Ok

En poursuivant votre navigation sur ce site, vous acceptez l'utilisation de cookies. Ces derniers assurent le bon fonctionnement de nos services. En savoir plus.

  •  ملخص كتاب "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية"ـ

     الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية

     (شرح مبسط)

     المؤلف: فلاديميراليتش أاوليانوف(لينين)

    ترجمة: دار التقدم – موسكو.

     الكتاب: تمت صياغته من طرف لينين في الفترة الممتدة بين يناير ويونيو 1916. وصدر لأول مرة، في منتصف سنة 1917 ببتروغراد في كراس على حدة عن دار الطبع والنشر"جيزن أي زناييه"("الحياة والمعرفة").و نشرت مقدمة الطبعتين الفرنسية والألمانية في سنة 1921 في مجلة" كومونيستيتشيسكي انترناسيونال"("الأممية الشيوعية") العدد 18.

    لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية

    أهمية سلاح النظرية في بناء الحزب البلشفي

    وقيادة الثورة الاشتراكية العظمى في روسيا.

    (سلسلة ملخصات ومقالات حول أهمية النصوص اللينينية التي ساهمت في بناء الحزب الاشتراكي الديموقراطي العمالي البلشفي الروسي).

     المرحلة الثانية 1912-1924:

    (الحلقة الثانية)

     ملخص كتاب "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية"

     الفصل الأول: الاحتكارات وتمركز الإنتاج

    إن نمو الصناعة الهائل والسرعة الكبرى في سير تمركز الإنتاج في مشاريع تتضخم باستمرار هما خاصة من أخص خصائص الرأسمالية.

    ففي ألمانيا، مثلا، كان يوجد بين كل ألف مشروع صناعي في سنة 1882 -3 ، في سنة 1895 -6 وفي سنة 1907 -9 من المشاريع الكبرى، أي التي يعمل فيها أكثر من 50 من العمال الأجراء. وكانت حصتها في كل مئة عامل 22، 30 و37. فإذا أخذنا في ألمانيا الصناعة بمعنى الكلمة الواسع، أي بما في ذلك التجارة وطرق المواصلات الخ، حصلنا على الصورة التالية: المشاريع الكبرى 30588 من 3265623، أي 0.9% فقط. ولديها من العمال 5 ملايين و700 ألف من 14 مليونا و400ألف أي 39.4%؛ ولديها 6ملايين و 600 ألف حصان بخاري من 8 ملايين و 800ألف، أي 75.3%؛ و1.2 مليون كيلوواط من الطاقة الكهربائية من 1.5 مليون أي 77.2%. ويمكن تلخيص الوضع في الجدول أسفله لنصل إلى

    الاستنتاج التالي:

    • بالنسبة لعدد المشاريع الإجمالي:

    من بين 3265000 من العدد الإجمالي للمشاريع هناك 30588 من المشاريع الكبرى، أي ما يعادل نسبة 1% مقارنة بالعدد الإجمالي للمشاريع كلها. كما أن هناك 586 من المشاريع الضخمة أي ما يعادل نسبة 2% مقارنة بالمشاريع الكبرى وما يعادل ,010% مقارنة بالعدد الإجمالي للمشاريع كلها.  

    • بالنسبة لعدد العمال الإجمالي:

    من بين 14.400.000هناك 5.700.000 من العمال يشتغلون في المشاريع الكبرى، أي أن المشاريع الكبرى تشغل ما يعادل %40 من مجموع العدد الإجمالي للعمال. ومن بين 5.700.000 من عدد العمال في المشاريع الكبرى هناك فقط 586.000 من العمال الذين يشتغلون في المشاريع الضخمة، أي مقارنة بالمشاريع الكبرى، المشاريع الضخمة تشغل %10 من العمال. وإذا ما قارنا بالعدد الإجمالي للعمال فإن المشاريع الضخمة تشغل فقط %4 من العمال.

    • نستخلص أن تمركز الإنتاج أقوى جدا من تمركز العمال، لأن العمل في المشاريع الكبرى ذو إنتاجية أكبر جدا، نظرا لتوفر الماكينات البخارية والمحركات الكهربائية.

    • بالنسبة لاستغلال مجموع الطاقتين الكهربائية والبخارية:

    • المشاريع الكبرى 1% منها تسيطر على 4/3 من مشاريع استغلال الطاقة.

    • المشاريع الصغرى 99% منها، لديها فقط 4/1 من مشاريع استغلال الطاقة.

    • نتيجة: المشاريع الكبرى كل شيء والمشاريع الصغرى لا شيء.

    وفي مثال آخر، هناك نمو تمركز الإنتاج أشد في بلد متقدم آخر من بلدان الرأسمالية الحديثة، في الولايات المتحدة بأمريكا الشمالية. في هذه البلاد تتعمد الإحصاءات إبراز الصناعة بمعنى الكلمة الضيق وتصنيف المشاريع حسب مقادير قيمة الإنتاج السنوي.

    فخلال مرور خمس سنوات، أي منذ 1904 إلى 1909 يمكن تلخيص النتائج كما يلي:

    • بالنسبة لعدد المشاريع الإجمالي:

    • عدد المشاريع الضخمة وصل إلى 1900من أصل 216.180 مشروع إجمالي، وانتقل إلى 3060 مشروع ضخم من أصل 268.491 مشروع إجمالي، أي أن المشاريع الضخمة كانت تمثل فقط ما يعادل %0.9 إلى%1.1 من مجموع المشاريع الإجمالية. فهناك نسبة زيادة هذه المشاريع الضخمة بنسبة %0.2.

    • بالنسبة لعدد العمال الإجمالي:

    • بلغ عدد العمال المشتغلين في المشاريع الضخمة 1400000 عامل من أصل 5500000 عامل، وانتقل إلى 2.000.000 من أصل 6.600.000 عامل. أي أن عدد العمال في المشاريع الضخمة وحدها كان يمثل % 25 إلى%30 من مجموع العدد الإجمالي للعمال. فهناك نسبة زيادة عدد العمال في المشاريع الضخمة ب %5.

    • بالنسبة للإنتاج السنوي الإجمالي:

    • بلغ الإنتاج السنوي للمشاريع الضخمة 5.600.000.000 دولار من أصل 14.800.000.000 دولار لجميع المشاريع، وانتقل إلى 9.000.000.000 دولار من أصل 20.700.000.000 دولار من الإنتاج الإجمالي، مما يعني أن المشاريع الضخمة وحدها كانت تنتج من %38 إلى %43 من مجموع الإنتاج السنوي الإجمالي.

    بصفة عامة ومن خلال المثالين للنموذج الرأسمالي العالمي يستخلص لينين ما يلي:

    • أن % 1 من المشاريع الكبرى الضخمة تنتج حوالي نصف ما تنتجه جميع المشاريع الإجمالية في البلاد.

    • ويتضح من ذلك أن التمركز، عند درجة معينة من تطوره، يوصل بحد ذاته إلى الاحتكار، ويمكن القول، إلى الاحتكار عن كثب. لأن من السهل على بضع عشرات من المشاريع العملاقة أن تتفق فيما بينها: ومن الجهة الأخرى، أن إعاقة المزاحمة والميل إلى الاحتكار ينشآن بالضبط عن ضخامة حجم المشاريع. وصيرورة المزاحمة والميل إلى الاحتكار هي ظاهرة من أهم الظواهر – إن لم تكن الأهم – في اقتصاد الرأسمالية الحديثة.

    • إن من أهم خواص الرأسمالية التي بلغت أعلى مراحل تطورها ما يسمى بالتركيب، أي تجمع في مشروع واحد لفروع صناعية مختلفة تؤلف إمّا درجات متوالية من تلييف الخدمات (مثلا: صهر معدن الحديد وتحويل الزهر إلى فولاذ ، أو ربما كذلك ،إنتاج هذه أو تلك من المصنوعات الجاهزة من الفولاذ)، وأمّا أن يقوم أحدها بدور مساعد للآخر (مثلا: الاستفادة من الفضلات أو من المنتوجات الثانوية؛ إنتاج مواد التعبئة، الخ.).

    • إن كل ما تستطيع هذه الظروف هو تعجيل التمركز وتشكيل اتحادات أصحاب العمل الاحتكارية، الكارتيلات والسنديكات والخ..

    • لقد حاول العلم الرسمي أن يقتل عن طريق مؤامرة الصمت مؤلف ماركس الذي برهن بتحليله النظري والتاريخي للرأسمالية على أن المزاحمة الحرة تولد تمركز الإنتاج وعلى أن هذا التمركز يفضي، عند درجة معينة من تطوره، إلى الاحتكار.

    • إن نشوء الاحتكارات عن تمركز الإنتاج هو القانون العام والأساسي في المرحلة الحديثة من تطور الرأسمالية. ومن الممكن، بالنسبة لأوروبا، أن يحدد بدقة كبيرة زمن حلول الرأسمالية الحديثة نهائيا محل القديمة. إنه، بالضبط، أوائل القرن العشرين.

    • إن النتائج الأساسية لتاريخ الاحتكارات هي، إذن، الآتية:

    1) سنوات العقد السابع والثامن من القرن الماضي هي قمة، ذروة تطور المزاحمة الحرة. لم تكن الاحتكارات غير أجنة بالكاد تلاحظ.

     2) بعد أزمة سنة 1873 جاءت مرحلة نادرة ولم تكن وطيدة بعد. إنها ما تزال ظاهرة عرضية.

     3) نهضة أواخر القرن التاسع عشر وأزمة سنوات 1900-1903: تصبح الكارتيلات أساسا من أسس الحياة الاقتصادية بأكملها. لقد تحولت الرأسمالية إلى إمبريالية.

    • إن الرأسمالية في مرحلتها الإمبريالية توصل رأسا إلى إعطاء الإنتاج صبغة اجتماعية شاملة، وهي تجر الرأسماليين، إن أمكن القول، رغم إرادتهم وإدراكهم، إلى نظام اجتماعي جديد، انتقالي من حرية المزاحمة التامة إلى الاصطباغ التام بالصبغة الاجتماعية.

    • إن ما نراه ليس بصراع بالمزاحمة بين مشاريع صغيرة وكبيرة، متأخرة التكنيك وراقية التكنيك. إن ما نراه هو خنق الاحتكاريين للذين لا يخضعون للاحتكارات ولظلمها وعسفها.

    • إن الكلمات التي أشرنا إليها تبين كنه القضية الذي لا يعترف به الاقتصاديون البرجوازيون إلاّ نادرا، وبغير رغبة، والذي يسعى إلى تجنبه وإهماله جهد طاقتهم المدافعون الحاليون عن الانتهازية وعلى رأسهم كارل كاوتسكي. فعلاقات السيطرة والقسر الناجم عنها هو ما يميز «المرحلة الحديثة في تطور الرأسمالية»، هو ما كان لا بد أن ينتج، وما نتج فعلا، عن تشكل الاحتكارات الاقتصادية الكلية القدرة.

    • ، إن الاحتكار، عندما ينشأ في بعض الفروع الصناعية، يشدد ويزيد الفوضى التي تلازم الإنتاج الرأسمالي بأكمله. فعدم التناسب بين تطور الزراعة والصناعة، الأمر المميز للرأسمالية بوجه عام، يزداد لدرجة أكبر. إذ أن الوضع الممتاز الذي تجد فيه نفسها الصناعة الأكثر تنظيما في الكارتيلات، ما يسمى بالصناعة الثقيلة، ولاسيما صناعة الفحم والحديد، يفضي، في الفروع الصناعية الأخرى، إلى «انعدام المنهاجية لدرجة أشد» كما يعترف ييدلس الذي وضع كتابا من أحسن الكتب عن «العلاقات بين البنوك الألمانية الكبرى والصناعة.

    • إن الاحتكار هو آخر كلمة لـ«أحدث المراحل في تطور الرأسمالية». ولكن تصورنا لمدى قوة وأهمية الاحتكارات الحديثة يكون غير واف أبدا وغير تام، ومنقوصا إن لم نأخذ بعين الاعتبار دور البنوك.

    الفصل الثاني: البنوك ودورها الجديد

    إن وظيفة البنوك الأساسية والأولى هي الوساطة في الدفع. وأثناء ذلك تحول البنوك الرأسمال النقدي غير العامل إلى رأسمال عامل، أي إلى رأسمال يدر الأرباح، وتجمع العائدات النقدية بشتى أنواعها وتضعها تحت تصرف طبقة الرأسماليين. ومع تطور الشؤون البنكية وتمركزها في مؤسسات قليلة العدد، تتحول البنوك من وسطاء متواضعين إلى احتكارات شديدة الحول والطول تتصرف بمعظم الرأسمال النقدي العائد لمجموع الرأسماليين وصغار أصحاب الأعمال وكذلك بالقسم الأكبر من وسائل الإنتاج ومصادر الخامات في بلاد معينة أو في جملة من البلدان. وتحول الوسطاء الكثيرون المتواضعون إلى حفنة من الاحتكاريين، هو وجه أساسي من وجوه صيرورة الرأسمالية إلى امبريالية رأسمالية، ولذا ينبغي لنا أن نتناول في المقام الأول تمركز البنوك.

    فمثلا في سنة 1907-1908 كانت الودائع في جميع البنوك الألمانية المساهمة التي يزيد رأسمال كل منها عن 1 مليون مارك تبلغ 7 مليارات مارك؛

     وفي سنة 1912-1913 بلغت الودائع 9.8 مليار مارك. لقد بلغت الزيادة خلال خمس سنوات 2.8 مليار، أي 40%؛ منها 2.75 مليار مودعة في 57 بنكا رأسمال كل منها 10 ملايين مارك.

    وفي أواخر سنة 1913 قدر شولتزه-غيفيرنيتز الودائع في البنوك البرلينية التسعة الكبرى بـ 5.1 مليار مارك من مجموع مبلغ من 10 مليارات. وقد كتب المؤلف نفسه آخذا بعين الاعتبار مجموع الرأسمال البنكي، لا الودائع وحدها: «في أواخر سنة 1909، كانت البنوك البرلينية التسعة الكبرى، مع البنوك المرتبطة بها، تدير 11.3 مليار مارك، أي نحو 83% من مجموع مبالغ الرأسمال البنكي في ألمانيا.

    «فالبنك الألماني» («Deutche Bank») الذي يدير مع البنوك المرتبطة به مبلغا يقرب من 3 مليارات مارك هو، إلى جانب الإدارة البروسية لسكك حديد الدولة، عبارة عن التراكم الأكبر والأقل مركزية للرأسمال في العالم القديم.

    يستنتج لينين من هذا المثال أن البنوك الصغيرة أزيحت من قبل البنوك الكبرى التي تركز تسعة منها فقط نحو نصف مجموع الودائع. ولكن أشياء كثيرة لم تؤخذ هنا بعين الاعتبار، منها مثلا تحول جملة من البنوك الصغيرة في الواقع إلى فروع للبنوك الكبرى وغير ذلك.

    لقد أشرنا(لينين) إلى كلمة البنوك «المرتبطة»، لان ذلك يتعلق بخاصة من أهم الخواص المميزة للتمركز الرأسمالي الحديث. فالمشاريع الكبرى، ولاسيما البنوك، لا تبتلع الصغيرة بصورة مباشرة وحسب، بل «تربطها» بنفسها وتخضعها وتضمها إلى «مجموعاتـها»، إلى «كونسرنــها» حسب التعبير الفني، وذلك عن طريق «الاشتراك» في رأسمالها، عن طريق شراء أو تبادل الأسهم، عن طريق نظام القروض وهلم جرا ، وغير ذلك.

    ولنذكر مثلا عمليا عن طريقة الارتباط هاته:

    في العدد الـ8 بنوك «من تبعية الدرجة الأولى» التي تخضع «للبنك الألماني» «من وقت لآخر» ثلاثة بنوك أجنبية: إحداها نمساوي («الاتحاد البنكي» في فيينا  «Bankverein») واثنان روسيان (البنك التجاري السيبيري والبنك الروسي للتجارة الخارجية). ومجموعة «البنك الألماني» تضم مباشرة وغير مباشرة، كليا وجزئيا 17 بنكا؛ ومجمل الرأسمال الذي تتصرف به مجموعة «البنك الألماني» – رأسمالها الخاص والودائع – يقدر بـ 2-3 مليارات مارك.

    وفي فرنسا أيضا، طورت البنوك الكبرى الثلاثة، «Crédit Lyonnais» («كريدي ليونيه»)، «Comptoir National» («كونتوار ناسيونال») و«Société Générale» («سوسييتي جينرال») عملياتها وشبكة فروعها، حيث مثلا عرف البنك الباريسي الكبير «كريدي ليونيه» ارتفاعا في عدد الحسابات الجارية من 28535 في سنة 1875 إلى 633539 في سنة 1912.

    و«شبكة البنوك» هذه هي أكثر كثافة أيضا في البلدان الرأسمالية الأقدم. ففي إنجلترا مع ارلنده بلغت فروع جميع البنوك في سنة 1910-  7151 فرع. وكان لدى كل بنك من البنوك الأربعة الكبرى أكثر من 400 فرع (من 447 إلى 689)، وكانت هناك 4 بنوك أخرى لدى كل منها أكثر من 300، و11 بنكا لدى كل منها أكثر من 100 فرع

    وهكذا نرى كيف تتسع بسرعة شبكة القنوات الكثيفة شاملة البلاد من أقصاها إلى أقصاها ومركزة جميع الرساميل والمداخيل النقدية وجاعلة من الألوف المؤلفة من المشاريع المبعثرة اقتصادا رأسماليا وطنيا موحدا ثم اقتصادا رأسماليا عالميا. فمن الرأسماليين المبعثرين يتكون رأسمالي واحد مشترك. وإذ يقوم البنك بالحسابات الجارية لعدد من الرأسماليين يبدو وكأنه يقوم بعملية تكنيكية بحتة، بعملية مساعدة لا غير. ولكن عندما تبلغ هذه العملية مقاييس هائلة تكون النتيجة أن حفنة من الاحتكاريين تخضع لنفسها العمليات التجارية والصناعية في المجتمع الرأسمالي كله، إذ تتوفر لها – بفضل الصلات بين البنوك وعن طريق الحسابات الجارية والعمليات المالية الأخرى – الإمكانية لتعرف في  بادئ الأمر على وجه الدقة حالة الأعمال لدى كل رأسمالي على حدة ثم للإشراف عليهم والتأثير عليهم عن طريق توسيع أو تضييق، تسهيل أو تصعيب التسليف، وأخيرا لتقرر بصورة تامة مصائرهم، لتحدد مداخيلهم، لتحرمهم من الرأسمال أو لتمكنهم من تضخيم رساميلهم بسرعة وبمقادير هائلة، الخ.

    لقد كتب ماركس منذ نصف قرن في مؤلفه «رأس المال» أن «البنوك تنشئ على النطاق الاجتماعي شكلا، وشكلا فقط، لا غير، للمحاسبة العامة والتوزيع العام لوسائل الإنتاج» (الترجمة الروسية، المجلد 3، الجزء2، ص 144). إن ما ذكرناه من معطيات عن تزايد الرأسمال البنكي وعن تزايد عدد مكاتب وفروع البنوك الكبرى وعدد حساباتها الجارية وغير ذلك يبين لنا بصورة جلية هذه «المحاسبة العامة» لطبقة الرأسماليين جميعها، وحتى غير الرأسماليين لأن البنوك تجمع، ولو لوقت ما، مختلف أنواع المداخيل النقدية العائدة لصغار أصحاب الأعمال والموظفين والمرتبة العليا الضئيلة من العمال. «التوزيع العام لوسائل الإنتاج» هو ما ينجم، من ناحية الأمر الشكلية، عن البنوك الحديثة التي تتصرف، في شخص ثلاثة أو ستة بنوك ضخمة في فرنسا وستة أو ثمانية في ألمانيا، بالمليارات العديدة. ولكن هذا التوزيع لوسائل الانتاج ليس/ من حيث مضمونه، «بعام» فقط، بل هو خاص، أي أنه يتم وفق مصالح الرأسمال الضخم، وفي الدرجة الأولى الرأسمال الأضخم، الإحتكاري، الذي يعمل في ظروف يقاسي فيها جمهور السكان شظف العيش ويتأخر فيها تطور الزراعة برمته تأخرا يدعو للقنوط عن تطور الصناعة، بينما يتقاضى فرع واحد منها، «الصناعة الثقيلة»، الجزية من سائر فروعها الأخرى.

    إن حلول الرأسمالية الجديدة التي يسيطر فيها الاحتكار محل القديمة التي تسيطر فيها المزاحمة الحرة يتجلى فيما يتجلى في انحطاط أهمية البورصة. فقد كتبت مجلة «البنك»: «إن البورصة قد كفت من أمد بعيد عن أن تكون الوسيط الذي لا يستغني عنه في التداول كما كانت فيما مضى، قبل أن يصبح بإمكان البنوك أن توزع بين زبائنها القسم الأكبر من الأوراق المالية الصادرة».

    «كل بنك - بورصة». إن هذه العبارة التي جرت مجرى الأمثال في الزمن الحديث تتضمن من الحقيقة قدرا يغدو أكبر بمقدار تضخم البنك وبمقدار ما يحوز التمركز نجاحات أكبر في ميدان النشاط البنكي». «وإذا كانت البورصة فيما مضى، في السبعينات، مع ما كانت تتصف به من نزق الشباب» (تلميح «ناعم» إلى إفلاس البورصة في سنة 1873 وإلى فضائح غروندير وغير ذلك) «قد فتحت عهد تصنيع ألمانيا، فقد أصبح، إذن، بإمكان البنوك والصناعة في الوقت الحاضر أن «تنهض بالأمر وحدها». فسيطرة بنوكنا الكبرى على البورصة… ليس إلاّ تعبيرا عن الدولة الصناعية الألمانية المنظمة أكمل تنظيم. وإذا كان نطاق تأثير القوانين الاقتصادية النافذة أوتوماتيكيا يتقلص بهذا الشكل ويتسع، لحد خارق، نطاق الضبط الواعي من خلال البنوك، فبنتيجة ذلك تزداد لدرجة كبرى مسؤولية العدد القليل من القواد على الاقتصاد الوطني» – هذا ما كتبه البروفيسور الألماني شولتزه –غيفيرنيتز(14) المدافع عن الإمبريالية الألمانية والذي يعتبر شخصا نافذ الكلمة عند الامبرياليين في جميع البلدان ويسعى إلى طمس «أمر تافه» هو أن هذا «الضبط الواعي» من خلال البنوك يتلخص في نهب الجمهور من قبل حفنة من الاحتكاريين «المنظمين أكمل تنظيم». فإن مهمة البروفيسور البرجوازي ليست في كشف أحابيل الاحتكاريين أصحاب البنوك ولا فضح احتيالاتهم، بل في تجميلها. وكذلك ريسر، الاقتصادي و«البنكير» الأبعد صيتا، يكتفي بعبارات فارغة بصدد وقائع يستحيل انكارها: «تفقد البورصة أكثر فأكثر خاصيتها التي لا غنى عنها مطلقا للاقتصاد كله ولتداول الأوراق المالية، وهي كونها المقياس الأكثر دقة، وكذلك ضابطا للحركات الاقتصادية المتجهة نحوها، يعمل بصورة أوتوماتيكية تقريبا». وبعبارة أخرى: إن الرأسمالية القديمة، رأسمالية المزاحمة الحرة مع ضابطها الذي لا يمكنها الاستغناء عنه، البورصة، تغيب في طيات الماضي. تحل محلها رأسمالية جديدة تتسم بسمات انتقالية بينة، بسمات مزيج من المزاحمة الحرة والاحتكار.

    يجيب لينين على هاته التفاهات ويقول إن من بين العدد الضئيل من البنوك التي تبقى في رأس الاقتصاد الرأسمالي بأكمله بحكم سير التمركز يظهر بصورة طبيعية ويشتد أكثر فأكثر الميل إلى الاتفاق الاحتكاري، إلى تروست بين البنوك. ليس في أمريكا تسعة بنوك، بل بنكان من أكبر البنوك عائدان لصاحبي المليارات روكفلر ومورغان، يسيطرون على رأسمال مقداره 11 مليار مارك. لقد أشرنا فيما تقدم إلى ابتلاع «شركة الخصم» «لبنك شافهاوزن الإتحادي» في ألمانيا. وقد أعطت جريدة «فرانكفورت زايتونغ» المعبرة عن مصالح البورصة لهذا الأمر التقدير التالي:

    «مع اشتداد تمركز البنوك تتقلص دائرة المؤسسات التي يمكن بوجه عام أن تطلب منها القروض، وبحكم ذلك تشتد تبعية الصناعة الكبيرة لعدد ضئيل من المجموعات البنوك. وفي ظل الصلة الوثقى القائمة بين الصناعة وعالم رجال المال تقيد حرية حركة الشركات الصناعية المحتاجة لرأسمال البنوك. ولهذا تنظر الصناعة الكبيرة إلى اشتداد تكتل البنوك في التروستات (انضمام أو تحول إلى تروستات) بمشاعر مختلطة؛ الواقع أنه قد لوحظت مرارا بوادر اتفاقات معينة بين هذه أو تلك من اتحادات البنوك الكبرى، اتفاقات هدفها تقييد المزاحمة».

    أمّا بخصوص الصلة الوثقى القائمة بين البنوك والصناعة، ففي هذا الميدان بالضبط يبدو دور البنوك الجديدة، ربما بأجلى شكل. وإلى جانب ذلك يتطور، إن أمكن القول، الاتحاد الشخصي بين البنوك والمشاريع الصناعية والتجارية الكبرى واندماج هذه وتلك عن طريق تملك الأسهم، عن طريق دخول مدراء البنوك في عضوية مجالس مراقبة (أو مجالس إدارة) المشاريع الصناعية والتجارية، وبالعكس. لقد جمع الاقتصادي الألماني ييدلس معلومات مفصلة عن هذا الشكل من تمركز المشاريع. فثمة ستة بنوك برلينيين كبرى كانت ممثلة بواسطة مدراءها في 344 شركة صناعية وبواسطة أعضاء مجالس إدارتها في 407 شركات أخرى، أي في 751 شركة بالمجموع. وكان لها في 289 من هذه الشركات إمّا عضوان في مجالس المراقبة أو منصب الرئاسة في هذه المجالس. وبين هذه الشركات الصناعية التجارية نصادف مختلف فروع الصناعة والتأمين وطرق المواصلات والمطاعم والمسارح وصناعة المنتوجات الفنية وغير ذلك. ومن الجهة الأخرى وجد (في سنة 1910) في مجلس مراقبة هذه البنوك الستة نفسها 51 من كبار الصناعيين منهم مدير شركة كروب، ومدير شركة البواخر الهائلة «Hapag» (Hamburg-Amerika) (19) وهلم جرا والخ.

    وتكون النتيجة، من جهة، اندماج متزايد، أو كما أحسن التعبير بوخارين، اقتران الرأسمال البنكي والصناعي؛ ومن الجهة الأخرى، صيرورة البنوك إلى مؤسسات ذات «طابع شامل» حقا. وها نحن نرى مرة أخرى أن الكلمة الأخيرة في تطور النشاط البنكي هي الاحتكار.

    ولا ريب في أن المشرفين على البنوك الكبرى أنفسهم يرون أن ظروفا جديدة للاقتصاد الوطني آخذة في التكوين؛ ولكنهم عاجزون إزاءها.

    انقضى عهد الرأسمالية القديمة. والجديدة هي انتقال إلى جديد ما. أمّا البحث عن «مبادئ وطيدة وهدف معين» «للتوفيق» بين الاحتكارات والمزاحمة الحرة فهو باطل طبعا. فاعترافات أصحاب الخبرة لا تشبه بوجه المديح الذي يكيله لفضائل الرأسمالية «المنظمة» المدافعون الرسميون عنها من أمثال شولتزه-غيفيرنيتز وليفمن ومن لف لفهم من «النظريين».

    إذن، إن القرن العشرين هو نقطة التحول من الرأسمالية القديمة إلى الحديثة، من سيطرة الرأسمال بوجه عام إلى سيطرة الرأسمال المالي.

    الفصل الثالث : الرأسمال المالي والطغمة المالية

    كتب هيلفردينغ: «إن قسما متزايدا من الرأسمال الصناعي لا يعود إلى الصناعيين الذين يستخدمونه. وهم لا يستطيعون الحصول على امكانية التصرف به إلاّ عن طريق البنك الذي يمثل ازاءهم مالك الرأسمال. ومن الجهة الأخرى يتأتى على البنك أن يوظف في الصناعة قسما متزايدا من رأسماله. وبسبب ذلك يصبح أكثر فأكثر رأسماليا صناعيا. وهذا الرأسمال البنكي – أي الرأسمال النقدي – الذي تم تحويله بهذه الطريقة إلى رأسمال صناعي في الواقع، أسميه «الرأسمال المالي». «فالرأسمال المالي، هو إذن الرأسمال الموجود تحت تصرف البنوك، والذي يستخدمه الصناعيون».

    وهذا التعريف غير كامل لأنه لا يشير إلى ظروف في منتهى الأهميةـ نعني به نمو تمركز الإنتاج الرأسمالي إلى درجة يفضي معها التمركز وقد أفضى إلى الاحتكار. بيد أن مبحث هيلفردينغ بوجه عام، ولا سيما الفصلين السابقين للفصل الذي اقتبسنا منه هذا التعريف، يؤكد دور الاحتكارات الرأسمالية.

    يستنتج لينين أن:

    • تمركز الإنتاج؛ الاحتكارات الناشئة عن هذا التمركز؛ اندماج أو اقتران البنوك والصناعة – هذا هو تاريخ نشوء الرأسمال المالي وفحوى هذا المفهوم.

    ينبغي علينا أن نبين الآن أن «تحكم» الاحتكارات الرأسمالية في الوضع العام للإنتاج البضاعي وللملكية الخاصة يصير بصورة محتومة إلى سيطرة الطغمة المالية. ولنلاحظ أن ممثلي العلم البرجوازي الألماني – وغير الألماني – أمثال ريسر و شولتزه-غيفيرنيتز وليفمن وأضرابهم هم جميعا من مداحي الإمبريالية والرأسمال المالي. فهم لا يكشفون، بل يطمسون ويطلون بالأصباغ «آلية» نشوء الطغمة المالية وأحابيلها ومقادير مداخيلها «الحلال والحرام» وصلاتها بالبرلمانات وغير ذلك والخ.. وهم يتخلصون من «المسائل اللعينة» بالعبارات الطنانة الرنانة المبهمة وبنداءات لإيقاظ «شعور المسؤولية» لدى مدراء البنوك وبكيل المديح لـ«شعور الواجب» لدى الموظفين البروسيين وبتحليل جدي لتفاصيل مشروعات قوانين لا قيمة لها على الإطلاق بصدد «المراقبة» و«التحديد» وبلغو نظري من نوع، مثلاً، التعريف «العملي» المزعوم الذي سجله البروفسور ليفمن: «… التجارة هي نشاط عملي هدفه جمع الخيرات وحفظها ووضعها تحت التصرف». (حرف التأكيد في المؤلف للبروفيسور نفسه… يستنتج إذن أن التجارة كان يمارسها الإنسان البدائي أيضا الذي كان يجهل التبادل وأنها ستبقى كذلك في المجتمع الاشتراكي!

    • بيد أن الوقائع الفظيعة التي تتعلق بسيطرة الطغمة المالية الفظيعة تفقأ العين، ولذا نشأ في جميع البلدان الرأسمالية، في أمريكا وفي فرنسا وفي ألمانيا، أدب يتمسك بوجهة النظر البرجوازية، ولكنه يعطي مع ذلك عن الطغمة المالية صورة صادقة تقريبا وينتقدها، وإن انتقادا مبتذلا طبعاً.

    إن هذه العملية التي ينتظر منها السفسطائيون البرجوازيون والانتهازيون «الاشتراكيون-الديموقراطيون هم أيضا» (أو يؤكدون أنهم ينتظرون منها) «اصطباغ الرأسمال بالصبغة الديموقراطية» وتعاظم دور وأهمية الانتاج الصغير وغير ذلك ليست في الواقع إلاّ وسيلة من وسائل زيادة بأس الطغمة المالية. ولهذا السبب، مع أسباب أخرى، يسمح التشريع في البلدان الرأسمالية الأرقى أو الأقدم و«الأكثر خبرة» بإصدار أسهم أصغر.

    • إن الرأسمال المالي المتركز في أيد قليلة والذي يمارس الاحتكار فعلا يبتز أرباحا طائلة تتزايد باستمرار من تأسيس الشركات وإصدار الأوراق المالية ومنح القروض للدولة الخ، موطدا بذلك سيطرة الطغمة المالية وفارضا على المجتمع بأكمله جزية لمصلحة المحتكرين.

    ففي فرنسا مثلا، اتخذت هيمنة «الطغمة المالية» («ضد الطغمة المالية في فرنسا» – عنوان كتاب مشهور من وضع ليزيس، صدرت طبعته الخامسة في سنة 1908) شكلا لا يكاد يختلف. فثمة أربعة بنوك كبرى تتمتع بـ«الاحتكار» لا النسبي، بل «المطلق» في إصدار الأوراق المالية. وهي، في الواقع، «تروست البنوك الكبرى». والاحتكار يضمن الأرباح الإحتكارية من الإصدار. وفي حالة القروض لا تقبض البلاد المستدينة في المعتاد أكثر من 90% من المبلغ؛ وتبقى الـ 10% حصة للبنوك وغيرها من الوسطاء. وكان ربح البنوك 8% من القرض الروسي الصيني البالغ 400 مليون فرنك و10% من القرض الروسي (سنة 1904) البالغ 800 مليون فرنك و 18.75% من القرض المراكشي (سنة 1904) البالغ 62.5 مليون فرنك. إن الرأسمالية التي بدأ تطورها من الرأسمال المرابي الصغير تنهي تطورها بالرأسمال المرابي الضخم. ويقول ليزيس: «الفرنسيون هم مرابو أوروبا». إن جميع ظروف الحياة الاقتصادية تتغير تغيرا عميقا بحكم تحول الرأسمالية هذا. فـ«البلاد» تستطيع أن تثري من الربا مع بوار السكان والصناعة والتجارة والمواصلات البحرية. «إن خمسين شخصا يمثلون رأسمالا بـ 8 ملايين فرنك يمكنهم أن يتصرفوا بمليارين في أربعة بنوك. ولا غرو إذا اضطر المؤلف أن يخلص إلى هذا الاستنتاج:

    • إن الجمهورية الفرنسية هي مملكة مالية»؛ «إن سيطرة الطغمة المالية هي سيطرة مطلقة؛ فهي تهيمن على الصحافة وعلى الحكومة»

    • إن جسامة عائدات إصدار الأوراق المالية، بوصفه احدى عمليات الرأسمال المالي الرئيسية، تلعب دورا هاما للغاية في تطوير وتوطيد الطغمة المالية. وتقول المجلة الألمانية «البنك»: «لا يوجد في داخل البلاد مشروع يعطي، ولو على وجه التقريب، مثل هذه الأرباح العالية التي تعطيها الوساطة في إصدار القروض الأجنبية»

    وإذا كانت أرباح الرأسمال المالي في منتهى الضخامة أثناء النهضات الصناعية، ففي أثناء مراحل الانحطاط تهلك المشاريع الصغيرة وغير الوطيدة؛ أما البنوك الكبرى فـ«تشترك» في شرائها بأسعار بخسة أو في «إشفائها» و«إعادة تنظيمها» جانية الفوائد من ذلك. وفي حالة «إشفاء» المشاريع المصابة بالعجز «يخفض الرأسمال المساهم، أي توزع المداخيل على رأسمال أقل وتحسب في المستقبل على أساسه. أو يجري، في حالة هبوط العائدات إلى الصفر، اجتذاب رأسمال جديد يحمل عائدات كافية بدمجه بالرأسمال القديم ذي العائدات القليلة». ويضيف هيلفردينغ قائلا: «ولنلاحظ في سياق الحديث أن جميع عمليات الاشفاء وإعادة التنظيم هذه هي، في نظر البنوك، ذات أهمية مزدوجة/ أولا، باعتبارها عملية رابحة وثانيا، باعتبارها فرصة ملائمة لتجعل الشركات المحتاجة في حالة تبعية لها»

    • ومن عمليات الرأسمال المالي الرابحة للغاية كذلك المضاربة بقطع الأراضي الموجودة في ضواحي المدن الكبرى التي تتسع بسرعة.

     ففي هذه الحالة يندمج احتكار البنوك باحتكار الريع العقاري وباحتكار طرق المواصلات، لأن ارتفاع أسعار قطع الأراضي وإمكانية بيعها بصورة مفيذة قطعا صغيرة الخ.، يتوقفان بوجه خاص على سهولة المواصلات مع مركز المدينة؛ ووسائط المواصلات هذه هي في أيدي الشركات الكبرى المتصلة بهذه البنوك ذاتها عن طريق نظام الاشتراك واقتسام مناصب المدراء. ويكون الحاصل ما أطلق عليه الكاتب الألماني ايشفيغه، المحرر في مجلة «البنك» والذي انصرف بصورة خاصة إلى دراسة عملية التجارة بقطع الاراضي ورهنها والخ.، اسم «المستنقع»: مضاربة مسعورة بقطع الأراضي في ضواحي المدن، إفلاس شركات البناء كشركة «بوسفاو وكناور» في برلين التي اكتسبت من النقود ما بلغ 100 مليون مارك بواسطة «البنك الألماني» «الضخم المعتبر» الذي كان يعمل بطبيعة الحال بموجب نظام «الإشتراك»، أي سرا، في الخفاء، والذي تخلص من الورطة ولم يخسر سوى 12 مليون مارك؛ ثم خراب صغار الملاكين والعمال الذين لم يقبضوا شيئا من شركات البناء المزيفة؛ وصفقات غير قانونية مع هيئات الادارة والشرطة «النزيهة» في برلين من أجل وضع اليد على معاملات أعطاء شتى المعلومات عن قطع الأراضي ومنح رخص البلدية لتشييد الأبنية وغير ذلك وهلم جرا.

    • ما أن يتشكل الاحتكار ويتصرف بالمليارات حتى يتخلل بصورة محتومة جميع نواحي الحياة الاجتماعية بصرف النظر عن النظم السياسية وعن كل «التفاصيل» الأخرى.

    من خواص الرأسمالية بوجه عام فصل ملكية الرأسمال عن توظيف الرأسمال في الانتاج، فصل الرأسمال النقدي عن الرأسمال الصناعي أو المنتج، فصل صاحب الدخل الذي يعيش فقط من عائد الرأسمال النقدي عن رب العمل وجميع المشتركين مباشرة في التصرف بالرأسمال. والامبريالية أو سيطرة الرأسمال المالي هي مرحلة الرأسمالية العليا التي يبلغ فيها هذا الفصل مقاييس هائلة. وهيمنة الرأسمال المالي على بقية أشكال الرأسمال تعني سيطرة صاحب الدخل والطغمة المالية، تعني بروز عدد ضئيل من الدول التي تملك «البأس» المالي بين سائر الدول الأخرى. ويمكننا أن نتبين مدى نطاق هذا السير من أرقام إحصاءات الإصدار، أي اصدار مختلف أنواع الأوراق المالية.

    الفصل الرابع: تصدير الرأسمال

    كان تصدير البضائع الحالة النموذجية في الرأسمالية القديمة، حيث كانت السيادة التامة للمزاحمة الحرة. وغدا تصدير الرأسمال الحالة النموذجية في الرأسمالية الحديثة التي تسودها الاحتكارات.

    الرأسمالية هي الإنتاج البضاعي في مرحلة تطوره العليا التي تغدو فيها قوة العمل بضاعة كذلك. واتساع التبادل في داخل البلاد، ولا سيما على الصعيد العالمي، هو السمة الخاصة للرأسمالية. إن تطور المشاريع والفروع الصناعية والبلدان بشكل متفاوت وبطفرات هو أمر محتوم في عهد الرأسمالية. في البدء غدت إنجلترا، قبل البلدان الأخرى، بلدا رأسماليا. وفي أواسط القرن التاسع عشر، أخذت تدعي، وقد أقرت التجارة الحرة، بدور «مصنع العالم»، بدور مصدر المنتوجات الجاهزة إلى جميع بلدان العالم التي كان ينبغي عليها أن تزودها بالخامات بالمقابل. ولكن احتكار إنجلترا هذا، قد أخذ يتزعزع منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر، لأن عددا من البلدان الأخرى قد صارت دولا رأسمالية مستقلة، مدافعة عن نفسها بالرسوم الجمركية «الوقائية». وفي عشية القرن العشرين نرى تشكل نوع آخر من الاحتكارات: أولا، اتحادات رأسماليين احتكارية في جميع بلدان الرأسمالية المتطورة؛ وثانيا، وضع احتكاري لبعض البلدان في منتهى الغنى بلغ فيها تراكم الرأسمال مقاييس هائلة. وقد حدث «فيض من الرساميل» ضخم في البلدان المتقدمة.

    وبديهي أن مسألة فيض الرأسمال ما كانت لتطرح لو استطاعت الرأسمالية تطوير الزراعة المتأخرة الآن عن الصناعة تأخرا كبيرا في كل مكان، لو استطاعت الرأسمالية رفع مستوى معيشة جماهير السكان، المستوى الذي يبقى في كل مكان متاخما للجوع والبؤس رغم التقدم التكنولوجي المذهل. ولا يترك نقاد الرأسمالية من صغار البرجوازيين مناسبة إلاّ ويعمدون فيها إلى ذكر هذه «الحجة». ولكن الرأسمالية، في هذه الحالة، ما كان لتكون رأسمالية، لأن التفاوت في التطور وانحطاط معيشة الجماهير إلى مستوى يتاخم الجوع هما شرطان وممهدان أساسيان لا بد منهما لأسلوب الإنتاج هذا. وما ظلت الرأسمالية رأسمالية، لا يوجه فيض الرأسمال إلى رفع مستوى معيشة الجماهير في بلاد معينة، لأن ذلك يسفر عن تخفيض أرباح الرأسماليين، بل يوجه إلى رفع الأرباح عن طريق تصدير الرأسمال إلى الخارج، إلى البلدان المتأخرة. والربح مرتفع في المعتاد في هذه البلدان المتأخرة، لأن الرساميل قليلة وأسعار الأرض منخفضة نسبيا والأجور زهيدة والخامات رخيصة. وما ينشئ إمكانية تصدير الرأسمال هو وجود جملة من البلدان المتأخرة قد انجذبت إلى تيار الرأسمالية أو بدئ بمدها وتهيأت فيها الظروف الأولية لتطور الصناعة والخ.. وتنشأ ضرورة تصدير الرأسمال عن واقع أن الرأسمالية قد «نضجت جدا» في عدد ضئيل من البلدان وأن الرأسمالية (في ظروف تأخر الزراعة وبؤس الجماهير) لا يجد صعيدا «رابحا» للتوظيف.

    • إن تصدير الرساميل يؤثر على تطور الرأسمالية في البلدان التي يوجه إليها، معجلا هذا التطور لأقصى حد. ولذا فإن هذا التصدير إذا كان بإمكانه أن يفضي لدرجة معينة إلى بعض الركود في تطور البلدان المصدرة فهذا لا يمكن أن يحدث إلاّ مقابل اطراد تطور الرأسمالية سعة وعمقا في العالم بأسره.

    لقد أنشأ الرأسمال المالي عهد الاحتكار. والاحتكارات تحمل معها في كل مبدأ الاحتكار: استغلال «العلاقات» لعقد الصفقات المفيدة يحل محل المزاحمة في السوق المفتوحة. فمن المألوف جدا أن يشترط عند منح القرض إنفاق قسم منه على شراء منتجات البلاد الدائنة ولاسيما الأسلحة والسفن وما شاكل ذلك. فقد عمدت فرنسا إلى هذه الوسيلة مرارا وتكرارا خلال العقدين الأخيرين من السنين (1890-1910). لقد غدا تصدير الرساميل إلى الخارج وسيلة لتشجيع تصدير البضائع إلى الخارج. وفي هذا الحال تغدو الصفقات بين المشاريع الكبيرة جدا «متاخمة للرشوة» كما قال شيلدر «بحذر». إن كروب في ألمانيا وشنيدر في فرنسا وآرمسترونغ في انجلترا هم نموذج هذه الشركات المتصلة أوثق اتصال بالبنوك الكبرى وبالحكومة التي ليس من السهل «تجنبها» عند عقد قرض.

    وعلى هذه الصورة، ويمكننا أن نقول ذلك بالمعنى الحرفي للكلمة، يلقي الرأسمال المالي شباكه على جميع بلدان العالم. وتلعب دورا هاما في هذا الأمر البنوك المؤسسة في المستعمرات وكذلك فروعها.

    ويخلص لينين إلى أن البلدان مصدرة الرساميل قد اقتسمت العالم فيما بينها بمعنى الكلمة المجازي. غير أن الرأسمال المالي قد أفضى إلى اقتسام مباشر للعالم.

    الفصل الخامس: اقتسام العالم بين اتحادات الرأسماليين

    إن اتحادات الرأسماليين الاحتكارية – الكارتيلات، السنديكات، التروستات – تقتسم فيما بينها بادئ ذي بدء السوق الداخلية، مؤمنة لنفسها السيطرة على الإنتاج في بلاد معينة بصورة مطلقة ما أمكن. ولكن لا مناص للسوق الداخلية في عهد الرأسمالية من أن ترتبط بالسوق الخارجية. وقد أنشأت الرأسمالية السوق العالمية من أمد بعيد. وكلما كان يزداد تصدير الرأسمال وتتسع شتى أنواع العلاقات بالخارج وبالمستعمرات وتتسع «مناطق نفوذ» الاتحادات الاحتكارية الضخمة، كانت الأمور تسير «بصورة طبيعية» في اتجاه الاتفاق العالمي بين هذه الاتحادات، في اتجاه تشكل الكارتيلات العالمية.

    وهذه درجة جديدة في تمركز الرأسمال والإنتاج على النطاق العالمي ودرجة أعلى من السابقة إلى ما لا قياس له. فلنر كيف يتشكل هذا الاحتكار الأعلى.

    • فمثلا إن الصناعة الكهربائية هي الصناعة الأكثر نموذجية بالنسبة لأحدث نجاحات التكنيك ولرأسمالية نهاية القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين.

    وقد تطورت بوجه خاص في أرقى بلدين من البلدان الرأسمالية الجديدة – الولايات المتحدة وألمانيا.

    وبنتيجة ذلك سار التمركز بعد سنة 1900 بخطوات جبارة إلى الأمام. فقد كان في الصناعة الكهربائية قبل سنة 1900 ثماني أو سبع «جماعات» تتألف كل منها من عدة شركات (مجموعها ثمان وعشرون شركة) وكانت كل جماعة تستند إلى عدد من البنوك من 2 إلى 11 بنكا. وحوالي سنوات 1908-1912 اندمجت جميع هذه الجماعات في جماعتين أو جماعة واحدة.

    • وفي صناعة البترول تعطي مثلا بليغ الدلالة على محاولة إعادة التقاسم هذه، على الصراع من أجل إعادة التقاسم.

    فقد كتب ييدلس في سنة 1905 أن «سوق البترول العالمية هي الآن مقتسمة بين جماعتين ماليتين كبيرتين: «تروست البترول» الأمريكي (Standard Oil C-y) العائد لروكفلر وصاحبي النفط الروسي في باكو روتشيلد ونوبل. والجماعتان على ترابط وثيق، ولكن احتكارهما مهدد منذ عدة سنوات من قبل خمسة أعداء»:

     1) نفاد مصادر النفط الأمريكية،

     2) مزاحمة شركة مانتاشيف في باكو،

     3) مصادر النفط في النمسا،

     4) في رومانيا،

     5) مصادر النفط فيما وراء المحيطات ولاسيما في المستعمرات الهولندية (شركة صموئيل وشل الغنية جدا والمرتبطة كذلك بالرأسمال الإنجليزي). والفئات الثلاث الأخيرة من المشاريع متصلة بالبنوك الألمانية الكبرى وعلى رأسها «البنك الألماني» الضخم. وقد طورت هذه البنوك بصورة مستقلة ومنتظمة صناعة النفط في رومانيا مثلا لتكون «لها» نقطة ارتكاز. ففي سنة 1907 قدر الرأسمال الأجنبي في صناعة البترول الرومانية بـ 175 مليون فرنك منها 74 مليونا رأسمالا ألمانيا.

    • وفي ميدان الملاحة التجارية أفضى اشتداد التمركز الهائل كذلك إلى اقتسام العالم.

     وقد برزت في ألمانيا شركتان من كبريات الشركات: «هامبورغ-أمريكا» و«لويد المانية الشمالية» ورأسمال كل منها 200 مليون مارك. ومن الجهة الأخرى تأسس في الأول من يناير سنة 1903 في أمريكا ما يسمى تروست مورغان، «الشركة العالمية للملاحة التجارية» التي تضم 9 من شركات الملاحة الأمريكية والانجليزية وتتصرف برأسمال يبلغ 120 مليون دولار (480 مليون مارك). وفي سنة 1903 نفسها عقدت بين العملاقين الألمانيين وهذا التروست الأمريكي الإنجليزي اتفاقية بشأن تقاسم العالم بالاتصال مع تقاسم الأرباح. وقد تنازلت الشركتان الألمانيتان عن المزاحمة في الشحن بين انجلترا وأمريكا. وقد «اقتسمت» الموانئ بدقة وانشئت لجنة مشتركة للمراقبة وغير ذلك. وعقدت الاتفاقية لمدة عشرين سنة وتضمنت تحفظا للحيطة ينص على أنها تفقد مفعولها في حالة الحرب.

    • وبليغ الدلالة كذلك تاريخ تأسيس الكارتيل العالمي لقضبان السكك الحديدية.

     فقد قامت معامل قضبان السكك الحديدية في إنجلترا وبلجيكا وألمانيا بأول محاولة لإنشاء هذا الكارتيل في سنة 1884، أثناء الانحطاط الصناعي الشديد. وقد اتفقت على عدم المزاحمة في الأسواق الداخلية العائدة للبلدان التي تشملها الاتفاقية وعلى اقتسام الأسواق الخارجية فيما بينها.

    • ولنذكر أيضا سينديكا الزنك العالمي المؤسس في سنة 1909.

    والذي حدد بصورة دقيقة مقاييس الانتاج بين خمسة فرق من المعامل: الألمانية والبلجيكية والفرنسية والاسبانية والإنجليزية؛ ثم تروست البارود العالمي وهو/ حسب تعبير ليفمن، «إتحاد وثيق على احدث طراز بين جميع مصانع المواد المتفجرة في ألمانيا اقتسم العالم فيما بعد، إذا جاز التعبير، بالاتفاق مع معامل الديناميت الفرنسية والأمريكية المنظمة على شاكلته»

    ويقول لينين:

    لقد حسب ليفمن بالمجموع في سنة 1897 نحو 40 كارتيلا عالميا اشتركت فيها ألمانيا، وفي سنة 1910 نحو مائة.

    يخلص لينين إلى:

     إن بعض الكتاب البرجوازيين (الذين انضم إليهم الآن كاوتسكي الذي ارتد بصورة تامة عن موقفه الماركسي، عن موقف سنة 1909 مثلا) يقولون برأي مفاده أن الكارتيلات العالمية، وهي مظهر من أبرز مظاهر اكتساب الرأسمال للصيغة العالمية، تبعث الأمل باستتباب السلام بين الشعوب في عهد الرأسمالية. وهذا الرأي سخيف تماما من الناحية النظرية، وهو من الناحية العملية عبارة عن سفسطة وطريقة غير شريفة للدفاع عن أرذل الانتهازية. فالكارتلات العالمية تبين الدرجة التي بلغتها الآن الاحتكارات الرأسمالية والغرض الذي تتصارع من أجله اتحادات الرأسماليين. وهذه الناحية الأخيرة هي الأمر الأهم؛ إذ أنها هي وحدها التي تبين لنا مغزى الأحداث التاريخية والاقتصادية، لأن شكل الصراع يمكنه أن يتغير وهو يتغير على الدوام تبعا لأسباب مختلفة طابعها خاص ومؤقت نسبيا، في حين أن كنه الصراع لا يمكن أن يتغيرا بحال ما بقيت الطبقات. ومن المفهوم أن من مصلحة البرجوازية الألمانية مثلا، التي انضم إليها كاوتسكي في جوهر الأمر في محاكماته النظرية (وسنتناول ذلك فيما بعد)، طمس فحوى الصراع الاقتصادي الراهن (اقتسام العالم) وإبرام هذا الشكل من أشكال الصراع تارة، وذلك تارة أخرى. ويقترف كاوتسكي الخطأ نفسه، ذلك لأن القضية ليست قضية البرجوازية الألمانية طبعا، بل قضية البرجوازية العالمية. فالرأسماليون يقتسمون العالم لا لأنهم فطروا على شر خاص، بل لأن التمركز قد بلغ درجة ترغب على ولوج هذا الطريق للحصول على الربح؛ هذا وهم يقتسمونه «حسب الرأسمال»، «حسب القوة» – لأنه لا توجد وسيلة أخرى للتقاسم في ظل نظام الانتاج البضاعي والرأسمالية. ولكن نسبة القوى تتغير تبعا للتطور الاقتصادي والسياسي؛ ولفهم الأحداث الجارية ينبغي أن نفهم المسائل التي يحلها تغير نسبة القوى؛ أمّا مسألة ما إذا كان هذا التغير اقتصاديا «صرفا» أو غير اقتصادي (عسكريا مثلا) فهي مسألة ثانوية لا يمكنها أن تغير شيئا في الآراء الأساسية عن العهد الحديث في الرأسمالية. فالاستعاضة عن مسألة فحوى الصراع والصفقات بين اتحادات الرأسماليين بمسألة شكل الصراع والصفقات (وهو اليوم سلمي، وغدا سلمي، وبعد غد غير سلمي كذلك) يعني الانحطاط إلى حضيض السفسطائيين.

    • إن عهد الرأسمالية الحديثة يبين لنا أن ثمة علاقات تتكون بين اتحادات الرأسماليين على صعيد اقتسام العالم اقتصاديا، وان ثمة علاقات تتكون بمحاذاة ذلك، وتبعا لذلك، بين الاتحادات السياسية، بين الدول، على صعيد اقتسام العالم إقليميا، على صعيد الصراع من أجل المستعمرات، «الصراع من أجل الرقاع الاقتصادية».

    الفصل السادس: اقتسام العالم بين الدول الكبرى

    يقول لينين: فنحن نجتاز، إذن، عهدا خاصا من سياسة استعمارية عالمية مرتبطة أوثق ارتباط بـ«احدث درجة في تطور الرأسمالية»، بالرأسمال المالي. ولذا من الضروري أن نتناول قبل كل شيء الوقائع بالتفصيل لكي نتبين بما أمكن من الدقة ما يميز هذا العهد عن العهود السابقة، وكذلك وضع الأمور الراهن. ويتبادر إلى الذهن هنا بادئ ذي بدء سؤالان عمليان: هل يلاحظ اشتداد السياسة الاستعمارية وتفاقم الصراع من أجل المستعمرات في عهد الرأسمال المالي بالضبط، وكيف اقتسم العالم من هذه الناحية في الوقت الراهن؟

    • إن مرحلة اشتداد الاستيلاء على المستعمرات اشتدادا هائلا، هي بالنسبة لإنجلترا سنوات 1860-1880، واشتدادا ملحوظا جدا في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، ومرحلة الاشتداد الهائل بالنسبة لفرنسا وألمانيا هي العقدين الأخيرين بالضبط. وقد رأينا فيما تقدم أن رأسمالية ما قبل عهد الاحتكار، رأسمالية سيادة المزاحمة الحرة قد بلغت أوج تطورها في مرحلة سنوات 1860-1880. وها نحن نرى الآن أنه بعد هذه المرحلة بالضبط تبتدئ «النهضة» الكبرى في الاستيلاء على المستعمرات ويحتدم للغاية وطيس الصراع من أجل اقتسام أراضي العالم. ولا مجال للشك إذن في أن انتقال الرأسمالية إلى درجة الرأسمالية الاحتكارية، إلى الرأسمال المالي، مرتبط باحتدام الصراع من أجل اقتسام العالم.

    وجدير بالذكر، أن قادة البرجوازية الإنجليزية السياسيين هؤلاء، كانوا بالمقابل يرون بوضوح العلاقات بين جذور الإمبريالية الحديثة الاقتصادية الصرف، إن أمكن القول، والاجتماعية السياسية. فقد كان تشمبرلين يروج للامبريالية باعتبارها «سياسة أصيلة، حكيمة، مقتصدة»، مشيرا بصورة خاصة إلى المزاحمة التي تصادفها إنجلترا الآن في السوق العالمية من جانب ألمانيا وأمريكا وبلجيكا.

    • الخلاص في الإحتكار – هكذا كان يقول الرأسماليون وهم يؤسسون الكارتيلات والسينديكات والتروستات.

    • الخلاص في الإحتكار – كان يردد زعماء البرجوازية السياسيون مسرعين إلى الاستيلاء على أنحاء العالم التي لم تقتسم بعد.

    تبين لنا الإحصائيات التي قمنا بها بجلاء، كيف «انتهى» تقاسم العالم على تخوم القرنين التاسع عشر والعشرين. فقد تضخمت مستعمرات الدول الست الكبرى لحد هائل بعد سنة 1876: أكثر من النصف، من 40 إلى 65 مليون كيلومتر مربع. والزيادة تبلغ 25 مليون كيلومتر مربع، أي بزيادة النصف عن مساحة البلدان مالكة المستعمرات (16.5 مليون). وفي سنة 1876 لم يكن لدى ثلاث دول أي مستعمرة، أمّا الرابعة، فرنسا، فلم يكن لديها مستعمرات تقريبا. وفي سنة 1914 كان لهذه الدول الأربع مستعمرات تبلغ مساحتها 14.1 مليون كيلومتر مربع، أي مساحة تزيد عن مساحة أوروبا بنسبة تقارب النصف ويبلغ عدد سكانها نحو 100 مليون نسمة. إن التفاوت في توسيع المستعمرات كبير جدا. فإذا قارنا مثلا فرنسا وألمانيا واليابان التي لا تختلف كثيرا من حيث المساحة وعدد السكان، وجدنا أن الأولى في هذه البلدان قد اقتنت من المستعمرات (من حيث المساحة) نحو ثلاثة أضعاف ما اقتنته الثانية والثالثة مجتمعتين. ولكن من حيث مقادير الرأسمال المالي قد تكون فرنسا في بداية المرحلة المذكورة أغنى بعدة أضعاف أيضا من ألمانيا واليابان مجتمعتين. وعدا الظروف الاقتصادية الصرف، وعلى أساسها، تؤثر على اتساع مساحات المستعمرات الظروف الجغرافية وغيرها. ورغم سعة الخطوة التي خطتها خلال العقود الأخيرة من السنين تسوية العالم والتقريب بين ظروف الاقتصاد والمعيشة في مختلف البلدان تحت ضغط الصناعة الضخمة والتبادل والرأسمال المالي، ما زال الفرق على كل حال كبير، نلاحظ بين الدول الست المذكورة، من جهة، بلدانا رأسمالية فتية تقدمت بسرعة خارقة (أمريكا، ألمانيا، اليابان)؛ ومن جهة أخرى، بلدي التطور الرأسمالي القديم اللذين كانا تقدمهما في الوقت الأخير أبطأ جدا من تقدم البلدان الآنفة الذكر (فرنسا وإنجلترا)؛ ومن الجهة الثالثة، البلد الأكثر تأخرا من الناحية الاقتصادية (روسيا) الذي احيطت فيه الامبريالبية الرأسمالية الحديثة، إن أمكن القول، بشبكة كثيفة جدا من علاقات عهد ما قبل الرأسمالية.

    وإلى جاني مستعمرات الدول الكبرى قد وضعنا المستعمرات غير الواسعة العائدة للدول الصغيرة. وهذه المستعمرات هي، إن أمكن القول الهدف المباشر «لتقاسم جديد» للمستعمرات ممكن ومحتمل. وعلى الأغلب ما كانت هذه الدول الصغيرة لتحتفظ بمستعمراتها، لو لم توجد بين الدول الكبرى تناقضات مصالح واحتكارات الخ.، تعيق اتفاقها على تقاسم الغنيمة. أمّا فيما يخص الدول «شبه المستعمرة» فهي مثل الأشكال الانتقالية التي تصادف في جميع ميادين الطبيعة والمجتمع، فالرأسمال المالي هو قوة كبرى ويمكننا أن نقول فاصلة في جميع العلاقات الاقتصادية والدولية بحيث أن باستطاعتها أن تخضع لنفسها، وهي تخضع في الواقع، حتى الدول التي تتمتع باستقلالها السياسي الناجز؛ وسنرى الآن المثل على ذلك. ولكن من البديهي، أن ما يعطي الرأسمال المالي الوضع «الأفضل» والنفع الأكبر هو ذلك الخضوع الذي يتبع فقدان البلدان والشعوب المستعبدة لاستقلالها السياسي. والبلدان شبه المستعمرة هي نموذجية باعتبارها «بين بين» في هذا المضمار. ومن المفهوم أن الصراع من أجل هذه البلدان شبه التابعة كان لابدّ أن يحتدم بصورة خاصة في عهد الرأسمال المالي ما دامت بقية العالم قد اقتسمت.

    لقد وجدت سياسة الاستيلاء على المستعمرات، ووجدت الإمبريالية، قبل أن تبلغ الرأسمالية مرحلتها الحديثة، وحتى قبل الرأسمالية. فروما القائمة على نظام العبودية كانت تمارس سياسة الاستيلاء على المستعمرات وتحقق الإمبريالية. ولكن البحث «بصورة عامة» في الإمبريالية، مع نسيان أو استصغار شأن الفرق الجذري بين النظم الاجتماعية الاقتصادية يؤول حتما إلى هدر فارغ، أو إلى تبجح من نوع المقارنة بين «روما العظمى وبريطانيا العظمى»، فحتى السياسة الاستعمارية التي مارستها الرأسمالية في مراحلها السابقة تختلف اختلافا جوهريا عن سياسة الرأسمال المالي الاستعمارية.

    • إن الخاصية الأساسية في الرأسمالية الحديثة هي سيطرة الاتحادات الاحتكارية التي يؤسسها كبار أصحاب الأعمال. وهذه الإحتكارات هي أوطد ما تكون حين تتفرد بوضع يدها على جميع مصادر الخامات؛ وقد رأينا بأي اندفاع توجه اتحادات الرأسماليين العالمية جهودها لكي تنتزع من الخصم كل إمكانية للمزاحمة ولكي تشتري مثلا مطمورات الحديد أو حقول النفط، وهلم جرا. وحيازة المستعمرات هي وحدها ما يعطي الاحتكارات الضمانة التامة للنجاح ضد كل طوارئ الصراع مع المنافس –حتى في حالة ما إذا رغب المنافس في الدفاع عن نفسه باستصدار قانون عن إقامة احتكار الدولة. فكلما تقدمت الرأسمالية في تطورها، وكلما بدا بصورة أوضح نقص الخامات، وكلما استعرت المزاحمة واشتد الركض وراء مصادر الخامات في العالم كله، احتدام الصراع من أجل حيازة المستعمرات.

    يحاول الإصلاحيون البرجوازيون وبينهم بوجه خاص الكاوتسكيون الحاليون أن يقللوا طبعا من أهمية هذا النوع من الوقائع بقولهم أن «بالإمكان» الحصول على الخامات في السوق الحرة بدون السياسة الاستعمارية «ذات التكاليف الكبيرة والخطيرة» وأن «باإمكان» زيادة عرض الخامات زيادة كبيرة «بمجرد» تحسين ظروف الزراعة بوجه عام. ولكن هذه الأقاويل تغدو دفاعا عن الإمبريالية وتجميلا لوجهها لأنها قائمة على نسيان الخاصية الرئيسية في الرأسمالية الحديثة: الاحتكار. تغيب السوق الحرة شيئا فشيئا في طيات الماضي، فالسينديكات والتروستات الاحتكارية تبترها من يوم لآخر؛ أمّا «مجرد» تحسين ظروف الزراعة فينحصر في تحسين حالة الجماهير ورفع الاجور وتقليل الارباح.

    ولكن هل توجد في غير مخيلات الاصلاحيين دوي الكلمات المعسولة تروستات يمكنها ان تهتم بحالة الجماهير بدلا من الاستيلاء على المستعمرات؟

    • إن مصالح تصدير الرأسمال تدفع كذلك إلى الاستيلاء على المستعمرات، لأن من الأسهل في أسواق المستعمرات (وأحيانا لا يمكن إلاّ فيها) إزاحة المزاحم بالطرق الاحتكارية وتأمين الطلب وتوطيد «العلاقات» اللازمة وهلم جرا.

    وما دمنا في معرض الحديث عن السياسة الاستعمارية في عهد الإمبريالية الرأسمالية ينبغي أن نشير إلى أن الرأسمال المالي والسياسة الدولية الملازمة له التي تتلخص في الصراع بين الدول الكبرى من أجل اقتسام العالم اقتصاديا وسياسيا يخلقان جملة من أشكال انتقالية من تبعية الدول. فما يميز هذا العهد، ليس فقط الفريقان الأساسيان من البلدان: المالكة للمستعمرات والمستعمرات، بل كذلك مختلف أشكال البلدان التابعة، المستقلة رسميا من الناحية السياسية والواقعة عمليا في شباك التبعية المالية والديبلوماسية. وقد سبق لنا أن أشرنا إلى شكل من هذه الأشكال – البلدان شبه المستعمرة. والأرجنتين مثلا هي نموذج شكل آخر.

     

    الفصل السابع: الإمبريالية مرحلة خاصة في الرأسمالية

    ولئن كانت هنالك ضرورة لتعريف الإمبريالية تعريفا غاية في الإيجاز، ينبغي أن يقال: الامبريالية هي الرأسمالية في مرحلة الاحتكار. ومثل هذا التعريف يضم الأمر الرئيسي، لأن الرأسمال المالي هو رأسمال بضعة من البنوك الاحتكارية الكبرى اندمج في رأسمال اتحادات الصناعيين الاحتكارية، هذا من جهة؛ ومن الجهة الأخرى، إن تقاسم العالم هو إنتقال من سياسة استعمارية تشمل دون عائق أقطارا لم تستول عليها بعد أية دولة رأسمالية إلى سياسة استعمارية تقوم على احتكار حيازة بقاع الأرض المقتسمة بأكملها.

    كما ينبغي ، و بشكل أساسي، إعطاء الإمبريالية تعريفا يشمل علاماتها الخمس الأساسية التالية:

     1) تمركز الانتاج والرأسمال تمركزا بلغ في تطوره حدا من العلو أدى إلى نشوء الاحتكارات التي تلعب الدور الفاصل في الحياة الاقتصادية؛

     2) اندماج الرأسمال البنكي والرأسمال الصناعي ونشوء الطغمة المالية على أساس «الرأسمال المالي» هذا؛

     3) تصدير الرأسمال، خلافا لتصدير البضائع، يكتسب أهمية في منتهى الخطورة؛

     4) تشكيل اتحادات رأسماليين احتكارية عالمية تقتسم العالم؛

     5) انتهى تقاسم الأرض إقليميا فيما بين كبريات الدول الرأسمالية.

    • فالإمبريالية هي الرأسمالية في مرحلة من التطور تكونت فيها سيطرة الاحتكارات والرأسمال المالي واكتسب تصدير الرأسمال أهمية كبرى وابتدأ تقاسم العالم بين التروستات العالمية وانتهى تقاسم الأرض كلها إقليميا بين كبريات البلدان الرأسمالية.

    وسنرى فيما بعد كيف يمكن ويجب تعريف الإمبريالية تعريفا آخر، إذا لم تؤخذ بعين الاعتبار فقط المفاهيم الأساسية، الاقتصادية الصرف (التي يقتصر عليها التعريف المذكور)، بل كذلك المكان الذي تحتله في التاريخ المرحلة الراهنة في الرأسمالية بالنسبة للرأسمالية بوجه عام، أو علاقة الامبريالية والاتجاهين الأساسيين في حركة العمال. وينبغي أن نشير الآن إلى أن الإمبريالية بالمفهوم المذكور هي دون شك عبارة عن مرحلة خاصة في تطور الرأسمالية. ولكي نمكن القارئ من تكوين فكرة عن الامبريالية معللة أكثر ما يكون، سعينا قصدا وعمدا إلى إيراد أكثر ما يمكن من آراء الاقتصاديين البرجوازيين المضطرين إلى الاعتراف بوقائع الاقتصاد الرأسمالي الحديث الثابتة التي لا يمكن الشك فيها بحال. وللغرض نفسه ذكرنا إحصاءات مفصلة تمكن من تبين الحد الذي بلغه نمو الرأسمال البنكي الخ.، من تبين الأمر الذي تجلى فيه بالضبط تحول الكمية إلى كيفية، تحول الرأسمالية المتطورة إلى إمبريالية. وغني عن القول طبعا أن جميع الحدود في الطبيعة والمجتمع مشروطة ومتحركة، وأن من السخافة النقاش مثلا حول تعيين العام أو العقد الذي تم فيه «بصورة نهائية» قيام الإمبريالية.

    ولكن النقاش حول تعريف الإمبريالية أمر لا مناص منه بالدرجة الأولى مع كاوتسكي، النظري الماركسي الرئيسي في عهد ما يسمى بالأممية الثانية، أي في السنوات الـ 25 الممتدة من سنة 1889 إلى سنة 1914. لقد عارض كاوتسكي بكل حزم في سنة 1915 وحتى في نوفمبر سنة 1914 الأفكار الأساسية التي تضمنها تعريفنا للإمبريالية، معلنا أنه لا ينبغي أن يفهم من الامبريالية «مرحلة» أو درجة بلغها الاقتصاد، بل سياسة، سياسة معينة «يفضلها» الرأسمال المالي وأنه لا يصح اعتبار الامبريالية و«الرأسمالية الحديثة» «شيئا واحدا»، وأنه إذا فهم المرء أن الامبريالية تعني «جميع ظواهر الرأسمالية الحديثة» – الكارتيلات، الحماية، سيطرة الماليين، السياسة الاستعمارية – عندئذ تؤول مسألة ضرورة الامبريالية بالنسبة للرأسمالية إلى «تكرار ركيك» إذ انه في هذه الحالة «تكون الامبريالية بالبداهة ضرورة حيوية للرأسمالية» والخ.. ونحن نعرب عن فكرة كاوتسكي بأكثر ما يمكن من الدقة إذا ما ذكرنا تعريفه للإمبريالية، التعريف الموجه مباشرة ضد جوهر الأفكار التي لخصناها (لأن الاعتراضات الصادرة عن معسكر الماركسيين الألمان الذين ظلوا يروجون بمثل هذه الأفكار خلال سنوات عديدة معروفة لكاوتسكي من زمن بعيد باعتبارها اعتراضات تيار معين في الماركسية).

    وينص تعريف كاوتسكي:

    «الإمبريالية هي نتاج الرأسمالية الصناعية العالية التطور. وهي تتلخص بنزوع كل أمة رأسمالية صناعية إلى أن تلحق بنفسها أو أن تخضع لنفسها المزيد والمزيد من البقاع الزراعية (حرف التشديد لكاوتسكي) بصرف النظر عن الأمم التي تقطنها».

    وهذا التعريف لا يساوي قلامة ظفر، لأنه يبرز بشكل وحيد الجانب، أي بصورة كيفية، المسألة القومية وحدها (وإن كانت في منتهى الأهمية بحد ذاتها أو في علاقتها بالإمبريالية) ويربطها بصورة كيفية وغير صحيحة بالرأسمال الصناعي وحده في البلدان التي تلحق الأمم الأخرى ولأنه يبرز بنفس الصورة الكيفية وغير الصحيحة إلحاق البقاع الزراعية.

    الإمبريالية هي نزوع إلى الإلحاق – هذا ما ينحصر فيه القسم السياسي من تعريف كاوتسكي. وهو صحيح، ولكنه ناقص كل النقص، أن الإمبريالية من الناحية السياسية هي بوجه عام نزوع إلى العنف والرجعية. بيد أن ما يهمنا من الأمر هنا هو ناحيته الاقتصادية التي أدرجها كاوتسكي نفسه في تعريفه هو. إن مواطن الخطأ في تعريف كاوتسكي تفقأ العين. فما يميز الإمبريالية على وجه التحقيق ليس الرأسمال الصناعي، بل الرأسمال المالي. وليس من قبيل الصدف أن أفضت السرعة الكبرى في تطور الرأسمال المالي في فرنسا مع إضعاف الرأسمال الصناعي إلى اشتداد سياسة الإلحاق (الاستعمارية) لأقصى حد في سنوات العقد التاسع من القرن الماضي. وما يميز الإمبريالية على وجه التحقق ليس النزوع إلى إلحاق البقاع الزراعية وحدها، بل حتى الصناعية الأكثر تطورا (مطامع ألمانيا فيما يخص بلجيكا، وفرنسا فيما يخص اللورين) لأن انتهاء تقاسم الأرض يرغم، لدى إعادة التقاسم، على مد اليد إلى أي بقعة، هذا أولا؛ وثانيا، من سمات الإمبريالية الجوهرية تنافس عدد من الدول الكبرى في النزوع إلى السيطرة، أي إلى الاستيلاء على الأراضي لا بقدرما تحتاجها لنفسها مباشرة، بل بقدر ما تحتاجها لإضعاف الخصم وتقويض سيطرتــه (ألمانيا بمسيس الحاجة إلى بلجيكا كنقطة ارتكاز ضد إنجلترا؛ وإنجلترا بمسيس الحاجة إلى بغداد كنقطة ارتكاز ضد ألمانيا ، وهلم جرا).

    يستشهد كاوتسكي بوجه خاص – ومرارا وتكرارا – بالإنجليز الذين أقروا، على ما يزعم، المعنى السياسي الصرف لكلمة «الإمبريالية» كما يفهمها كاوتسكي. فلنأخذ الإنجليزي هوبسون ولنقرأ في كتابه «الإمبريالية» الصادر في سنة 1902:

    «تختلف الإمبريالية الحديثة عن القديمة أولا، بأنها تحل محل نزاعات إمبراطورية واحدة متعاظمة نظرية وعمل إمبراطوريات متنافسة تسترشد كل منها بنزعة متماثلة إلى التوسع السياسي وإلى النفع التجاري؛ وثانيا، بأنها تعلي على المصالح التجارية المصالح المالية أو المتعلقة بتوظيف الرأسمال».

    ونحن نرى أن كاوتسكي غير محق في الواقع أبدا إذ يستشهد بالإنجليز بوجه عام (إلاّ إذا كان يريد الاستشهاد بالإمبرياليين الإنجليز المبتذلين، أو بالذين يكيلون المديح علنا للإمبريالية). ونحن نرى أن كاوتسكي الذي يدعي أنه ما زال يدافع عن الماركسية يخطو في الواقع خطوات إلى الوراء بالمقارنة مع الإشتراكي-الليبرالي هوبسون الذي يأخذ بعين الاعتبار بصورة أصح خاصتين «تاريخيتين ملموستين» (وإن كاوتسكي يسخر في تعريفه من الدقة التاريخية بالضبط!) من خواص الإمبريالية الحديثة: 1) التنافس بين جملة من الدول الإمبريالية و2) تفوق المالي على التاجر. أمّا إذا جرى الكلام، بصورة رئيسية، حول الحاق بلاد زراعية من قبل بلاد صناعية فإن ذلك يعني التأكيد على تفوق دور التاجر.

    إن تعريف كاوتسكي، عدا أنه غير صحيح وغير ماركسي، هو أساس لسلسلة كاملة من نظرات تقطع كل صلة مع النظرية الماركسية والعمل الماركسي على حد سواء الأمر الذي سيأتي الحديث عنه فيما بعد. والنقاش الذي أثاره كاوتسكي حول الكلمات هو نقاش غير جدي على الإطلاق: أينبغي أن يطلق على أحدث مراحل الرأسمالية اسم الامبريالية أم درجة الرأسمال المالي. سمها كيف شئت، لا أهمية لذلك. إن كنه القضية في كون كاوتسكي يفصل سياسة الإمبريالية عن اقتصادها، زاعما أن الإلحاقات هي سياسة الرأسمال المالي «المفضلة»، ومعارضا إياها بسياسة برجوازية أخرى يدعي أنها ممكنة على أساس الرأسمال المالي نفسه. يستنتج إذن أن الاحتكارات في الاقتصاد تتلاءم مع طراز سلوك في السياسة غير قائم على الاحتكار والعنف والغضب. يستنتج إذن أن تقاسم أقطار الأرض الذي تم في عهد الرأسمال المالي بالضبط والذي يؤلف أساس السمة المميزة لأشكال التنافس الراهنة بين كبريات الدول الرأسمالية يتلاءم مع السياسة غير الإمبريالية. ويكون الحاصل طمس وثلم حدة أهم تناقضات المرحلة الحديثة في الرأسمالية بدلا من الكشف عن عمقها، ويكون الحاصل إصلاحية برجوازية بدلا من الماركسية.

    يناقش كاوتسكي مداح الإمبريالية والإلحاقات الألماني كونوف، ذا التفكير السقيم الوقح: الإمبريالية هي الرأسمالية الحديثة؛ تطور الرأسمالية محتوم وتقدمي، معنى ذلك أن الإمبريالية تقدمية، معنى ذلك أنه ينبغي تملق الإمبريالية والثناء عليها! وكأننا أمام شيء ما من نمط تلك الصورة المشوهة التي رسمها الشعبيون على الماركسيين الروس في سنتي 1894-1895: ما دام الماركسيون يعتبرون الرأسمالية في روسيا أمرا محتوما وتقدميا فينبغي عليهم أن يفتحوا خمارة وينصرفوا إلى غرس الرأسمالية. ويعترض كاوتسكي على كونوف: كلا، الإمبريالية ليست الرأسمالية الحديثة، بل هي شكل من أشكال سياسة الرأسمالية الحديثة لا غير، ويمكننا نحن وينبغي علينا أن نناضل ضد هذه السياسة، أن نناضل ضد الإمبريالية، ضد الإلحاقات وهلم جرا.

    يبدو الاعتراض مقبولا تماما من حيث الشكل، ولكنه، في الواقع، عبارة عن تبشير بالإتفاق مع الإمبريالية أكثر نعومة وأحسن تسترا (وهو لذلك أشد خطرا)، لأن «النضال» ضد سياسة التروستات والبنوك، دون مساس بأسس اقتصاد التروستات والبنوك، يؤول إلى الإصلاحية والمسالمة البرجوازية وإلى تمنيات طيبة بريئة.

    • إن نظرية كاوتسكي التي لا يجمعها بالماركسية جامع هي تجنب التناقضات الموجودة ونسيان أهم هذه التناقضات، بدلا من الكشف عن كل عمقها. ومفهوم أن هذه «النظرية» لا تصلح إلاّ للدفاع عن فكرة الوحدة مع كونوف ومن على شاكلته!

    وقد كتب كاوتسكي: «من وجهة النظر الاقتصادية الصرف ليس من المستحيل أن تجتاز الرأسمالية مرحلة جديدة أخرى تشمل فيها سياسة الكارتيلات السياسة الخارجية، مرحلة اتحاد الدول الإمبريالية العليا»، أي مرحلة ما فوق الإمبريالية، مرحلة اتحاد الدول الإمبريالية في العالم بأسره، لا الصراع فيما بينها، مرحلة إنهاء الحروب في ظل الرأسمالية، مرحلة «استثمار مشترك للعالم من قبل الرأسمال المالي المتحد على النطاق العالمي».

    لابد لنا أن نتناول فيما يأتي «نظرية الإمبريالية العليا» هذه لكي نبين بالتفصيل إلى أية درجة تنفصل هذه النظرية بصورة قاطعة نهائية عن الماركسية. أمّا هنا، فينبغي علينا، وفقا للبرنامج العام الذي نتمشى عليه في هذا المؤلف، أن نلقي نظرة على المعلومات الاقتصادية الدقيقة المتصلة بهذه المسألة. «من وجهة النظر الاقتصادية الصرف» أيمكن وجود «ما فوق الإمبريالية»، أم أننا أمام ما فوق الهدر؟

    إذا فهم المرء وجهة النظر الاقتصادية الصرف على أنها التجريد «الصرف»، فكل ما يمكن قوله حينئذ يؤول إلى ما يلي: يسير التطور في اتجاه الاحتكارات، وعلى ذلك في اتجاه احتكار عالمي واحد، تروست عالمي واحد. هذا لا جدال فيه، ولكنه كذلك خال من كل معنى كما لو قال المرء أن «التطور يسير» في اتجاه إنتاج المواد الغذائية في المختبرات. و«نظرية» ما فوق الإمبريالية هي بهذا المعنى لغو لا طائل تحته كما لو قال المرء بـ«نظرية ما فوق الزراعة».

    ولكن إذا تناول الكلام الظروف « الاقتصادية الصرف» لمرحلة الرأسمال المالي باعتبارها مرحلة محددة تاريخيا تقع في أوائل القرن العشرين، فإن أحسن رد على الصيغ المجردة الميتة بصدد «ما فوق الإمبريالية» تلك الصيغ التي لا تستهدف إلاّ أمرا رجعيا للغاية: إلهاء الأنظار عن عمق التناقضات القائمة) هو معارضتها بالواقع الاقتصادي الملموس في الإقتصاد العالمي الراهن.

    • إن أقاويل كاوتسكي عما فوق الإمبريالية، هذه الأقاويل الخالية من كل معنى، تشجع، فيما تشجع، الفكرة المغلوطة في عمقها والتي تصب الماء في طاحونة مداحي الإمبريالية، الفكرة القائلة بأن سيطرة الرأسمال المالي تخفف التفاوت والتناقضات في داخل الاقتصاد العالمي في حين أنها تشددها في الواقع.

    • إن الرأسمال المالي والتروستات لا تخفف التفاوت في سرعة تطور مختلف أقسام الاقتصاد العالمي، بل بالعكس، تزيد منه.

    تتطور الرأسمالية بأكبر سرعة في المستعمرات وفي بلدان ما وراء المحيط. وتظهر بينها دول إمبريالية جديدة (اليابان). يتفاقم الصراع بين الدول الإمبريالية العالمية، ويزداد مبلغ الجزية التي يتقاضاها الرأسمال المالي من المشاريع الرابحة جدا في المستعمرات وبلدان ما وراء المحيط. وعند اقتسام هذه «الغنيمة» يقع منها قسم كبير جدا في أيدي بلدان لم تشغل على الدوام المكان الأول في سرعة تطور القوى المنتجة.

    نتساءل: هل هنالك، في ظل الرأسمالية، وسيلة أخرى غير الحرب لتسوية عدم التناسب بين تطور القوى المنتجة وتراكم الرأسمال من جهة، واقتسام المستعمرات و«مناطق النفوذ» للرأسمال المالي، من الجهة الأخرى؟

    الفصل الثامن: طفيلية الرأسمالية وتعفنها

    وبعد. إن الإمبريالية هي تراكم هائل للرأسمال النقدي في عدد قليل من البلدان يبلغ كما سبق ورأينا 100-150 مليار فرنك من الأوراق المالية. ومن هنا تنمو بصورة خارقة طبقة أو، بالأصح، فئة أصحاب المداخل، أي الأشخاص الذين يعيشون من «قص الكوبونات»، الأشخاص المنعزلين تماما عن كل اشتراك في أي مشروع، أشخاص مهنتهم التعطل.

    وتصدير الرأسمال – وهو أساس من أهم أسس الإمبريالية الاقتصادية – يشدد لدرجة أكبر العزلة التامة لفئة أصحاب المداخيل عن الإنتاج، ويسم بطابع الطفيلية كل البلاد التي تعيش من استثمار عمل عدد من بلدان ما وراء المحيطات والمستعمرات.

    إن عائدات أصحاب المداخيل هي خمسة أضعاف عائد التجارة الخارجية في أكبر بلد «تجاري» في العالم! هذا هو كنه الإمبريالية والطفيلية الإمبريالية.

    إن الدولة صاحبة الدخل هي دولة الرأسمالية الطفيلية المتقيحة، وهذا الأمر يجد انعكاسه، لا محالة، في مثل هذه البلدان على جميع الظروف الاجتماعية والسياسية بوجه عام وعلى الاتجاهين الأساسيين في حركة العمال بوجه خاص. ولكيما نبين ذلك بأجلى شكل ممكن نترك الكلام لهوبسون باعتباره أفضل شاهد «عدل»، إذ يستحيل اتهامه بالتحيز «للايمان الماركسي الحق»، ولأنه، من الجهة الأخرى، إنجليزي، أي إنسان مطلع على دقائق الأمور في أغنى البلاد بالمستعمرات والرأسمال المالي والخبرة الإمبريالية.

    لقد وصف هوبسون تحت تأثير انطباعاته الحية من الحرب الإنجليزية البورية صلة الإمبريالية بمصالح «الماليين» وتزايد أرباحهم من تقديم العتاد الحربي وغير ذلك وكتب يقول: «إن موجهي هذه السياسة ذات الطابع الطفيلي البين هم الرأسماليون؛ ولكن البواعث نفسها تفعل فعلها في فئات معينة من العمال. فأهم الفروع الصناعية في العديد من المدن تتوقف على العقود الحكومية. فالإمبريالية في مراكز صناعة التعدين وبناء السفن تتوقف لدرجة كبيرة على هذا الواقع». وثمة ظرفان كانا يضعفان، برأي الكاتب، قوة الإمبراطورية القديمة:

    1 «الطفيلية الاقتصادية»

    2  تشكيل الجيوش من الشعوب التابعة.

    الأول هو عادة الطفيلية الاقتصادية وبحكمها تستفيد الدولة المسيطرة من مقاطعاتها ومستعمراتها والبلدان التابعة لإثراء طبقتها الحاكمة ورشوة طبقاتها السفلى لتبقى هادئة. ونضيف من جهتنا أن هذه الرشوة بأي شكل تحققت، لا بد لها، لتغدو أمرا ممكنا من الواجهة الاقتصادية، من أرباح فاحشة، احتكارية.

    وفيما يخص الظرف الثاني كتب هوبسون: «ومن أغرب امارات عمى الإمبريالية ذلك الاستهتار الذي تنخرط به بريطانيا العظمى وفرنسا والأمم الإمبريالية الأخرى في هذا الطريق. وقد تخطت بريطانيا العظمى الجميع. فمعظم المعارك التي استولينا بها على إمبراطوريتنا الهندية قد خاضتها جيوشنا المشكلة من الجنود المحليين؛ ففي الهند وفي مصر كذلك حديثا توجد جيوش نظامية كبيرة تحت قيادة البريطانيين. ومعظم الحروب التي خضناها لغزو إفريقيا عدا إفريقيا الجنوبية، قد خاضها من أجلنا الجنود المحليون».

    ويقدم هوبسون من الناحية الاقتصادية على النحو التالي احتمال اقتسام الصين: «إن قسما كبيرا من أوروبا الغربية قد يكتسب آنئذ المظهر والطابع اللذين ترتديهما الآن أقسام من هذه البلدان: جنوب إنجلترا، الريفييرا، المناطق الإيطالية والسويسرية التي يكثر فيها السياح ويقطنها الأثرياء، ونعني حفنة ضئيلة من الأرستقراطيين الأثرياء، الذين يتلقون العائدات والمرتبات من الشرق البعيد ومعهم جماعة أكبر لحد ما من المستخدمين المحترفين والتجار وعدد أكبر من خدم البيوت وعمال وسائط النقل والصناعة المشغولة بإتمام المصنوعات شبه الجاهزة. أمّا الفروع الصناعية الرئيسية فتتلاشى آنئذ، وتتدفق كميات كبرى من المواد الغذائية والمصنوعات شبه الجاهزة كجزية من آسيا وإفريقيا». هذه هي الآفاق التي يفتحها لنا اتحاد أوسع بين الدول الغربية، اتحاد أوروبي بين الدول الكبرى: وهذا الإتحاد، فضلا عن أنه لا يدفع إلى الأمام قضية الحضارة العالمية، يمكنه أن يكون خطر الطفيلية الغربية لدرجة هائلة: أن يبرز مجموعة من الأمم الصناعية الراقية تتقاضى طبقتها العليا جزية ضخمة من آسيا وإفريقيا تمكنها من إعالة جماعات مروّضة من الخدم والمستخدمين غير المشغولين في إنتاج الكميات الكبرى من المواد الزراعية والصناعية، بل في الخدمة الشخصية، أو تقوم تحت إشراف الأرستقراطية المالية الجديدة بأعمال صناعية ثانوية. وعلى هؤلاء المستعدين لإهمال هذه النظرية» (وينبغي أن يقال هذا المستقبل) «على اعتبارها غير جديرة بالاكتراث أن يمعنوا الفكر في الظروف الإقتصادية والاجتماعية في مناطق إنجلترا الجنوبية الراهنة التي وصلت إلى هذا الحال. فليفكروا في السعة الكبرى التي يمكن أن يبلغها هذا النظام في حالة ما إذا أخضعت الصين اقتصاديا لاشراف مثل هذه الفرق المالية «موظفة الرساميل» ولمستخدميها السياسيين والصناعيين والتجاريين الذين يبتزون الأرباح من أكبر مستودع للثروات الكامنة عرفه العالم حتى اليوم، بقصد استهلاك هذه الأرباح في أوروبا. وغني عن القول أن الحالة في منتهى التعقيد، ولعبة القوى العالمية تصعب جدا الاحاطة بها ليغدو من المحتمل هذا التفسير للمستقبل أو ذاك في اتجاه واحد. ولكن التأثيرات التي توجه الامبريالية في أوروبا الغربية في الساعة الراهنة تسير في هذا الإتجاه، وإذا لم تصادف مقاومة، إذا لم توجه وجهة أخرى، فهي تعمل في اتجاه مثل هذه الخاتمة لهذا السير».

    يقول لينين إن الكاتب على حق كامل: فإذا لم تصادف قوى الإمبريالية مقاومة فهي تصل حتما إلى هذه النتيجة. فمغزى «الولايات المتحدة الأوروبية» في الظرف الإمبريالي الراهن قد قدر هنا على الوجه الصحيح. وكل ما كان ينبغي أن يضاف هو أنه في داخل حركة العمال كذلك «يعمل» بمثابرة في الإتجاه ذاته بالضبط الانتهازيون الذين حصلوا الآن على الغلبة مؤقتا في معظم البلدان. فالإمبريالية التي تعني اقتسام العالم واستمرار البلدان الأخرى، لا الصين وحدها، والتي تعني الأرباح الاحتكارية الفاحشة لحفنة من أغنى البلدان، تخلق اقتصاديا إمكانية رشوة الفئات العليا من البروليتاريا وبذلك تغذي الانتهازية وتكونها وتوطدها. إلاّ أن ما لا ينبغي أن ننساه هو تلك القوى المقاومة للإمبريالية بوجه عام وللانتهازية بوجه خاص، القوى التي لا يراها بطبيعة الحال الاشتراكي-الليبرالي هوبسون.

    في إنجلترا ينتزع من ميدان الانتاج الزراعي قسم متعاظم من الأراضي ويستخدم لرياضة الأثرياء وتسليتهم. ويقال فيما يخص سكوتلندا – المنطقة الأكثر أرستقراطية للقنص وأنواع الرياضات الأخرى – «إنها تعيش على ماضيها وعلى المستر كارنجي» (صاحب المليارات الأمريكي). وتنفق إنجلترا سنويا 14 مليون جنيه سترليني (نحو 130 مليون روبل) على سباق الخيل وصيد الثعالب وحدهما.

    ومن خواص الإمبريالية المرتبطة بجملة الظواهر التي نصفها انخفاض الهجرة من البلدان الإمبريالية وازدياد الهجرة (انتقال العمال ونزوحهم) إلى هذه البلدان من بلدان أكثر تأخرا والأجور فيها أحط.

    وينبغي أن نشير إلى أن نزوع الإمبريالية إلى شق صفوف العمال وإلى تقوية الانتهازية بينهم وإلى إفساد حركة العمال مؤقتا قد ظهر في إنجلترا قبل أواخر القرن التاسع عشر وبدء القرن العشرين بزمن طويل. وذلك لأن سمتين أساسيتين من السمات المميزة للإمبريالية قد بدتا في إنجلترا منذ منتصف القرن التاسع عشر: المستعمرات الشاسعة والوضع الاحتكاري في السوق العالمية. وقد تتبع ماركس وإنجلس بصورة دائمة خلال عدة عقود من السنين هذه الصلة التي تربط الانتهازية في حركة العمال بالخصائص الإمبريالية في الرأسمالية الإنجليزية. وقد كتب إنجلس إلى ماركس في 7 أكتوبر سنة 1858: «في الواقع تتبرجز البروليتاريا الإنجليزية أكثر فأكثر، ويبدو أن هذه الأمة الأكثر برجوازية بين الأمم تريد أن تكون لديها في نهاية الأمر إلى جانب البرجوازية الأرستقراطية برجوازية وبروليتاريا برجوازية. وبديهي أن هذا، بمعنى معين، أمر منطقي من أمة تستثمر العالم كله». وبعد نحو ربع قرن، في رسالة مؤرخة في 11 غشت سنة 1881، يتكلم انجلس عن «شر التريديونيونات الإنجليزية التي تستسلم لقيادة أناس اشترتهم البرجوازية أو أنها تدفع لهم على الأقل». وقد كتب إنجلس في رسالة إلى كاوتسكي مؤرخة في 12 من سبتمبر سنة 1882: «تسألني عن رأي العمال الإنجليز في سياسة حيازة المستعمرات؟ لا يختلف رأيهم عن رأيهم في السياسة بوجه عام. هنا لا وجود لحزب العمال، كل ما يوجد هنا هما حزب المحافظين وحزب الراديكاليين-الليبراليين، أمّا العمال فيتمتعون معهم مطمئنين بوضع إنجلترا الاحتكاري إزاء المستعمرات وبوضعها الإحتكاري في السوق العالمية». (وقد لخص إنجلس الفكرة نفسها في مقدمة الطبعة الثانية من كتاب «حالة الطبقة العاملة في إنجلترا»، سنة 1892).

    وقد أشير هنا بوضوح إلى الأسباب والنتائج.

     الأسباب:

     1) استثمار هذا البلد للعالم كله؛

     2) وضعها الاحتكاري في السوق العالمية؛

     3) وضعها الاحتكاري ازاء المستعمرات.

    النتائج:

     1) تبرجز قسم من البروليتاريا الإنجليزية؛

     2) ويستسلم قسم منها لقيادة أناس اشترتهم البرجوازية أو أنها تدفع لهم على الأقل.

    والصفة المميزة للوضع الراهن، هي وجود ظروف إقتصادية وسياسية لا بد وأن تزيد من منافاة الانتهازية للمصالح العامة والجذرية للحركة العمالية: فقد نمت الامبريالية من جنين إلى نظام سائد، وشغلت الاحتكارات الرأسمالية المكان الأول في الاقتصاد الوطني والسياسة، وتم حتى النهاية اقتسام العالم؛ ومن الجهة الأخرى، بدلا من اشغال إنجلترا دون منازع لوضع احتكاري، صراعا بين عدد ضئيل من الدول الامبريالية من أجل الاشتراك في الاحتكار، صراعا يميز كامل مرحلة بداية القرن العشرين. لا يمكن الآن أن تكون للانتهازية الغلبة التامة خلال عقود عديدة من السنين ضمن حركة العمال في بلد من البلدان، كما تغلبت الانتهازية في إنجلترا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولكنها في عدد من البلدان قد نضجت بصورة تامة وافرطت في النضوج وتعفنت إذ اندمجت بصورة كاملة بوصفها الاشتراكية-الشوفينية في السياسة البرجوازية.

    الفصل التاسع: انتقاد الإمبريالية

    إن هذه السداجة من جانب الاقتصاديين البرجوازيين لا تدهش؛ من مصلحتهم، عدا ذلك، التظاهر بالسذاجة لهذا الحد والكلام «بلهجة الجد» عن السلام في ظل الإمبريالية. ولكن ماذا تبقى من الماركسية عند كاوتسكي عندما أخذ في سنوات 1914، 1915، 1916، بوجهة نظر الإصلاحيين البرجوازيين نفسها وأكد أن «الجميع متفقون» (الإمبرياليون وأدعياء الاشتراكية والاشتراكيون المسالمون) بشأن السلام؟ فبدلا من تحليل الإمبريالية والكشف عن عمق تناقضاتها، لا نرى إلاّ «الأمنية البريئة» الإصلاحية في التغاضي عن هذه التناقضات وإغراقها في لجة الكلام.

    وهاكم نموذجا من نقد كاوتسكي للإمبريالية من الناحية الاقتصادية. إنه يتناول إحصاءات عن صادرات إنجلترا إلى مصر ومستورداتها منها في سنتي 1872 و1912؛ ويبدو أن نمو هذه الصادرات والواردات هو أضعف من نمو صادرات وواردات إنجلترا بوجه عام. ويخلص كاوتسكي إلى هذه النتيجة: «ليس لدينا من داع يحملنا على الظن أن التجارة مع مصر بدون احتلالها عسكريا تنمو بصورة أبطأ تحت تأثير العوامل الاقتصادية وحدها». «إن رغبات الرأسمال في التوسع» يمكن بلوغها بأفضل شكل عن طريق الديموقراطية السلمية، لا عن طريق القسر الإمبريالية».

    إن تعديلات كاوتسكي هذه التي يرددها بشتى النغمات حامل أسلحة الروسي (والمستر الروسي للإشتراكيين-الشوفينيين) السيد سبيكتاتور هي الأساس الذي يقوم عليه النقد الكاوتسكي للإمبريالية، ولذا ينبغي أن نتناولها بتفصيل. ولنبدأ بفقرة من هلفيردينغ الذي أعلن كاوتسكي مرارا وتكرارا، بما في ذلك في أبريل سنة 1915، أن استنتاجاته «قبلت بالإجماع من جانب النظريين الاشتراكيين».

    لقد تخلى كاوتسكي عن الماركسية بدفاعه في عصر الرأسمال المالي عن «مثل أعلى رجعي»، عن «الديموقراطية السلمية»، وعن «تأثير العوامل الاقتصادية وحدها»، – لأن هذا المثل الأعلى يجر موضوعيا إلى الوراء، من الرأسمالية الاحتكارية إلى الرأسمالية غير الاحتكارية، ولأنه خدعة إصلاحية.

    لا يمكن أن يكون لتعديلات كاوتسكي معنى آخر، وهذا «المعنى» هو لغو. فلنقل، نعم، فلنقل أن المزاحمة الحرة بدون أي احتكار مهما كان نوعه، يمكنها أن تنمي الرأسمالية بصورة أسرع، كلما اشتد تمركز الإنتاج والرأسمال، التمركز الذي يولد الإحتكار. ولكن الاحتكارات قد ولدت، ومن المزاحمة الحرة بالضبط! وحتى إذا كانت الاحتكارات قد أخذت الآن تؤخر النمو، فذلك ليس على كل حال بحجة في صالح المزاحمة الحرة التي غذت أمرا مستحيلا بعد أن أنجبت الاحتكارات.

    • وكيفما قلب المرء تعليلات كاوتسكي لا يجد فيها شيئا آخر سوى الرجعية والإصلاحية البرجوازية.

    ما من جامع يجمع بالماركسية النقد الذي يوجهه كاوتسكي للإمبريالية، وهذا النقد لا يصلح إلاّ كتوطئة للتبشير بالسلام والوحدة مع الانتهازيين والاشتراكيين-الشوفينيين، لأن هذا النقد يتحاشى ويطمس بالضبط تناقضات الإمبريالية الجذرية والأكثر عمقا: التناقض بين الاحتكارات والمزاحمة الحرة القائمة إلى جانبها، بين «عمليات» الرأسمال المالي الهائلة (وأرباحه الهائلة) والتجارة «الشريفة» في السوق الحرة، بين الكارتيلات والتروستات من جانب والصناعة غير المنضمة للكارتيلات مع الجانب الآخر، الخ..

    وبمثل هذا الطابع الرجعي بالضبط تتسم كذلك نظرية « الإمبريالية العليا» السيئة الصيت التي لفقها كاوتسكي. قارنوا بين تعليلاته حول هذا الموضوع في 1915 وتعليلات هوبسون في سنة 1902:

    كاوتسكي: «…هل يمكن أن تزاح السياسة الإمبريالية الراهنة بسياسة جديدة، سياسة الإمبريالية العليا الأولترا-امبريالية ultra-imperialisme) التي تحل محل الصراع بين الرساميل المالية الوطنية استثمار العالم كله بصورة مشتركة من قبل رأسمال مالي عالمي موحد؟ أم مثل هذه المرحلة الجديدة في الرأسمالية أمر معقول على كل حال، وهل يمكن تحقيقها؟ لا توجد بعد الممهدات الكافية لحل هذه المسألة».

    إن طمس كاوتسكي لأعمق تناقضات الإمبريالية، الأمر الذي يؤول حتما إلى تجميل وجه الإمبريالية، يترك أثره كذلك على انتقاد هذا الكاتب لخصائص الإمبريالية السياسية. الإمبريالية هي عهد الرأسمال المالي والاحتكارات التي تحمل في كل مكان النزعة إلى السيطرة، لا إلى الحرية. ونتائج هذه النزعة هي الرجعية على طول الخط في ظل جميع النظم السياسية وتفاقم التناقضات لأقصى حد كذلك في هذا الحقل. يشتد بوجه خاص كذلك الظلم القومي الساعي إلى الالحاق، أي اعتداء على الاستقلال الوطني (ذلك لأن الالحاق، ليس إلاّ انتهاك حق الأمم في تقرير مصيرها).

    وينبغي أن نضيف إلى ذلك أن الإمبريالية تفضي إلى الإلحاق وإلى تفاقم الظلم القومي؛ وبالتالي إلى اشتداد المقاومة ليس فقط في البلدان المكتشفة حديثا، بل كذلك القديمة. إن كاوتسكي، إذ يعارض تقوية الإمبريالية للرجعية السياسية، يحجب مسألة غدت في منتهى الأهمية، هي مسألة استحالة الوحدة مع الانتهازيين في عهد الإمبريالية. وهو، إذ يعارض الإلحاق، يعطي حججه الشكل الأقل إساءة للانتهازيين والذي يتقبلونه بأكبر سهولة. وهو يتوجه مباشرة إلى القراء الألمان ويطمس مع ذلك الأمر الأهم، مسألة الساعة مثلا، إن الألزاس واللورين قد ألحقتا بألمانيا. وبغية تقييم هذا «الإتجاه في تفكير» كاوتسكي نضرب المثل التالي. فلنفرض أن يابانيا يشجب إلحاق الأمريكيين للفليبين. نتساءل: هل ثمة كثيرون يصدقون أن ذلك ناشئ عن عدائه للإلحاق بوجه عام، لا عن رغبته في أن يلحق الفلبين هو نفسه؟ أولسنا مضطرين إلى الاعتراف بأن «نضال» الياباني ضد الإلحاق لا يمكن أن يعتبر نزيها وشريفا من الناحية السياسة إلاّ في حالة ما إذا وقف ضد إلحاق اليابان، إلاّ في حالة ما إذا طالب لكوريا بحرية الإنفصال عن اليابان؟

    • إن تحليل كاوتسكي للإمبريالية من الناحية النظرية وانتقاده لها من الناحية الاقتصادية، وكذلك السياسية، هما مشبعان برمتهما بروح تتجافى مع الماركسية كل التجافي، بروح طمس وتخفيف أهم التناقضات والسعي مهما كلف الأمر إلى الإبقاء على الوحدة المتداعية مع الإنتهازيين في الحركة العمالية الأوروبية.

    الفصل العاشر: مكان الإمبريالية في التاريخ

    لقد رأينا أن الإمبريالية، من حيث كنهها الاقتصادي، هي الرأسمالية الاحتكارية. وهذا ما يحدد بحد ذاته مكان الإمبريالية في التاريخ لأن الإحتكار الذي نشأ على صعيد المزاحمة الحرة، وعن المزاحمة الحرة بالضبط، هو انتقال من النظام الرأسمالي إلى نظام اقتصادي اجتماعي أعلى. وينبغي أن نشير بوجه خاص إلى أنواع الاحتكار الرئيسية الأربعة أو إلى أربعة مظاهر رئيسية للرأسمالية الإحتكارية تميز العهد الذي نحن بصدده.

    أولا، نشأ الإحتكار عن تمركز الإنتاج البالغ درجة عالية جدا في تطوره. وهذا هو اتحادات الرأسماليين الاحتكارية، الكارتيلات، السنديكات والتروستات. وقد رأينا مدى جسامة الدور الذي تلعبه في الحياة الاقتصادية الراهنة. وفي مستهل القرن العشرين وطدت تفوقها التام في البلدان الراقية. وإذا كانت البلدان ذات الرسوم الجمركية الوقائية المرتفعة (ألمانيا، أمريكا) هي التي خطت الخطوات الأولى في طريق تنظيم الكارتيلات، فإن إنجلترا التي يسودها نظام التجارة الحرة قد أظهرت بعد وقت قليل الواقع الرئيسي نفسه: نشأة الاحتكارات عن تمركز الإنتاج.

    ثانيا، ساقت الاحتكارات إلى تسريع الاستيلاء على أهم مصادر الخامات، ولاسيما خامات الصناعات الرئيسية في المجتمع الرأسمالي والتي بلغ فيها تنظيم الكارتيلات حده الأقصى كصناعات الفحم الحجري وصهر الحديد. واحتكار حيازة أهم مصادر المواد الخام قد زاد سلطان الرأسمال الضخم لدرجة هائلة وأزّم التناقضات بين الصناعة المنظمة في الكارتيلات وغير المنظمة في الكارتيلات.

    ثالثا، نشأ الاحتكار عن البنوك. وقد تحولت البنوك من مؤسسات وسيطة متواضعة إلى محتكر للرأسمال المالي. فثمة ثلاثة أو خمسة بنوك ضخمة لأية أمة من الأمم الرأسمالية الراقية قد حققت «الإقتران الشخصي» بين الرأسمال الصناعي و الرأسمال البنكي وركزت في أيديها التصرف بالمليارات العديدة التي تؤلف القسم الأكبر من الرساميل والمداخيل النقدية في بلاد بأكملها. والطغمة المالية التي غطت بشبكة كثيفة من علاقات التبعية جميع ما في المجتمع البرجوازي المعاصر من مؤسسات اقتصادية وسياسية دون استثناء هي أبرز ظاهرة لهذا الاحتكار.

    رابعا، نشأ الإحتكار عن سياسة حيازة المستعمرات فالرأسمال المالي قد أضاف إلى بواعث السياسة الاستعمارية –إلى البواعث «القديمة» العديدة – الصراع من أجل مصادر الخامات، من أجل تصدير الرساميل، من أجل «مناطق النفوذ» – أي مناطق الصفقات الرابحة والامتيازات والأرباح الاحتكارية وهلم جرا – وأخيرا من أجل الأقاليم الاقتصادية بوجه عام. فحينما كانت مستعمرات الدول الأوروبية تشغل مثلا عشر إفريقيا كما كان الحال في سنة 1876، كان بإمكان سياسة الاستيلاء على المستعمرات أن تتطور بطريق غير احتكاري، بطريق – إن أمكن القول – «الاستيلاء الحر» على الأراضي. ولكن عندما تم الاستيلاء على تسعة أعشار إفريقيا (حوالي سنة 1900)، عندما تم اقتسام العالم كله، حل بالضرورة عهد احتكار حيازة المستعمرات، وبالتالي عهد احتدام أشد الصراع من أجل اقتسام العالم وإعادة اقتسامه.

    يعلم الجميع إلى أي مدى أججت الرأسمالية الاحتكارية جميع تناقضات الرأسمالية. حسبنا أن نشير إلى غلاء المعيشة وإلى جور الكارتيلات. وتفاقم التناقضات هذا، هو القوة المحركة الأشد بأسا في المرحلة التاريخية الانتقالية التي بدأت منذ إحراز الرأسمال المالي الانتصار التام.

    • إن الاحتكارات والطغمة المالية والنزوع إلى السيطرة بدلا من النزوع إلى الحرية، واستغلال عدد متزايد من الأمم الصغيرة أو الضعيفة من قبل قبضة صغيرة من الأمم الغنية أو القوية –كل ذلك قد خلق السمات المميزة للإمبريالية التي تحمل على وصفها بأنها الرأسمالية الطفيلية أو المتقيحة. ويظهر ببروز متزايد ميل من ميول الإمبريالية وهو الميل إلى إنشاء «الدولة صاحبة المداخيل»، الدولة المرابية التي تعيش برجوازيتها أكثر فأكثر من تصدير الرساميل و«قص الكوبونات». ومن الخطأ الظن أن هذا الميل إلى التعفن ينفي نمو الرأسمالية بسرعة؛ لا، إن هذا الفرع من فروع الصناعة، هذه الفئة من فئات البرجوازية، هذه البلاد أو تلك تظهر في عهد الإمبريالية بقوة كبيرة لهذا الحد أو ذاك تارة الميل الأول، وتارة الميل الثاني. وبالإجمال تنمو الرأسمالية بسرعة أكبر جدا من السرعة السابقة؛ إنها تنمو، ولكن هذا النمو لا يغدو بوجه عام أكثر تفاوتا وحسب؛ فهذا التفاوت يتجلى كذلك بوجه خاص في تعفن البلدان الأقوى بالرساميل (إنجلترا).

    • إن الأرباح الاحتكارية الفاحشة التي يبتزها رأسماليو فرع من فروع صناعية عديدة، بلد من بلدان كثيرة والخ. تمكنهم اقتصاديا من رشوة فئات معينة من العمال وبصورة مؤقتة أقلية من العمال كثيرة لحد ما ومن جذبهم إلى جانب برجوازية فرع صناعي معين أو أمة معينة ضد جميع الآخرين. واشتداد التناحر بين الأمم الإمبريالية من أجل تقاسم العالم يشدد هذه النزعة. وعلى هذه الصورة تنشأ الصلة بين الإمبريالية والانتهازية، هذه الصلة التي بدت في إنجلترا قبل البلدان الأخرى وأوضح مما في البلدان الأخرى بسبب أن بعض سمات التطور الإمبريالية قد ظهرت فيها قبل البلدان الأخرى بزمن طويل.. والواقع أن نمو الانتهازية، بهذه السرعة الكبرى وبهذه الصفة القبيحة للغاية، قطعا بضمان لانتصارها بصورة وطيدة كما أن سرعة نضوج البثور الخبيثة في الجسم السليم تعجل انفجارها فقط وتخليص الجسم منها. وأخطر ما في الأمر هو الناس الذين لا يريدون أن يفهموا أن النضال ضد الإمبريالية، إذا لم يقترن اقترانا وثيقا بالنضال ضد الانتهازية، يكون عبارة فارغة وكاذبة.

    وما هو في غاية الدلالة بهذا الصدد واقع أن كلمات «التشابك» و«انعدام العزلة» والخ.، هي كلمات يكثر استعمالها الاقتصاديون البرجوازيون في وصفهم للرأسمالية الحديثة.

    فماذا تعني إذن كلمة «التشابك» هذه؟ إنها لا تلقف غير السمة الأبرز في العملية الجارية على مرأى منا. إنها تظهر أن الباحث يعدد بعض الشجرات دون أن يرى الغابة. إنها تنسخ بذلة ما هو ظاهري وصدفي وما هو ذو صفة فوضوية. وهي تكشف في الباحث شخصا سحقته المادة الخام وعاجز تماما عن تبين كنهها وأهميتها. تملك الأسهم وعلاقات المالكين الفرديين «تتشابك بصورة صدفية». ولكن ما يختفي في بطانة هذا التشابك، ما يكونه أساسه، هو تغيرات علاقات الإنتاج الاجتماعية. فعندما يصبح مشروع كبير هائلا وينظم، بصورة منهاجية على أساس مراعاة دقيقة للمعلومات العديدة، تقديم 3/2 أو 4/3 كامل المواد الخام الضرورية لعشرات الملايين من السكان؛ وعندما يتم بصورة منظمة نقل هذه الخامات إلى أماكن الإنتاج الأحسن ملاءمة والتي يبعد بعضها عن البعض أحيانا مئات وألوف الفراسخ؛ وعندما يشرف مركز واحد على جميع المراحل المتتابعة في تكييف الخامات الجاهزة بما في ذلك الحصول على جملة من مختلف أصناف المنتوجات الجاهزة؛ وعندما يتم حسب برنامج واحد توزيع هذه المنتوجات الجاهزة بين عشرات ومئات الملايين من المستهلكين (تصريف «تروست البترول» الأمريكي للبترول في أمريكا وفي ألمانيا)؛ – عندئذ يصبح من الواضح أننا إزاء اكتساب الإنتاج للصفة الاجتماعية، لا إزاء مجرد «تشابك»؛ وأن علاقات الاقتصاد الخاص والملكية الخاصة تؤلف غلافا غدا لا يتلاءم مع المحتوى ،ومن شأنه أن يتعفن لا محالة ،إذا ما أجلت إزالته بصورة مصطنعة، ويمكنه أن يبقى في حالة التعفن زمنا طويلا نسبيا (في أسوأ الحالات – في حالة ما إذا طال أمد الاستشفاء من البثور الانتهازية)، ولكنه مع ذلك سيزول لا محالة.

    حمو خالد