلق، في بلاد ترزح صحافتها تحت أشد القيود، وفي عهد رجعية سياسية حالكة تنقض على أقل نبتة من نباتات السخط والاحتجاج السياسيين، تشق نظرية الماركسية الثورية فجأة الطريق لنفسها في المطبوعات الخاضعة للرقابة، معروضة بلغة رمزية، ولكنها مفهومة بالنسبة لجميع الذين يهمهم الأمر، فقد اعتادت الحكومة ألا ترى الخطر إلا في نظرية نارودنايا فوليا الثورية، دون أن تلمح، كما يحدث في المعتاد مجرى تطورها الداخلي، ومبتهجة بكل انتقاد يوجه إليها. وقد مر وقت طويل (طويل بالنسبة لنا نحن الروس) قبل أن تنتبه الحكومة للأمر، وقبل أن يتمكن جيش الرقباء والدركي الثقيل من اكتشاف العدو الجديد ومن الانقضاض عليه. وفي هذه الأثناء كانت الكتب الماركسية تصدر واحدا بعد آخر، وتؤسس المجلات والجرائد الماركسية، وغدا الجميع، بالمعنى الحرفي للكلمة ماركسيين، وغدا الماركسيون موضع الإطراء والرعاية، وكان الناشرون في ذروة الحماسة من شدة الإقبال على اقتناء الكتب الماركسية، ومفهوم تماما أن يكون قد وجد أكثر من كاتب مغرور بين الماركسيين المبتدئين المأخوذين بنشوة النجاح ...

ويقول لينين:

"يمكن اليوم التحدث عن ذلك العهد بهدوء، كما يتحدث الإنسان عن أمور مضت، ولا يخفى على أحد أن ازدهار الماركسية المؤقت على هامش مطبوعاتنا، قد نشأ عن تحالف المتطرفين مع المعتدلين جدا، وقد كان هؤلاء الأخيرين في جوهر الأمر ديموقراطيين بورجوازيين، وهذا الاستنتاج (الذي أثبته فيما بعد تطورهم النقدي) يفرض نفسه فرضا على بعضهم حين كان التحالف لا يزال سليما".

*في مسألة التحالفات:

 سيثير لينين مسألة التحالفات، بعد وجود من يحمل الاشتراكيين – الديموقراطيين الثوريين، الذين عقدوا هذا التحالف مع نقاد الغد، القسط الأكبر من مسؤولية الفتنة التي وقعت بعد ذلك، وهنا بالضبط يتطرق لينين إلى مسألة التحالفات إذ يقول:

"ولكن هؤلاء مخطئون تماما، إذ لا يمكن أن يخشى من الأحلاف المؤقتة ولو مع أناس لا يركن إليهم إلا الذين لا يثقون بأنفسهم. ليس يمكن لأي حزب سياسي أن يعيش بدون أحلاف كهذه، وقد كان التحالف مع "الماركسيين الشرعيين" بمثابة تحالف سياسي حقا، تحققه الاشتراكية – الديموقراطية الروسية، فبفضل هذا التحالف تم الانتصار على الشعبوية بصورة خارقة، وانتشرت الأفكار الماركسية انتشارا واسعا (ولو بشكل بسيط)، هذا، والتحالف لم يعقد البتة بدون أي "شرط"، والبرهان: المجموعة الماركسية "وثائق في مسألة التطور الاقتصادي في روسيا"، التي أحرقتها الرقابة سنة 1895. وإذا أمكن مقارنة الاتفاق مع الماركسيين الشرعيين في حقل المطبوعات بالتحالف السياسي، فإنه تمكن مقارنة هذا الكتاب بالمعاهدة السياسية".

وفي أسباب الانفصال عن هذا التحالف، يقول لينين:

"واضح أن الانفصال لم يحدث بسبب أن الحلفاء قد ظهروا ديموقراطيين بورجوازيين، بل بالعكس. وممثلو هذا الاتجاه الأخير هم حلفاء طبيعيون للاشتراكية – الديموقراطية مرغوب فيهم، ما دامت القضية تتعلق بمهامها الديموقراطية، التي يدفعها إلى المقام الأول، الوضع الراهن في روسيا، ولكن الشرط الذي لابد منه لهذا التحالف، هو أن يجد الاشتراكيون الإمكانية التامة ليبينوا للطبقة العاملة التضاد العدائي بين مصالحها ومصالح البورجوازية، هذا في حين أن البرينشتاينية والاتجاه النقدي، الذين اتجه إليهما أفواج معظم الماركسيين العلنيين، كان من شأنهما أن يسقطا هذه الإمكانية ويفسدا الوعي الاشتراكي بتحقيرهما الماركسية وتبشيرهما بنظرية طمس التناقضات الاجتماعية،  وإعلانهما بطلان نظرية الثورة الاجتماعية ودكتاتورية البروليتاريا، وجعلهما حركة العمال والنضال الطبقي تريديونية ضيقة و نضالا واقعيا في سبيل إصلاحات طفيفة و تدريجية. لقد كان هذا يعني تماما إنكار الديموقراطية البورجوازية على الاشتراكية الحق في الاستقلال، وبالتالي الحق في الوجود، وكان هذا يعني في الواقع النزوع إلى تحويل حركة العمال، وهي في بدايتها إلى ذيل لليبراليين".

"وطبيعي أن الانفصال كان في مثل هذه الظروف أمرا لابد منه، و لكن الخاصية التي تفردت بها روسيا، تجلت في كون هذا الانفصال قد آل إلى مجرد إبعاد  الاشتراكيين –الديموقراطيين عن المطبوعات العلنية الأوسع انتشارا و الأقرب إلى متناول الجمهور، فقد اعتصم فيها الماركسيون السابقون، اللذين تجمعوا تحت شعار "النقد"، و حصلوا على ما يشبه الاحتكار في سحق الماركسية، و سرعان ما أصبحت هتافات : "ضد الأورتودوكسية"، "فلتحيى حرية النقد"، الهتافات التي تكررها الآن "رابوتشيه ديلو"، عبارات تطابق الموضة، و لم يصمد أمام هذه الموضة لا الرقباء و  لا الدرك، يدلنا على ذلك صدور ثلاث طبعات روسية لكتاب برنشتاين الذائع الصيت ... و تواجه الاشتراكيين – الديموقراطيين الآن مهمة  صعبة بحد ذاتها. زادتها صعوبة إلى حد لا يتصور عقبات خارجية صرفة، هي مهمة النضال ضد التيار الجديد، و هذا التيار لم يقتصر على ميدان المطبوعات، فقد رافق الانعطاف نحو النقد ميل مقابل، من جانب الاشتراكيين – الديموقراطيين العاملين في ميدان التطبيق نحو الاقتصادوية".

نشوء تحالف جديد:

هنا، يتحدث لينين عن نشوء تحالف جديد، ويقول في هذا الصدد:

"إن كيفية نشوء و تطور الصلة و التبعية المتبادلة بين "النقد العلني" و الاقتصادوية غير العلنية هي مسألة مهمة، يمكن أن تكون موضوع مقال مستقل، حسبنا أن نشير هنا إلى أن هذه الصلة موجودة دون شك، ف "الكريدو" المشهور ما كان ليكتسب هذه الشهرة المستحقة لو لم يصغ بصراحة هذه الصلة، و يكشف عن غير عمد الاتجاه السياسي الأساسي في الاقتصادوية : ليقم العمال بالنضال الاقتصادي (و كان من الأدق أن يقال :النضال التريديوني، لأن التريديونية تشمل كذلك سياسة عمالية صرفة) و ليندمج المثقفون الماركسيون مع اللبيراليين من أجل النضال السياسي. إن النشاط التريديوني في الشعب قد ظهر تنفيذا للنصف الأول من المهمة، والنقد العلني للنصف الثاني. وقد كان هذا التصريح سلاحا ممتازا ضد الاقتصادوية لدرجة تحتم معها اختراع "الكريدو" لو لم يكن الكريدو موجودا، لم يخترع الكريدو اختراعا، ولكن ينشر دون موافقة واضعيه، وربما رغم ارادة واضعيه".

*وبعد تحديد خصوصية النقد في روسيا، يتساءل لينين عن مهام الاشتراكيين الديموقراطيين الثوريين، مجيبا في نفس الوقت:

"بماذا كان ينبغي أن تتلخص مهمة اللذين أرادوا أن يكونوا خصوم الانتهازيين فعلا، لا قولا فقط؟ كان ينبغي أولا الاهتمام باستئناف ذلك العمل النضالي، الذي لم يكد يبتدئ في عهد الماركسية العلنية، والذي ألقي الآن مرة أخرى على عاتق المناضلين السريين، فبدون هذا العمل لم يكن بالإمكان نمو الحركة بنجاح. وكان من الضروري، ثانيا، القيام بنضال نشيط ضد "النقد العلني"، الذي كان يفسد العقول إفسادا جديدا، وكان من الضروري ثالثا، النضال النشيط ضد التبعثر والتردد في الحركة العملية بكشف ودحض كل محاولة تبذل بوعي أو غير وعي للحط من مكانة برنامجنا وتكتيكنا".

*ملحوظة: حول مفهوم الوحدة

يريد النقاد أن يستمر الناس، باعتبارهم ماركسيين و أن تضمن لهم "حريد النقد" التي استغلوها من جميع الوجوه (لأنهم لم يعترفوا في الجوهر بأي ارتباط حزبي، فضلا عن أنهم لم تكن عندنا أية هيئة حزبية يعترف بها الجميع، و تستطيع أن تحد من حرية النقد و لو بالنصح، و يريد الاقتصادويون من الثوريين أن يعترفوا بالحقوق الكاملة للحركة في وضعها الراهن ... أي بشرعنة وجود ما هو موجود، يريدون ألا يحاول الإيديولوجيون صرف الحركة عن الطريق الذي يحدد تفاعل العناصر المادية و البيئة المادية ... أن يعترف بأن من المرغوب فيه القيام بالنضال الذي يمكن للعمال القيام به في الظروف الراهنة، و أن يعترف بأن النضال الممكن هو ذلك النضال الذي يقومون به في الواقع في الظرف الراهن ...

أما نحن، الاشتراكيون – الديموقراطيون الثوريون، فنحن، على العكس غير راضين عن هذا السجود أمام العفوية، أي أمام ما هو كائن في الظرف الراهن، نحن نطلب تغيير التكتيك الذي ساد في السنوات الأخيرة، ونحن نعلن:

"قبل أن نتحد، ولكي نتحد ينبغي في البدء أن نعين بيننا التخوم بحزم و وضوح ... و بكلمة، يتمسك الألمان بوضع الأمور الراهن، و يرفضون التغيير، و نحن نطلب تغيير وضع الأمور الراهن، رافضين السجود أمام الوضع الراهن و التسليم به".

4)انجلز وأهمية النضال النظري

هنا يقارن لينين بين جريدتين، الأولى "رابوتشي ديلو" والثانية صحيفة ومطبوعات "فرقة التحرير" (1899)، الأولى لا اهتمام لها بالمسألة النظرية، والثانية تدعو إلى ذلك.

ويلخص لينين الموقف كالتالي:

"هكذا نرى أن العبارات الطنانة عن تحجر الفكر، وما إلى ذلك، تخفي وراءها عدم الاهتمام بتطوير الفكر النظري والعجز عن تطويره، وما مثال الاشتراكيين – الديموقراطيين الروس إلا دليل على ظاهرة أوروبية عامة (أشار إليها الماركسيون الألمان أيضا منذ أمد بعيد)، وهي أن حرية النقد السيئة الصيت لا تعني استبدال نظرية بأخرى، بل تعني التحرر من كل نظرية متكاملة و وليدة التفكير، تعني المذهب الاختياري و انعدام المبادئ. ولا بد لكل مطلع على وضع حركتنا الواقعي، وإن جزئيا من أن يلاحظ أن انتشار الماركسية الواسع، رافقه بعض الانحطاط في المستوى النظري. فبسبب النجاحات العملية التي أحرزتها الحركة، وبسبب أهميتها العملية، انضم إليها كثيرون ضعيفون جدا أو صفر من حيث الإعداد النظري. ولذلك يمكننا أن نتبين مبلغ ما تظهر "رابوتشيه ديلو" من قلة ذوق عندما تستشهد، على غرار    المنتصرين بعبارة ماركس:

"إن كل خطوة تخطوها الحركة العملية أهم من دسة من البرامج" (انظر رسالة ماركس إلى براك 1875). إن تكرار هذه الكلمات في مرحلة الاضطراب النظري يشبه صراخ من يصرخ "إن شاء الله دائمة" عند رؤية جنازة. أضف إلى ذلك أن كلمات ماركس مأخوذة من رسالته بصدد برنامج غوتا (44) حيث يندد بشدة بالمذهب الاختياري(الانتقائي) في صياغة المبادئ، فقد كتب ماركس إلى زعماء الحزب:

 إذا كانت هناك من حاجة إلى الاتحاد، فاعقدوا معاهدات بغية بلوغ أهداف عملية تقتضيها الحركة، ولكن إياكم والمساومة بالمبادئ، إياكم والتنازل النظري، وها نحن نجد بيننا أناسا يستغلون اسمه للتقليل من أهمية النظرية! لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية.

إننا لا نبالغ مهما شددنا على هذه الفكرة في مرحلة يسير فيها التبشير الشائع بالانتهازية جنبا إلى جنب مع الميل إلى أشكال النشاط العملي الضيقة جدا.

وتزداد أهمية النظرية بالنسبة للاشتراكية - الديموقراطية الروسية لثلاثة أسباب، كثيرا ما ينسونها، هي: أولا، أن حزبنا ما يزال في طور التكوين، ما يزال في طور تشكيل سيماء وجهه، وهو ما يزال بعيدا عن أن يصفي الحساب مع اتجاهات الفكر الثوري الأخرى، التي تهدد بإخراج الحركة عن الطريق القويم. ففي الآونة الأخيرة، على وجه الضبط، نشاهد بالعكس، انتعاش الاتجاهات الثورية غير الاشتراكية – الديموقراطية (كما تنبأ إكسلرود بذلك "للاقتصاديين" منذ أمد بعيد). وفي هذه الظروف، يمكن لخطأ يبدو لأول وهلة "غير ذي شأن" أن يسفر عن أوخم العواقب، وينبغي للمرء أن يكون قصير النظر حتى يعتبر الجدال بين الفرق والتحديد الدقيق للفروق الصغيرة أمرا في غير أوانه أو لا داعي له. فعلى توطد هذا "الفرق الصغير" أو ذاك قد يتوقف مستقبل الاشتراكية – الديموقراطية الروسية لسنوات طويلة، طويلة جدا".

"ثانيا، إن الحركة الاشتراكية، وهي حركة أممية في جوهرها، وذلك لا يعني فقط أنه يتعين علينا أن نناضل ضد الشوفينية في بلادنا، بل ذلك يعني أيضا أن الحركة المبتدئة في بلاد فتية، لا يمكن أن تكون ناجحة إلا إذا استوعبت تجربة البلدان الأخرى".

"ثالثا، لم يسبق أن طرحت أمام أي حزب اشتراكي في العالم مهام كالمهام الوطنية المطروحة أمام الاشتراكية – الديموقراطية الروسية".

"وبودنا فقط أن نشير هنا إلى أنه لا يستطيع القيام بدور مناضل الطليعة إلا حزب يسترشد بنظرية الطليعة".

انجلز وأهمية النظرية:

"إن انجلز لا يعترف بشكلين اثنين في نضال الاشتراكية – الديموقراطية العظيم (سياسي واقتصادي) –كما جرت العادة عندنا – بل يعترف بثلاثة أشكال، واضعا في مصاف الشكلين المذكورين النضال النظري".

*توصية انجلز لحركة العمال الألمانية (مقطع من كراس "حرب الفلاحين في ألمانيا":

"يمتاز العمال الألمان عن عمال بقية أوروبا بميزتين هامتين. الأولى، انتماؤهم إلى أعرق شعب أوروبي في النظرية، واحتفاظهم بالمكانة النظرية التي فقدتها تماما، أو كادت، الطبقات المدعوة ب "المثقفة" في ألمانيا. فالاشتراكية العلمية الألمانية، وهي الاشتراكية العلمية الوحيدة التي وجدت حتى الآن، ما كانت لتوجد قط لولا الفلسفة الألمانية التي سبقتها، وبوجه خاص فلسفة هيجل. ولولا المكانة النظرية لدى العمال لما تغلغلت الاشتراكية العلمية في دمائهم إلى هذا الحد الذي نراه الآن. ويبين لنا مبلغ عظمة هذه الميزة، من جهة، عدم الاكتراث بأي نظرية، الذي هو سبب من الأسباب الرئيسية التي تجعل حركة العمال الانجليز تتقدم بهذا البطء بالرغم من التنظيم الرائع في بعض الحرف، ويبين لنا ذلك، من جهة أخرى، ما نراه من اضطراب وتردد بذرتهما البرودونية في شكلها البدائي بين الفرنسيين والبلجيكيين، وبشكلها الكاريكاتوري الذي أعطاها إياه باكونين بين الإسبانيين والإيطاليين".

*كامتداد للفقرة أعلاه، يتكلم انجلز عن الميزة العامة للحركة العمالية الألمانية:

-دخول الألمان الحركة العمالية بعد الجميع تقريبا.

-استناد الاشتراكية الألمانية على اسهامات المفكرين الثلاثة العظام: سان سيمون، فوريي وأوين.

-الاستناد إلى خبرة الحركتين الانجليزية والفرنسية والاستفادة منها (نموذج الترديونيات الانجليزية ونضال العمال الفرنسيين السياسي (كومونة باريس).

*ويعترف لينين بقدرة الالمان على الاستفادة من وضعهم ذاك:

"لأول مرة منذ وجدت حركة العمال يجري النضال بصورة منتظمة في جميع اتجاهاته الثلاثة المنسجمة والمترابطة: الاتجاه النظري، الاتجاه السياسي والاتجاه الاقتصادي العملي (مقاومة الرأسماليين). وفي هذا الهجوم المركز، إن أمكن القول، تكمن قوة الحركة الألمانية        ".

*نصيحة انجلز للقادة للحفاظ على الدور الطليعي للحركة:

"سيكون واجب القادة على وجه الخصوص أن يثقفوا أنفسهم أكثر فأكثر في جميع المسائل النظرية، وأن يتخلصوا أكثر فأكثر من تأثير العبارات التقليدية المستعارة عن العقيدة القديمة، وأن يأخذوا دائما بعين الاعتبار أن الاشتراكية منذ أن غدت علما تتطلب أن تعامل كما يعامل العلم، أي تتطلب أن تدرس".

الفصل الثاني

عفوية الجماهير و وعي الاشتراكية – الديموقراطية

(ملخص السياق التاريخي العام لكتاب "ما العمل؟")

1)بدء النهوض العفوي:

يلخص لينين الوضع الروسي:

"والواقع أنه لم يشك أحد حتى الآن، كما يبدو، في أن قوة الحركة المعاصرة تكمن في استيقاظ الجماهير (والبروليتاريا الصناعية بصورة أساسية) وفي أن ضعفها يكمن في عدم كفاية وعي ومبادرة القادة الثوريين".

ويعالج لينين علاقة الوعي بالعفوية نظرا لأن "رابوتشيه ديلو" عكست جيدا طبيعة الخلاف الذي ردته إلى "الاختلاف في تقدير الأهمية النسبية للعنصر العفوي وللعنصر "المنهاجي" "الواعي"، واتهامها ل "إسكرا" ب "التقليل من أهمية العنصر الموضوعي أو العفوي في التطور".

يحلل لينين بدء النهوض العفوي ابتداء من 1896 (إضرابات بترسبورغ وانتشارها في البلاد. لقد كانت عفوية بالدرجة الأولى لكن هناك عفوية وعفوية. إضرابات العقد السابع والثامن (تحطيم عفوي للآلات) أما إضرابات العقد العاشر فيمكن وصفها بالوعي، لعظم خطوتها إلى الأمام "، وهذا ما يوضح لنا أن "العنصر العفوي" ليس في الجوهر غير الشكل الجنيني للوعي". لقد أصبح العمال "يحسونولا أقول، يفهمون- ضرورة المقاومة الجماعية، ويكفون بحزم عن الخنوع الذليل لأصحاب الأمر والنهي" (هذا بالنسبة لإضراب العقد الثامن)"، أما إضرابات العقد العاشر فترينا من ومضات الوعي أكثر بكثير: فقد وضعت مطالب معينة، وحسبت مسبقا اللحظة المناسبة، وبحثت حوادث وأمثلة معروفة من المناطق الأخرى الخ ...

 ولكن، إذا كانت المشاغبات مجرد انتفاضات أناس مظلومين (عقد الثمانينات)، فإن الإضرابات المتوالية، كانت مظهرا من مظاهر النضال الطبقي بشكله الجنيني لا أكثر ولا أقل. وإذا أخذنا هذه الإضرابات بحد ذاتها، وجدنا أنها كانت نضالا تريديونيا، ولم تصبح بعد نضالا اشتراكيا – ديموقراطيا. لقد أفصحت عن بروز التناحر بين العمال وأصحاب الأعمال، ولكن العمال لم يعوا، ولم يكن من الممكن أن يعوا التضاد المستعصي بين مصالحهم وبين كل النظام السياسي والاجتماعي القائم، أي أنهم لم يحصلوا على الوعي الاشتراكي – الديموقراطي. وبهذا المعنى ظلت إضرابات العقد العاشر حركة عفوية محضة بالرغم من التقدم الكبير الذي تم بالقياس إلى "المشاغبات!".

*الوعي من الخارج:

"قلنا أن "الوعي الاشتراكي – الديموقراطي" لم يكن في الإمكان أن يوجد آنئذ لدى العمال، إذ أنه لا يمكن للعمال أن يحصلوا عل هذا الوعي إلا من خارج نطاقهم".

حسب لينين، يشهد تاريخ جميع البلدان على ذلك.

=بقواها الخاصة لا تكتسب الطبقة العاملة فقط غير "الوعي التريديونيوني"

= "الوعي التريديونيوني":

إنه الاقتناع بضرورة الانتظام في نقابات والنضال ضد أصحاب الأعمال ومطالبة الحكومة بإصدار هذه أو تلك من القوانين الضرورية للعمال، ألخ ...

="التريديونيونية" والسياسة:

لا تنفي "التريديونيونية" إطلاقا كل "سياسة"، كما يفكر بعضهم احيانا. فالتريديونيات قد قامت دائما بتحريض سياسي معين، ونضال سياسي معين (ولكنهما ليسا اشتراكيين – ديموقراطيين).

⁼التعاليم الاشتراكية:

 "فقد انبثقت عن النظريات الفلسفية والتاريخية والاقتصادية التي وضعها المتعلمون من ممثلي الطبقات الحاكمة، المثقفون.

إن مؤسسي الاشتراكية العلمية المعاصرة، ماركس و انجلز، ينتسبان أيضا من حيث وضعهما اجتماعي إلى المثقفين البورجوازيين، وكذلك الأمر في روسيا، فقد انبثق مذهب الاشتراكية – الديموقراطية النظري بصورة مستقلة تماما عن النهوض العفوي لحركة العمال، انبثق بوصفه نتيجة طبيعية محتومة لتطور الفكر لذى المثقفين الاشتراكيين الثوريين. وفي الحقبة التي نتحدث عنها، أي بحلول منتصف العقد العاشر، كان هذا المذهب قد جذب إليه أكثرية الشبيبة الثورية في روسيا، فضلا عن أنه غدا برنامجا كامل التكوين لفرقة "تحرير العمل".

[النضال الاقتصادي =النضال الاقتصادي العملي=مقاومة الرأسماليين =النضال المهني أو النقابي أو التريديونيوني] [أدب التشهير الاقتصادي=تناول حياة المعامل والحياة المهنية].

"وهكذا كانت توجد في وقت واحد يقظة عفوية لجماهير العمال، يقظة إلى الحياة الواعية وإلى النضال الواعي، وشبيبة ثورية مسلحة بالنظرية الاشتراكية- الديموقراطية كانت تتحرق رغبة في التقرب من العمال".

"الرعيل الأول من الاشتراكيين – الديموقراطيين، اللذين انصرفوا بحمية في تلك المرحلة إلى التحريض الاقتصادي (...) لم يعتبروه مهمتهم الوحيدة، بل لقد وضعوا أمام الاشتراكية – الديموقراطية الروسية منذ البدء أوسع المهام التاريخية بوجه عام، ومهمة إسقاط الحكم المطلق بوجه خاص. ونقول على سبيل المثال، أن جماعة الاشتراكيين – الديموقراطيين التي أسست في بترسبورغ "اتحاد النضال من أجل تحرير الطبقة العاملة" قد أعدت منذ أواخر عام 1895 العدد الأول من جريدة اسمها "رابوتشيه ديلو"، وكان هذا العدد جاهزا تماما للطبع عندما صادره الدرك أثناء غارة شنها في ليلة 8 إلى 9 دجنبر 1895 من عند أحد أعضاء الجماعة، وهو أناتولي أليكسيفيتش فانييف".

"أما إخفاء القضية، فإن برهن على شيء، فقد برهن على أن الاشتراكيين – الديموقراطيين في ذلك العهد كانوا عاجزين عن الاستجابة لمطلب الساعة، بسبب قلة تجربتهم الثورية ونقص استعدادهم العملي. والشيء نفسه ينبغي أن يقال عن "رابوتشايا غازيتا"، وعن بيان "حزب العمال الاشتراكي – الديموقراطي في روسيا" ".

"فالتجربة الثورية والمهارة التنظيمية أمران يكتسبان اكتسابا، والمهم أن يرغب المرء في تربية نفسه على الصفات المطلوبة!، والمهم أن يعي المرء النواقص، وهو ما يعادل في العمل الثوري أكثر من نصف إصلاح الخطأ! ولكن نصف المصيبة غدا مصيبة كاملة عندما أخذ هذا الوعي يخبو (وقد كان هذا الوعي قويا جدا لدى العاملين في صفوف الجماعات المذكورة أعلاه" عندما ظهر أناس، وحتى صحف اشتراكية – ديموقراطية، مستعدون لأن يجعلوا من النقيصة فضيلة، وحاولوا حتى أن يبرروا نظريا خضوعهم الذليل أما العفوية وتقديسهم لها".

2)تقديس العفوية. "رابوتشايا ميسل"

*عن كيفية انتشار الاقتصادوية داخل "اتحاد تحرير الطبقة العاملة"، يقول لينين:

"في أوائل سنة 1897، أتيح لفانييف ولبعض رفاقه أن يشتركوا، قبل إرسالهم إلى المنفى، في اجتماع خاص التقى فيه "الشيوخ" و "الشباب" من أعضاء "اتحاد النضال من أجل تحرير الطبقة العاملة". وقد دار الحديث بصورة رئيسية حول التنظيم، وبوجه خاص حول النظام الداخلي لصندوق العمال، وقد ظهر على الفور خلاف كبير، واحتدم الجدل بين "الشيوخ" ("الديسمبريين") كما كان يلقبهم آنذاك الاشتراكيون – الديموقراطيون في بترسبورغ مازحين، وبين بعض "الشباب"، اللذين تعاونوا فيما بعد بنشاط مع "رابوتشايا ميسل". وقد دافع الشباب عن الأسس الرئيسية للنظام الداخلي بصيغته المنشورة، وقال الشيوخ: ليس هذا ما نحتاج إليه قبل كل شيء، إنما نحتاج إلى توطيد "اتحاد النضال" لكي ما يصبح منظمة ثورية تخضع لها مختلف صناديق العمال وحلقات الدعاية بين الشباب – الطلبة، الخ ... وغني عن القول أنه لم يخطر في بال المتجادلين أن يروا في هذا الخلاف فاتحة الافتراق، بل اعتبروه على العكس شيئا منعزلا و طارئا. ولكن هذا الواقع يبين أن نشوء الاقتصادوية وانتشارها لم يحدثا في روسيا كذلك بدون نضال ضد الاشتراكيين – الديموقراطييين الشيوخ (الأمر الذي كثيرا ما ينساه الاقتصادويون الحاليون). وإذا كان هذا النضال لم يترك في أكثر الحالات آثارا "وثائقية"، فالسبب الوحيد في ذلك أن تركيب الحلقات       العاملة كان يتغير بسرعة كبيرة جدا، وأنه لم تتكون أية استمرارية، فلم تسجل بالتالي الاختلافات و وجهات النظر في أية وثيقة".

>> دور "رابوتشايا ميسل" في إخراج الاقتصادوية إلى واضح النهار، وقد جاء في افتتاحيتها الحديث عن "كون العامل قد أخذ في النهاية مصيره على عاتقه بعد أن انتزعه من أيدي القادة".

*جواب لينين:

الواقع أن القادة (الاشتراكيون – الديموقراطيون منظمي اتحاد النضال) قد انتزعتهم الشرطة كما يمكن القول، من أيدي العمال. "بدلا من النداء للسير إلى الأمام، إلى توطيد التنظيم الثوري، وتوسيع النشاط السياسي، ارتفعت الدعوة للارتداد إلى الوراء، إلى النضال التريديونيوني وحده".

= هكذا انتشرت شعارات الاقتصادويين:

الشعارات: "العمال للعمال"، "النضال من أجل الحالة الاقتصادية"، صناديق الإضرابات هي "أهم بالنسبة للحركة من مائة منظمة أخرى". "في المقام الأول لا نخبة العمال بدل العامل المتوسط (العادي)". "السياسة تسير دائما بطواعية خلف الاقتصاد، زيادة كوبيك على روبل أغلى وأعز من كل اشتراكية وكل سياسة، وأنه ينبغي لهم أن يقوموا ب "النضال مدركين أنهم إنما يناضلون لا من أجل أجيال مقبلة ما، بل من أجل أنفسهم ومن أجل أولادهم".

= أصبحت موضة، بل وذات تأثير لا يقهر في الشبيبة التي انجرت إلى الحركة، والتي لا تعرف من الماركسية في أكثر الحالات غير فقرات في صياغتها العلنية.

= هناك تحطيم للوعي من قبل العفوية، وقد تم بشكل عفوي "إنه لم يجر عن طريق صراع سافر بين مفهومين متعارضين كل التعارض، وانتصار أحدهما على الآخر، بل عن طريق انتزاع الدرك للثوريين الشيوخ والذي يتزايد باستمرار، وعن طريق بروز عدد متزايد باستمرار من الشباب.

المسألة الثانية: هي أن أنصار "الحركة العمالية الصرفأنصار أوثق الارتباط "العضوي" (...) بالنضال البروليتاري، خصوم جميع المثقفين غير العمال (حتى ولو كانوا مثقفين اشتراكيين)، يضطرون في الدفاع عن مواقفهم إلى الالتجاء إلى حجج التريديونيين فقط البورجوازيين".

وحسب لينين:

"إن كل تقديس لعفوية حركة العمال، كل انتقاص من دور "عنصر الوعي"، دور الاشتراكية – الديموقراطية، يعني – سواء أراد المنتقص أم لم يرد، فليس لذلك أقل أهمية - تقوية نفوذ الإيديولوجيا البورجوازية في العمال. إن كل من يتحدث عن "تقديس أهمية الإيديولوجيا بأكثر مما تستحق" عن المغالاة في دور عنصر الوعي الخ، يتصور أن الحركة العمالية الصرفة، تستطيع بحد ذاتها أن تصنع لنفسها، وأنها ستصنع لنفسها بالتأكيد إيديولوجيا مستقلة، وأن ذلك لا يتطلب غير قيام العمال ب "انتزاع مصيرهم من أيدي القادة، ولكن هذا خطأ فادح".

*لدحض الاطروحة الاقتصادوية المقدسة للعفوية، اعتمد لينين على أطروحة كاوتسكي التي طرحها بصدد مشروع البرنامج الجديد للحزب الاشتراكي – الديموقراطي النمساوي:

"يحسب كثيرون من نقادنا المحرفين أن ماركس قد أكد أن التطور الاقتصادي والنضال الطبقي لا يخلقان ظروف الإنتاج الاشتراكي وحسب، بل يخلقان مباشرة أيضا وعي ضرورته. وها هم هؤلاء النقاد يعترفون بأن انجلترا، البلد الأكثر تطورا من الناحية الرأسمالية، هي أبعد الجميع عن هذا الوعي. إن مشروع البرنامج يفسح مجالا للظن بأن اللجنة التي وضعت البرنامج النمساوي تشارك وجهة النظر هذه، التي يزعم أنها ماركسية ارتودوكسية، والتي يدحضها المثال المشار إليه. فقد جاء في المشروع:

"بمقدار ما تتزايد البروليتاريا نتيجة للتطور الرأسمالي، تزداد اضطرارا إلى النضال ضد الرأسمالية وتحصل على إمكانية هذا النضال. وتصل البروليتاريا إلى إدراك إمكانية الاشتراكية وضرورتها. وعلى هذا الأساس، يبدو الوعي الاشتراكي نتيجة مباشرة محتومة للنضال الطبقي البروليتاري، وهذا غير صحيح على الإطلاق، صحيح أن الاشتراكية بوصفها مذهبا، تستمد جذورها من العلاقات الاقتصادية الراهنة كشأن النضال الطبقي البروليتاري سواء بسواء، وأنها كالنضال الطبقي البروليتاري تنبثق من النضال ضد ما تسببه الرأسمالية للجماهير من فقر وبؤس. غير أن الاشتراكية والنضال الطبقي ينبثقان أحدهما إلى جانب الآخر، لا أحدهما من الآخر. إنهما ينبثقان من مقدمات مختلفة، فالوعي الاشتراكي الراهن لا يمكنه أن ينبثق إلا على أساس معارف علمية عميقة، وبالفعل، فإن العلم الاقتصادي الحديث هو شرط من شروط الإنتاج الاشتراكي، شأنه شأن التكنيك الحديث سواء بسواء. والحال أن البروليتاريا، بالرغم من كل رغبتها لا تستطيع أن تخلق لا هذا ولا ذاك، فكلاهما ينشأ عن التطور الاجتماعي الحديث، هذا وإن العلم ليس بيد البروليتاريا، بل بيد المثقفين البورجوازيين: فالاشتراكية الحديثة نفسها قد انبثقت هي أيضا في رؤوس بعض أعضاء هذه الفئة، وقد نقلها هؤلاء إلى أكثر البروليتاريين تطورا من الناحية الفكرية، الذين أخذوا بعد ذلك يدخلونها في نضال البروليتاريا الطبقي، حيث تسمح الظروف. وعلى ذلك كان الوعي الاشتراكي عنصرا يؤخذ من الخارج وينقل إلى نضال البروليتاريا الطبقي، لا شيئا ينبثق منه بصورة عفوية (........)، ولهذا قيل في برنامج هينفيلد القديم، بحق تماما أن مهمة الاشتراكية – الديموقراطية هي أن تحمل إلى البروليتاريا (حرفيا: تملأ البروليتاريا) وعي وضعها و وعي رسالتها. ولم تكن هناك من حاجة إلى ذلك، لو كان هذا الوعي ينبثق من النضال الطبقي من تلقاء نفسه، أما المشروع الجديد فقد أخذ هذه الفكرة من البرنامج القديم وربطهما بالصيغة المثبتة أعلاه، الأمر الذي قطع بصورة تامة مجرى التفكير ..."

*أما لينين فيضيف:

"ولما كان من غير الممكن حتى أن تكون ثمة إيديولوجيا مستقلة، تصنعها جماهير العمال نفسها في مجرى حركتها موضع بحث، فلا يمكن أن تطرح المسألة إلا بالشكل التالي:

إما إيديولوجيا بورجوازية، وإما إيديولوجيا اشتراكية. وليس ثمة وسط بينهما (لأن البشرية لم تصنع إيديولوجيا "ثالثة"، أضف إلى ذلك أنه في مجتمع تمزقه التناقضات الطبقية لا يمكن أن توجد على الإطلاق إيديولوجيا خارج الطبقات أو فوق الطبقات)، ولذلك فإن كل انتقاص من الإيديولوجيا الاشتراكية، وكل ابتعاد عنها هو في حد ذاته، تمكين للإيديولوجيا البورجوازية وتوطيد لها. ويتحدثون عن العفوية، ولكن التطور العفوي لحركة العمال يسير على وجه الدقة وفق برنامج "الكريدو" لأن الحركة العمالية العفوية هي التريديونية، (....) وما التريديونية غير إخضاع العمال فكريا للبورجوازية، ولذا، فإن واجبنا، واجب الاشتراكية – الديموقراطية، هو النضال ضد العفوية، هو النضال من أجل صرف حركة العمال عن نزوع التريديونية العفوي إلى كنف البورجوازية وجذبها إل كنف الاشتراكية – الديموقراطية الثورية. ولذلك فإن عبارة واضعي الرسالة "الاقتصادية" في العدد 12 من "إسكرا"، هذه العبارة القائلة بأن جميع جهود الإيديولوجيين الأكثر إلهاما لا يمكنها أن تصرف حركة العمال عن الطريق الذي حدده لها تفاعل العناصر المادية والبيئة المادية، تعادل تماما التخلي عن الاشتراكية".

*وجاء في الهامش الموضوع في الفقرة ما يلي:

"ولا يعني ذلك طبعا أن العمال لا يشتركون في وضعها، ولكنهم لا يشتركون في ذلك بوصفهم عمالا، بل بوصفهم من علماء الاشتراكية النظريين، بوصفهم برودون و فيتلينغ وأمثالهما، أي أنهم بعبارة أخرى لا يسهمون في ذلك إلا بمقدار ما يتمكنون من استيعاب معارف عصرهم ومن دفعها إلى الأمام. وكيما يتيسر للعمال ذلك على نطاق أوسع، ينبغي بذل أقصى الجهود لرفع مستوى وعي العمال بوجه عام، ينبغي ألا يحصر العمال أنفسهم في "مطبوعات للعمال" يضيق إطارها بصورة مصطنعة، بل أن يتعلموا استيعاب المزيد والمزيد من المطبوعات للعموم. ومن الأصح أن نقول، بدلا من "ألا يحصر العمال أنفسهم" ألا يحصروا، لأن العمال أنفسهم يقرأون ويريدون أن يقرأوا كل ما يكتب حتى للمثقفين، ولا يعتبر أحد غير بعض المثقفين (الأردياء) أنه يكفي "من أجل العمال" الحديث عن الأنظمة السائدة في المصانع واجترار ما هو معروف منذ أمد بعيد".

3) "جماعة التحرير الذاتي" (نداء مارس 1899) و "رابوتشيه ديلو" (    )

مقال كريتشيفسكي، عدد 7" "النضال الاقتصادي والسياسي في الحركة الروسية"

*"نظرية المراحل" أو نظرية "التعاريج الوجلة"(الملتوية)

إليكم مثلا كيف يعكس هذا المقال "نظرية المراحل" أو نظرية "التعاريج الوجلة" في النضال السياسي":

"إن المطالب السياسية، وهي من حيث طابعها تخص روسيا كلها، ينبغي لها مع ذلك أن تلائم في بادئ الأمر" (كتب هذا في غشت سنة 1900) "التجربة التي اكتسبتها من النضال الاقتصادي فئة معينة (كذا!) من العمال. فعلى صعيد هذه التجربة وحده(!) يمكن ويجب الشروع بالتحريض السياسي" الخ (ص 11). و في الصفحة 4، ينبري الكاتب لدفع اتهامات بالهرطقة الاقتصادية لا تقوم على أساس حسب رأيه، و يصرخ منفعلا: "أي اشتراكي – ديموقراطي لا يعلم أن المصالح الاقتصادية لمختلف الطبقات تلعب، طبقا لتعاليم ماركس و انجلز، دورا حاسما في التاريخ، وأنه، تبعا لذلك، ينبغي لنضال البروليتاريا في سبيل مصالحها الاقتصادية أن يكون، بوجه خاص، ذا أهمية أولية من حيث تطورها الطبقي و نضالها التحريري؟".

*رد لينين:

إن "تبعا لذلك" هذه ليست في مكانها على الإطلاق، فمن كون المصالح الاقتصادية تلعب الدور الفاصل لا يستطيع المرء أن يستنتج بحال أن للنضال الاقتصادي (= المهني) أهمية أولية، لأن مصالح الطبقات الجوهرية "الحاسمة، لا يمكن أن تلبى إلا على أساس تغييرات سياسية جذرية بوجه عام، وهكذا فإن مصلحة البروليتاريا الاقتصادية الأساسية بوجه خاص لا يمكن أن تلبي إلا عن طريق ثورة سياسية تحل دكتاتورية البروليتاريا محل دكتاتورية البورجوازية ...".

تعتقد "رابوتشيه ديلو" أن هناك "تناقضا أساسيا" بين هذه الموضوعة:

"إن الاشتراكية – الديموقراطية، لا تقيد يديها، لا تقيد نشاطها بأي مشروع أو أسلوب يوضع سلفا من مشاريع أو أساليب النضال السياسي، فهي تعترف بجميع وسائل النضال على أن تتلاءم وقوى الحزب الواقعية" الخ ("إسكرا"، العدد 1) 

وبين الموضوعة التالية:

"إن لم توجد منظمة قوية متمرسة بالنضال السياسي وتحسن القيام به في جميع الظروف والمراحل، فلا يمكن أن يكون موضع بحث أي مشروع للعمل، متماسك الأجزاء، موضح بمبادئ ثابتة، وينفذ باستقامة، مشروع يستحق وحده من دون سائر المشاريع تسميته بالتكتيك")"إسكرا"، العدد 4).

تعليق لينين:

"هناك خلط بين اعتراف مبدئي عام وبين المطالبة في ظرف سياسي معين بالاسترشاد بمشروع محدد.

الخلط = "إذا كنا نريد الحديث عن التكتيك، هو أشبه بالخلط بين اعتراف الطب بجميع طرق العلاج، مع مطالبته باتباع طريقة معينة لمعالجة مرض معين".

خلاصة:

"وهكذا يتضح لنا الخطأ الأساسي، الذي يقترفه "الاتجاه الجديد" في الاشتراكية – الديموقراطية الروسية هو تقديس العفوية، هو عجز فهم أن عفوية الجماهير تتطلب منا نحن الاشتراكيين – الديموقراطيين قدرا كبيرا من الوعي. وكلما ارتفع نهوض الجماهير العفوي واتسعت الحركة، كلما ازدادت بأسرع بما لا يقاس الحاجة إلى قدر كبير من الوعي في عمل الاشتراكية – الديموقراطية النظري والسياسي والتنظيمي".

يتبع بالفصل الثالث والرابع