Ok

En poursuivant votre navigation sur ce site, vous acceptez l'utilisation de cookies. Ces derniers assurent le bon fonctionnement de nos services. En savoir plus.

عاشت الذكرى المئوية لانتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى ــــ في المغزى العالمي لثورة أكتوبر الاشتراكية 1917 ــــ

 

 

I - ثورة أكتوبر1917: الأحداث، الوقائع، الشعارات والإنتصار

تحل اليوم الذكرى المائة لانتصار ثورة اكتوبر الاشتراكية العظمى، حدث هز أركان العالم القديم معلنا بزوغ فجر جديد للإنسانية. ففي ليلة 25 من أكتوبر 1917 خرجت طلائع البروليتاريا المنظمة في الحرس الأحمر والجنود الثوريين بقيادة مناضلي وأطر الحزب البلشفي المحنكين، من زوايا مختلفة من مدينة سان بطرسبورغ. كان الثوار يتقدمون بخطوات كبيرة ومتسارعة نحو أهداف استراتيجية داخل المدينة لإحكام القبضة عليها (البريد، محطات القطار، الميناء، التلغراف والأبناك ...) وإعلان الثورة البروليتارية الاشتراكية في روسيا.

هكذا، بعد نصف قرن من كومونة باريس، تولد من جديد حكومة الطبقة العاملة على أنقاض الاستبداد القيصري في روسيا وخدامه من بورجوازية الكاديت و"الاشتراكيين الثوريين" والمناشفة. لقد دب الهلع والخوف في صفوف أركان النظام الرجعي وحكومته البورجوازية المؤقتة، وفي الساعة التاسعة صباحا فر زعيم الحكومة كرينسكي خارج مدينة سان بطرسبورغ، بينما اعتصم باقي وزراء الحكومة وأركان الدولة داخل قصر الشتاء، القصر الذي انطلقت منه رصاصات الكوزاك بأمر من نيقولا الثاني صوب صدور العمال في بداية ثورة 1905. وفي التاسعة و خمس وأربعون دقيقة صباحا يصدر لينين إعلانا موجها إلى الصحافة قال فيه:

"إن الحكومة المؤقتة قد تم إسقاطها، وانتقلت السلطات الحكومية إلى يد جهاز سوفيات مندوبي العمال والجنود في بتروغراد (سان بترسبورغ)، اللجنة العسكرية الثورية، التي انتصبت على رأس البروليتاريا وحامية بتروغراد. إن الهدف الذي كافح من أجله الشعب [...] قد تحقق".

بعد إصدار اللجنة العسكرية الثورية إنذارا إلى الوزراء المعتصمين بقصر الشتاء، لتسليم أنفسهم، و بعد رفضهم، وحوالي الساعة التاسعة ليلا، أطلقت الطرادة "الفجر"، قذائفها على قصر الشتاء، ونفس الشيء قامت به قلعة بيير وبول، ففر المدافعون عن القصر، واقتحم الحرس الأحمر، التشكيلة المسلحة لطلائع البروليتاريا، قصر الشتاء رمز قرون من الاستبداد والاضطهاد حول فيه قياصرة روسيا امبراطوريتهم "إلى سجن الشعوب"، و إعدام آلاف الشهداء الذين سقطوا من أجل الديموقراطية والحرية في روسيا. وفي الثانية صباحا وعشر دقائق من يوم 26 أكتوبر تم اعتقال جميع الوزراء. هكذا حررت طلائع البروليتاريا بقيادة الحزب البلشفي وزعيمه الثوري لينين الشعب الروسي وشعوب وقوميات الامبراطورية الروسية القيصرية من براثن الاستغلال والاضطهاد ومن قرون من الظلام والاستبداد.

في اليوم الخامس والعشرين من أكتوبر، وعلى الساعة الحادية عشرة وعشر دقائق ليلا، اجتمع مؤتمر السوفيات لعموم روسيا الثاني، حيث أصبح البلاشفة داخله يتوفرون على الأغلبية، وتحت شعار "كل السلطة للسوفياتلت"، ليعلن أمام العالم استيلاءه على السلطة، والمصادقة على إعطاء كل السلط للسوفيات، ثم اتخذ قرارا بتشكيل أول حكومة مؤقتة للعمال والفلاحين، التي أخذت اسم "مجلس مفوضي الشعب" (السوفارنوك)، وذلك بقيادة لينين، وضمت مجموعة من قادة الحزب البلشفي، الذي أصبح يتوفر على الأغلبية في سوفياتات أكثر من 50 مدينة روسية ، وقام المؤتمر الثاني لعامة روسيا بإصدار قرار هام حول السلم ("مرسوم حول السلم")، لإخراج روسيا من حرب ضروس امبريالية زج بها نيكولا الثاني روسيا، وأدت إلى إبادة ملايين من الجنود الروس، أبناء العمال والفلاحين، وذلك خدمة للدول الامبريالية المسماة "دول الوفاق"، فرنسا وبريطانيا. وفي يوم 26 أكتوبر 1917، قرر "مجلس مفوضي الشعب" (الحكومة الثورية) إصدار "مرسوم حول الأرض"، وينص على عدم انتزاع أراضي بسطاء الفلاحين والكوزاك، كما أن الاستيلاء على الماشية لن يمس الفلاحين الصغار، وأعطى المرسوم الحق لمواطني روسيا بدون تمييز بين الجنسين، والراغبين في استغلال الأرض بعملهم أوبمساعدة عائلاتهم أو بشراكة، الحق في التمتع بالأرض، على قدم المساواة، كما تم منع العمل المأجور.

وتوالت قرارات الحكومة الثورية، وفي يوم 21 نونبر 1917 تم الإعلان عن تأسيس الجمهورية الاشتراكية الفدرالية السوفياتية لروسيا، التي ستشكل اللبنة الأولى لتأسيس اتحاد الجمهوريات السوفياتية يوم 30 دجنبر 1922. وقد كانت حكومة كرينسكي قد أعلنت عن تأسيس الجمهورية الروسية يوم 27 شتنبر 1917 ، ليتم الإعلان عن سقوطها من طرف ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى.

لقد تميزت الثورة الروسية في فبراير 1917 بطابع مزدوج، الناتج عن تشابك معقد لنوعين من الثورة، الأولى ديموقراطية، فلاحية أساسا، والثانية بروليتارية اشتراكية، وهذه الخاصية هي التي جعلت لينين في يوليوز 1905 يرفع شعار "الدكتاتورية الديموقراطية الثورية للعمال والفلاحين".

يقول لينين : "إن مهمة الثورة في روسيا، المباشرة والقريبة، كانت مهمة ديموقراطية بورجوازية، قوامها القضاء على بقايا القرون الوسطى، وإزالتها إلى الأبد، وتنظيف روسيا من هذه البربرية، من هذا العار، مما كان يعيق إلى ما لا حد له كل ثقافة وكل تقدم في بلادنا".

"إن مضمون الثورة الديموقراطي البورجوازي، هو تصفية العلاقات الاجتماعية (النظم، المؤسسات) في البلد من خصائص القرون الوسطى، من القنانة، من الإقطاعية".

وبالنسبة لترابط سيرورتي الثورة الديموقراطية البورجوازية والثورة البروليتارية الاشتراكية، وتشابكهما، يقول لينين:

"ونقول بالمناسبة أن جميع أضراب كاوتسكي وهلفردينغ ومارتوف وتشيرنوف وهيلكويت ولونغة وماكدونالد وتوراتي، وسائر أبطال الماركسية "الثانية والنصف" لم يستطيعوا إدراك هذه العلاقة بين الثورة الديموقراطية البورجوازية والثورة البروليتارية الاشتراكية. إن الأولى تتحول إلى الثانية، والثانية تحل عرضا، قضايا الأولى. والثانية توطد عمل الأولى. والنضال، النضال وحده، هو الذي يقرر إلى أي حد تنجح الثانية في تجاوز الأولى" ("لمناسبة الذكرى الرابعة لثورة أكتوبر"، لينين، 14 أكتوبر 1921).

عموما، كانت الرأسمالية الروسية تحمل مجموعة من المميزات،فقد كانت روسيا منذ نهاية القرن 19 تعرف تطورا صناعيا لا زال يعتمد في الاتجاه العام على "التراكم البدائي" القائم على الانتزاع التدريجي لأراضي الفلاحين، هاته العملية التي كانت القيصرية أداتها الأساسية. وبشكل موازي مع هذه السيرورة، وخلافا لما وقع في أوربا المتقدمة (فرنسا، بريطالنيا، ألمانيا) فقد عرف هذا الطور من التطور الرأسمالي في روسيا ظهور رأسمال مالي كان متمركزا أساسا في مدينة موسكو وسان بطرسبورغ. وعرفت روسيا تغلغلا هاما للرأسمال الامبريالي خاصة الانجليزي والفرنسي.

إن هذه الخصائص، مجتمعة ومتداخلة، جعلت من روسيا الحلقة الأضعف في السلسلة الامبريالية، ليس فقط بسبب تأخرها الاقتصادي، كما تنظر لذلك الأطروحات التبسيطية، بل يعود ذك إلى التقاء تفجري لمجموعة من التناقضات:

ــ اقتصاديا:

كانت التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية الروسية تتميز بتعايش مجموعة من أنماط إنتاج وأشكال إنتاج، تقوم على استغلال الجماهير من طرف الملاكين العقاريين الكبار، ثم تعايش آخر بين الرأسمال الأجنبي والرأسمال الروسي.

ــ اجتماعيا:

كانت روسيا في سنة 1913 تضم 11 مليون عاملا، أي ما يمثل 14% من السكان، ثلاث ملايين منهم في الصناعة، التي كانت تعرف تمركزا كبيرا في مجموعة من المراكز الحضرية الكبرى. أما الفلاحون فقد كانوا يمثلون 67% من مجموع الساكنة، 85% منهم فلاحون فقراء أو فقراء متوسطون.

ــ سياسيا:

وجود نظام سياسي قروسطي استبدادي ورجعي، يعارض أي إصلاحات أو تغييرات مهما كانت بسيطة، وكان القيصر والأمراء يستولون على ملايين الهكتارات من الأراضي، وكذلك الغابات والمناجم وما يحمله فوق الأرض وباطنها، ويعيش القيصر وحاشيته من الأمراء والأميرات على دخل يقتطع من ميزانية الدولة يعد بملايين الروبلات، إلى غير ذلك من القصور والمتنزهات وكل مظاهر البذخ، وفي القطب الآخر من المجتمع ترزح عشرات الملايين من الشعب الروسي تحت نير كل أشكال القهر والفقر والبؤس والجوع، كما كانت شعوب وقوميات وأقليات الامبراطورية القيصرية، بالإضافة إلى الفقر والبؤس، تعاني من الاضطهاد القومي الشوفيني السلافي الروسي، حيث كانت الامبراطورية القيصرية الروسية تنعت ب "سجن الشعوب".

ــ إيديولوجيا:

كانت الكنيسة المسيحية الأورتودوكسية المرتبطة أشد الارتباط بالقيصر تشكل دعامة أساسية من بين دعامات أخرى (الإقطاع، الجيش، الدولة القيصرية) للنظام الاستبدادي القيصري القروسطي، حيث تدعو إلى عدم الانتفاض ضد القيصر وتبرير كل سياساته الإجرامية، وقد ساهمت الحرب الامبريالية الأولى في تعميق الأزمة الإيديولوجية في روسيا.

عندما اندلعت الحرب الامبريالية العالمية الأولى، دخلت روسيا في الحرب إلى جانب فرنسا وبريطانيا ضد ألمانيا، وعرفت الحركة الاشتراكية الديموقراطية العالمية انقساما بين تيارين، أحدهما يتشبت بالمبادئ الأممية، ويدعو إلى "الانهزامية الثورية" (أي الدعوة إلى انهزام البورجوازيات الوطنية، وتحويل الحرب إلى حروب أهلية داخلية ضد البورجوازيات الإمبريالية) والتآخي والنضال من أجل هزيمة الحكومات الوطنية لكل بلد والعمل على قلبها، وكان يتزعم هذا التيار فلادمير لينين والحزب البلشفي الروسي، أما الثاني فقد اصطف إلى جانب بورجوازياته الوطنية في حربها ضد الدول الأخرى، وبذلك تخلى عن مبادئ الثورة الاشتراكية، الشيء الذي أدى إلى سقوط الأممية الاشتراكية الثانية، مما دفع بلينين إلى تأسيس الأممية الشيوعية الثالثة سنة 1919.

لقد كانت الحرب الامبريالية الأولى وبالا على النظام القيصري الروسي، الذي تسبب قراره في دخول الحرب في إبادة الملايين من العمال والفلاحين الذين تم الزج بهم في جبهات القتال ضد ألمانيا. وأمام تراكم الهزائم التي حصدها الجيش الروسي وتدهور الوضع الاقتصادي وانتشار الفقر والمجاعة، وتقلص تموين المدن بالحاجيات الضرورية، ومطالبة القيصر للشعب بتحمل تبعات الحرب،أصبح الوضع في روسيا غير متحكم فيه، وفي ظل وضع سياسي يتميز بالتأزم، عرفت روسيا حركة إضرابات واسعة همت كل المدن، وعرفت هذه الحركة في سنة 1916 تطورا هائلا وصل فيه عدد المضربين إلى مليون مضرب. وانتقل التحريض إلى صفوف الجيش وأصبحت المدن تعاني أزمة تموين صارخة نتيجة تدفق عدد هائل من اللاجئين إليها. هكذا سقطت مصداقية النظام عند الشعب وضعفت قواه، ففاجأته ثورة فبراير 1917، التي فجرتها جماهير العمال والجنود الثوريين والفلاحين، ونتج عن هذا الوضع المعقد لروسيا ما سمي بازدواجية السلطة، من جهة حكومة بورجوازية مؤقتة يرأسها الأمير جيوركي لفوف، عوضه فيما بعد كرينسكي، وتعتمد على برلمان الدولة ، الدوما، ومن جهة أخرى أنشأت بروليتاريا سان بطرسبورغ سوفياتا يضم مندوبي العمال والجنود في المدينة. لقد كانت سوفياتات العمال (أو مجالس العمال) في التجربة الروسية منذ 1905 عبارة عن جنين السلطة الثورية الجديدة، وفي نفس الوقت أجهزة الانتفاضة الثورية.

إن هذا الوضع المتميز بازدواجية السلطة، كانت فيه السلطة في الواقع في يد البروليتاريا (سوفيات سان بطرسبورغ)، إلا أن ذلك السوفيات كانت أغلبيته من المنشفيك والاشتراكيين الثوريين، وهما حزبان يساندان الحكومة البورجوازية، بل سيشاركان فيها في صيغتها الثانية عندما تولى كرينسكي رئاستها.

إن هذا الوضع المعقد الناتج عن خصوصية ثورة فبراير(ازدواجية السلطة) وهيمنة المناشفة والاشتراكيين الثوريين على أهم السوفياتات ( سوفيات سان بطرسبورغ الذي كان يضم أكثر من 400 مندوبا)، قد ألقى بثقله على الحزب البلشفي الذي اضطر للقيام بمجهود جبار دعائي وتحريضي، لتحقيق أغلبية وسط سوفياتات روسيا وخاصة سوفيات سان بطرسبورغ.

وفي أبريل 1917، وصل إلى سان بطرسبورغ فلادمير لينين عائدا من منفاه السويسري، فاستقبلته جماهير واسعة من العمال والجنود والرفاق القدامى والشباب، وتقدمت ألكسندر ا كولونتاي الصفوف لتقديم باقة ورود إلى القائد البلشفي الثوري، الذي حياها بخجل، وأدلى المنفي العائد بخطاب يعلن فيه عن نواياه حول الثورة الروسية، الشيء الذي أغاظ مستقبليه من المناشفة والاشتراكيين الثوريين، بل وحتى بعض رفاقه في الحزب (كامنيف وزينوفييف) الذين أربكتهم الأوضاع المتناقضة والمتشابكة والمعقدة أشد تعقيد، لقد أعلن لينين عن نيته في إنجاز ثورة اشتراكية بروسيا، وذلك أينما حل وارتحل خلال فترة الاستقبالات.

وأصدر لينين وثيقته الشهيرة تحت اسم "أطروحة نيسان"، معلنا أن المرحلة الأولى من الثورة قد انتهت، ومن الثورة الديموقراطية يجب الانتقال إلى الثورة الاشتراكية، وقد ضمت الوثيقة مجموعة من الشعارات التي ستشكل برنامجا لهذه الثورة، ووسيلة لتحقيق الهيمنة وسط سوفياتات مندوبي العمال والأجراء الزراعيين والفلاحين والجنود، وهكذا، وأمام دهشة الجميع، ذكر القائد البروليتاري العظيم بمهام حزب الثورة الطليعي، محددا المهام المباشرة للبروليتاريا، ومما جاء في هذه الوثيقة التاريخية:

1 ــ اعتبار السوفياتات الشكل الوحيد الممكن للحكومة الثورية في إطار جمهورية سوفياتات مندوبي العمال والأجراء الزراعيين والفلاحين.

2 ــ إلغاء الشرطة والجيش (الدائم) وكذا هيئة الموظفين.

3 ــ مصادرة أراضي كبار الملاكين العقاريين.

4 ــ تأميم جميع الأراضي في البلاد وجعلها تحت تصرف السوفياتات المحلية لمندوبي الأجراء الزراعيين والفلاحين.

5 ــ دمج جميع الأبناك في بنك وطني واحد.

6 ــ إقرار المراقبة العمالية على المؤسسات والشركات.

7 ــ نقد الحكومة البورجوازية المؤقتة وفضحها أمام الجماهير، خاصة فيما يخص موقفها من الحرب.

8 ــ النضال ضد الحرب وإبرام صلح عادل ومنصف.

كان لوثيقة "أطروحات نيسان" أثر كبير على الوضع في روسيا وداخل الحزب البلشفي، فقد أصبح الحزب البلشفي يتبنى تحليل لينين القائل أن الثورة الديموقراطية البورجوازية قد انتهت في مارس 1917، وبالتالي أصبحت المهام الثورية تتمثل في تحقيق التحول من الثورة الديموقراطية البورجوازية إلى الثورة الاشتراكية البروليتارية، عبر ضمان الدور القيادي للبروليتاريا في الثورة وتطوير المبادرة الثورية للفلاحين ودعم التحالف العمالي الفلاحي. منذ فبراير 1917، أصبحت سوفياتات مندوبي العمال والجنود (هؤلاء فلاحون مجندون في الأصل) تجسد أجهزة السلطة الشعبية وتمثل التحالف العمالي – الفلاحي. ففي بضعة أسابيع شكلت الجماهير مئات السوفياتات، وآلاف لجان المعامل والأحياء، بل ومليشيات وحرس أحمر بروليتاري، وكان الكل منتشرا في المدن، باعتبارها أماكن نقاش ومبادرات وتعبيرات وأنشطة سياسية للجماهير.

كان آلاف العمال والجنود والفلاحين والمثقفين والنساء والأقليات الدينية والعرقية يبعثون بآلاف الملتمسات والعرائض والمطالب للسوفياتات.

خلال فترة أبريل – يونيو 1917، برزت للوجود وسط المظاهرات والمسيرات للعمال والجنود الشعارات البلشفية ك "لتسقط الحرب" "لتسقط الحكومة المؤقتة" "عاشت المراقبة العمالية" "كل السلطة للسوفيات".

لقد كان للنشاط السياسي البلشفي المتزايد أثره البالغ في زيادة عدد السوفياتات التي خلقتها الجماهير، وكان عددها في ماي 1917، 400 سوفيات، وأصبحت في غشت 1917، 600 سوفيات، وعشية الثورة انتقلت إلى 900 سوفيات. وخلافا لمنظور الاشتراكيين الثوريين والمناشفة، الذين كانوا يعتبرون السوفياتات مجرد أجهزة للنضال والدعاية ، واللجان العمالية مجرد أجهزة تمارس العمل النقابي، فإن البلاشفة كانوا ينظرون إلى السوفياتات ولجان المعامل كأجهزة سلطة سياسية جديدة انتشرت في كل مكان، وحيث كان سوفيات بتروغراد( سان بترسبورغ) يحظى بسلطة واسعة في روسيا، قام البلاشفة ببلشفته بواسطة العمل العميق داخل لجان المعامل ليصبح ذا أغلبية بلشفية.

لقد برهن البلاشفة عن ذكاء باهر وعن إبداع خلاق في عملهم الثوري من أجل تثوير وبلشفة السوفياتات، التي كانت تتشكل من قاعدة بروليتارية أساسية، وذلك، أولا، عبر بلشفتها عن طريف لجان المعامل، ثم ، شيئا فشيئا، عبر المواقف الثورية البروليتارية للسوفياتات العمالية، وعرف خط السير في هذا العمل الثوري مرحلتان، الأولى، تطور فيها التأثير بشكل بطيء، وذلك من فبراير إلى حدود يوليوز 1917، وبعدها إلى حدود أكتوبر 1917 تطور بسرعة مذهلة.

بالنسبة للفلاحين والجنود (فلاحون مجندون) فحركتهم بعد انفجار ثورة فبراير عرفت مسارا مختلفا. لقد انخرطوا في الحركة الثورية بتحفظ في البداية، لقد تحرك الفلاحون وتنظموا، لكن مركز ثقل تنظيمهم شكله نظام اللجان الزراعية، التي كانت توجد بعيدا عن القرى، وعلى مستوى الأقاليم والمقاطعات بشكل عام، وكانت البورجوازية الصغيرة القروية المشكلة من المهندسين الزراعيين ومن المعلمين ومسيري التعاونيات ... تهيمن على تلك اللجان الزراعية، وكان التيار اليميني للاشتراكيين الثوريين ذا نفوذ سياسي كبير داخل اللجان الزراعية، وبطبيعة الحال كانت تدعم في البداية الحكومة البورجوازية المؤقتة، وقد برز هذا الموقف بجلاء، عندما رفضت أغلبية سوفياتات الفلاحين الموجودة آنذاك المشاركة في مؤتمر السوفياتات في أكتوبر 1917. لم تكن الجماهير الفلاحية تطرح مشكلة السلطة، وكان جوهر نشاطها يتمحور حول المصادرة المباشرة للأراضي وتقسيم الضيعات الكبرى للملاكين العقاريين وللدولة القيصرية وللكنيسة، لكن الحكومة التي دعموها في البداية لم تحقق مطالبهم، التي سيقوم المؤتمر الثاني لسوفياتات عموم روسيا بتحقيقها، وفي الواقع، وابتداءا من ماي 1917، بدأ الفلاحون يحققون مطالبهم الخاصة بالأرض عن طريق آلاف الانتفاضات، من أجل مصادرة أراضي الملاكين العقاريين الكبار وتوزيعها على الفلاحين. وهكذا ساهم الفلاحون في تهييء الشروط الموضوعية لثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى. وقام الحزب البلشفي بقيادة لينين بتغيير لبرنامجه، الذي جاء ذكره في "أطروحات نيسان" لصالح برنامج أكثر مرونة فيما يتعلق بمشكل الأرض، الذي تبناه المؤتمر الثاني لسوفياتات عموم روسيا، وقام الحزب كذلك بدعم الانتفاضات الفلاحية المتعددة، التي عرفتها روسيا آنذاك، فصان أسس التحالف العمالي – الفلاحي وهيأ الشروط لانتصار الثورة الاشتراكية.

ومن يونيو إلى شتنبر، انتشرت الشعارات البلشفية بسرعة بين الجماهير العمالية، بحيث أنه في نهاية شتنبر أصبح البلاشفة يشكلون أغلبية وسط الطبقة العاملة الروسية، وبالفعل منذ أحداث يوليوز وإلى حدود شتنبر أصبح البلاشفة يشكلون أغلبية داخل لجان المعامل والأحياء وفي سوفياتات المدن. لقد تحول الحزب إلى حزب جماهيري يحقق الانتصارات تلو الانتصارات في انتخابات السوفياتات والبلديات.

وإلى حدود نهاية شتنبر، كان سوفيات عامة روسيا لا يزال تحت قيادة منشفية واشتراكية ثورية، وإن كان الواقع قد تجاوزها، لقد أصبح البلاشفة أغلبية في سوفيات عموم روسيا، ونضجت الأزمة ،وتجمعت كل شروط الأزمة الثورية، فحان وقت الانتقال من شعار "كل السلطة للسوفيات" إلى سلطة السوفيات كواقع، ودقت ساعة الثورة لتنطلق انتفاضة أكتوبر الاشتراكية العظيمة تعبيرا عن الإرادة الصلبة للبروليتاريا الثورية الروسية، التي أخذت زمام المبادرة وضربت العدو على حين غرة، فاستولت على المواقع الاستراتيجية لمدينة سان بترسبورغ (البريد، التلغراف محطة القطار الميناء، مقر الدوما) وكذلك تم اقتحام قصر الشتاء السيء الذكر.

هكذا انتصرت الانتفاضة المسلحة للعمال والجنود وبحارة بتروغراد (عاصمة الدولة آنذاك) بقيادة الحزب البلشفي ،وسقطت بعد ذلك مدينة موسكو في قبضة الثوار في نفس اليوم، وتبعتها أغلب المدن الروسية، ومساء ذلك اليوم الأول اجتمع المؤتمر الثاني لسوفيات عامة روسيا، فاستلم السلطة باعتباره ممثلا للبروليتاريا والفلاحين والجنود الثوريين، ومن أولى قراراته إصدار مرسوم من أجل سلم عادل ومنصف، وتعيين مجلس مندوبي الشعب (الحكومة المؤقتة الثورية)، الذي ترأسه لينين، ومن أولى قرارات مجلس مندوبي الشعب (السوفارنوك ) إصدار مرسوم حول الأرض، الذي ألغى ملكية أراضي كبار الملاكين العقاريين، وقامت الحكومة الثورية المؤقتة من نونبر 1917 إلى أبريل 1918 ، تباعا، بإصدار مجموعة من القوانين والمراسيم والقرارات، استهدفت وضع الرقابة العمالية على الشركات والمؤسسات وتأميم الأبناك والأرض، وخلق تعاونيات للاستهلاك وحذف قسمات المساهمين في الشركات المجهولة الاسم، ثم كذلك حذف قروض الدولة وفرض احتكار الدولة للتجارة الخارجية.

بانتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى انتصرت دكتاتورية البروليتاريا في عموم روسيا، وانتقلت إلى القوميات والشعوب الأخرى التي شكلت الاتحاد السوفياتي، ودخل الاتحاد السوفياتي، الذي تأسس سنة 1922 في مرحلة جديدة عنوانها العريض : استمرار الصراعات الطبقية في ظل دكتاتورية البروليتاريا من أجل بناء الاشتراكية على طريق المجتمع الشيوعي.

هكذا، فجرت ثورة أكتوبر صراعات طبقية تحولت إلى حرب أهلية ضد ممثلي الطبقات الرجعية والثورة المضادة،المدعمة من طرف حصار اقتصادي وعسكري للامبريالية العالمية، وانطلق بناء الاشتراكية في ظل صراع مرير مع الكولاك (الفلاحون الأغنياء) وضد الملكية الصغيرة، التي تولد الرأسمالية تلقائيا، تجربة غير مسبوقة في بناء الاشتراكية، عرف خلالها الحزب الشيوعي البلشفي نفسه صراعات إيديولوجية وسياسية حول قضايا الفلاحين والسياسة الاقتصادية الجديدة (النيب) والتعامل مع الكولاك والموقف من النقابات، بل تعدتها إلى بعض الخلافات حول الخط العام الذي يجب أن تسير عليه الأممية الشيوعية الثالثة، التي أصبحت مركز قيادة الثورة العالمية، وإلى حدود 1953 بنيت الخطوط العريضة لمجتمع اشتراكي في ظل قيادة جوزيف ستالين للحزب الشيوعي البلشفي السوفياتي.

 

II- حول المغزى العالمي لثورة أكتوبر وأثرها على الحركة الثورية العالمية.

"ليست ثورة أكتوبر، كما يقول ستالين ثورة "في النطاق القومي" فحسب، بل هي قبل كل شيء ثورة ذات طابع عالمي، كوني، لأنها شكلت في التاريخ العالمي تحولا جدريا صنعته الإنسانية، من العالم القديم، الرأسمالي، نحو العالم الجديد، الاشتراكي.

كانت الثورات في السابق تنتهي عاد ة باستبدال مجموعة مستغلين بمجموعة مستغلين أخرى على رأس الدولة، يتبدل المستغلون ويبقى الاستغلال. كان الأمر على هذا النحو خلال حركات العبيد التحريرية، وكان الأمر على هذا النحو في فترة انتفاضات الأقنان، وكان الأمر على هذا النحو في فترة الثورات الكبرى التي عرفناها في انجلترا وفرنسا وألمانيا، ولا أتحدث في هذا السياق عن كومونة باريس التي كانت المحاولة الأولى، المشرفة والبطولية، ولكن غير المثمرة للبروليتاريا لكي تجعل التاريخ يسير ضد الرأسمالية".

وعن ميزة ثورة أكتوبر ولماذا تعتبر تحولا جدريا في تاريخ الإنسانية يضيف ستالين قائلا:

"تختلف ثورة أكتوبر عن هذه الثورات من حيث المبدأ، فهي لا تطرح استبدال شكل استغلال بشكل استغلال آخر، استبدال مجموعة مستغلين بمجموعة مستغلين أخرى، بل تطرح القضاء على كل استغلال للإنسان من جانب الإنسان، والقضاء على كل مجموعات المستغلين مهما كانوا، وإرساء دكتاتورية البروليتاريا، إرساء سلطة الطبقة الأكثر ثورية في جميع الطبقات المضطهدة، التي وجدت حتى اليوم وتنظيم مجتمع جديد، المجتمع الاشتراكي الخالي من الطبقات"

"لهذا السبب بالذات يعتبر انتصار ثورة أكتوبر تحولا جدريا في تاريخ الإنسانية، تحولا جدريا في المصير التاريخي للرأسمالية العالمية، تحولا جدريا في حركة تحرير البروليتاريا العالمية، تحولا جدريا في أساليب النضال وأشكال التنظيم، وفي طريقة العيش والعادات، وفي ثقافة وإيديولوجيا الجماهير المستغلة في العالم بأسره. هنا يكمن السبب في أن ثورة أكتوبر ثورة من طراز عالمي، كوني، هنا أيضا يكمن سبب التعاطف العميق إزاء ثورة أكتوبر الذي تبديه الطبقات المضطهدة في جميع البلدان التي ترى فيها الضمانة لخلاصها".

- أثر الثورة البلشفية على الحركة الثورية العالمية

باختراقها وتحطيمها لإحدى حلقات السلسلة الإمبريالية، وبإطاحتها بالبورجوازية الامبريالية، ومنحها السلطة للبروليتاريا الاشتراكية، كان للثورة البلشفية العظيمة أثر بارز وحاسم على الحركة الثورية العالمية.

1) قدمت المثال (أول ثورة تمنح للبروليتاريا والفلاحين السلطة)، فثورة أكتوبر فتحت عصرا جديدا، عصر الثورات البروليتارية في البلدان الامبريالية.

يقول ستالين :

"لقد انتزعت من كبار الملاكين العقاريين، ومن الرأسمالين أدوات الإنتاج ووسائله، وحولتها إلى ملكية اجتماعية ، وفضحت بذلك أكذوبة الرأسماليين الذين يزعمون أن الملكية البورجوازية لا يمكن الاستغناء عنها، وأنها مقدسة وخالدة".

"إن النظرية القديمة القائلة بأن المستغلين( فتح الغين) لا يمكنهم الاستغناء عن المستغلين( كسر الغين)، تماما مثل الرأس وبقية أعضاء الجسم، التي لا يمكنها الاستغناء عن المعدة، لا تعود فقط إلى السيناتور الروماني القديم منينيوس أغريبا، بل تشكل هذه "االنظرية"حاليا حجر الزاوية لعموم "الفلسفة" السياسية عند الاشتراكية الديموقراطية ولسياستها في التعاون مع البورجوازية الامبريالية بوجه خاص، هذه النظرية التي أصبحت من المسلمات، هي الآن أحد أهم العراقيل أمام نشر الروح الثورية في صفوف بروليتاريا البلدان الرأسمالية، وكان من نتائج ثورة أكتوبر توجيه ضربة قاتلة لهذه النظرية الزائفة".

2) قامت بضرب الرأسمالية، ليس فقط في مراكز هيمنتها، بل كذلك مؤخرتها وأطرافها.

- النموذج السوفياتي البلشفي للثورة:

الإطاحة بكبار الملاكين العقاريين والرأسمالية، تفكيك سلاسل الاضطهاد القومي والاستعمار، وتحرير جميع الشعوب المضطهدة دون استثناء، التي كانت تعيش ضمن الامبراطورية الروسية وذلك عبرتطبيق شعار ماركس : لا يمكن للبروليتاريا أن تتحرر دون أن تحرر الشعوب المضطهدة.

وقد تم إنجاز تلك الثورات الوطنية في إطار الاتحاد السوفياتي ضد الاستعمار، لا تحت راية العداء القومي والنزاعات بين الأمم، بل تحت راية ثقة متبادلة وتقارب أخوي لعمال وفلاحي الاتحاد السوفياتي، لا باسم القومية بل باسم الأممية.

إن ثورة أكتوبر1917 شكلت النموذج والمثل الأعلى للشعوب :

- فقد دشنت عصرا جديدا، عصر الثورات الوطنية التحررية في بلدان العالم المضطهدة، بالتحالف مع البروليتاريا، وتحت قيادتها ، ورفعت شعار الثورة العالمية:" ياعمال العالم ويا شعوبه المضطهدة اتحدوا"، ولم تتوقف عند ذلك حينما قامت:

"بزرعها بذرة الثورة في مراكز الامبريالية ومؤخرتها على حد سواء، وبإضعافها للقوة الامبريالية في الميتروبولات، وزعزعة هيمنتها في المستعمرات، هددت ثورة أكتوبر وجود مجمل الرأسمالية العالمية نفسه".

هكذا،خلقت مركزا قويا للثورة العالمية (الإتحاد السوفياتي أصبح قاعدة ثورية)، حيث كان يلتقي أبرز قادة حركات التحرر الوطني وقادة النضال العمالي الاشتراكي .وقام هذا المركز بدوره في دعم نضالات البروليتاريا العالمية وحركات التحرر الوطني ضد الإستعمار والإمبريالية، الذي اصبح يترنح تحت ضربات ثوار العالم، ويحاول الخروج من أزماته المستمرة، ينطبق عليه في ذلك مثال ستالين الشهير:" يخلص الذيل فينغمس المنقار، ويخلص المنقار فينغمس الذيل".

3) لم تكن ثورة أكتوبر، فحسب ، ثورة في ميدان العلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ، بل هي كذلك ثورة في الأفكار، ثورة في إيديولوجية الطبقة العاملة.

لقد نشأت تحت راية الماركسية ،وراية دكتاتورية البروليتالريا، أي تحت راية اللينينية، التي هي ماركسية عصر الامبريالية والثورات البروليتارية، والتي كان تشكلها علامة على انتصار الماركسية على الإصلاحية و الاشتراكية الديموقراطية التحريفية، وكذا،انتصارالأممية الثالثة على الأممية الثانية الصفراء.

يقول ستالين : "الممثل الوحيد للماركسية وقلعتها الوحيدة هي اللينينية، هي الشيوعية".

عن "طابع ثورة أكتوبر العالمي" (البرافدا، عدد 255، 6 و7 نونبر 1927)

 

III- الأسلحة النظرية للثورة:

-السياق العام لنشأة اللينينية:

بعد وفاة لينين سنة 1924، شكل الإرث النظري اللينيني رهان محاولات مختلفة للتعريف بطبيعته وجوهره، وذلك ضمن صراعات إيديولوجية وسياسية عرفتها صفوف الحزب الشيوعي السوفياتي، واستأثر موقف ستالين بالقسط الأكبر منها، باعتباره أحد قادة الحزب البلشفي البارزين، والذين واكبوا تجارب وخبرات الحزب في المجال النظري والفكري والسياسي والتنظيمي، وانتصر في الأخير تعريف ستالين لللينينية داخل الحزب ، كما في الأممية الثالثة، حيث تم العمل على بلشفة الأحزاب الشيوعية العالمية ،وتحديد شروط الانتماء إلى الأممية الثالثة على قاعدة ذلك ( 21 شرطا).

يقول ستالين في تعريفه لللينينية باعتبارها المرحلة الثانية في تطور النظرية الماركسية:

"إن اللينينية هي ماركسية عصر الامبريالية والثورة البروليتارية، وبالضبط، فاللينينية هي نظرية وتكتيك الثورة البروليتارية بشكل عام، ونظرية وتكتيك دكتاتورية البروليتاريا بشكل خاص".

فاللينينية، إذن، تشكلت في عصر الامبريالية (الرأسمالية "المحتضرة") حيث أصبحت الثورة البروليتارية في جدول الأعمال، أي أنها أصبحت مسألة نشاط عملي مباشر. لقد ساهم الطور الامبريالي من الرأسمالية إلى دفع تناقضات هذه الأخيرة إلى مداها الأقصى، وقد انعكس ذلك على مجموعة من التناقضات، وهي:

1- التناقض بين العمل والرأسمال:

إن هيمنة الرأسمال المالي وبروز الأوليغارشية المالية كشريحة طفيلية، قد دفعت بالصراعات الطبقية في التشكيلة الاجتماعية الرأسمالية إلى الاحتداد، وجعلت من أشكال النضال الكلاسيكية ( العمل البرلماني، العمل النقابي) وأشكال الحزب التي تطورت خلال مرحلة من التطور السلمي للرأسمالية متجاوزة، ووقفت الأحزاب الاشتراكية الديموقراطية للأممية الثانية، التي انحرفت عن خط الثورة عاجزة عن القبض على الفرصة التاريخية لتحقيق الاشتراكية، وحده حزب البلاشفة بقيادة لينين، استطاع أن يقدم الأجوبة الملائمة للمرحلة.

2 – تطور واحتداد التناقضات والصراعات البينية للامبريالية.

لقد شكل تقسيم وإعادة تقسيم العالم، بين مختلف الأمبرياليات ،مصدر اندلاع حرب امبريالية عالمية سنة 1914، وشكلت الحرب فرصة للاشتراكية الديموقراطية، لتحول حرب الضواري تلك إلى حروب أهلية ضد البورجوازيات الوطنية، والدفع بالبروليتاريا إلى الاستيلاء على السلطة ،وتحقيق دكتاتورية البروليتاريا، والتقدم نحو الاشتراكية، نظرا لنضج الظروف الموضوعية، إلا أن هذه الأحزاب، التي كانت تنخرها الإصلاحية والتحريفية والانتهازية تخلت عن مهامها التاريخية، وانتقلت إلى صفوف بورجوازياتها الوطنية، مدافعة عن الوطن البورجوازي وعن مصالح الامبريالية في بلدها.

وحده الحزب البلشفي بقيادة لينين، سار ضد التيار، ودافع باستماتة عن مبادئ الأممية الاشتراكية، ودعا إلى "الانهزامية الثورية" (أي تبني موقف الدعوة إلى انهزام البورجوازيات الوطنية، وتحويل الحرب إلى حروب أهلية داخلية ضد البورجوازيات الإمبريالية) ، والاستفادة من تناقضات الامبريالية من أجل التقدم نحو الاشتراكية، وتحقيق دكتاتورية البروليتاريا. وأمام انهيار هذه الأحزاب التحريفية وخيانتها للثورة، دعا لينين إلى تشكيل الأممية الثالثة كمركز للثورة العالمية، وقد تحقق ذلك سنة 1919.

3 – تطور واحتداد التناقض بين الامبريالية والشعوب والأمم المضطهدة .

لقد أدى تطور الرأسمالية وانتقالها إلى الطور الامبريالي، إلى تقسيم وإعادة تقسيم العالم إلى مراكز رأسمالية امبريالية، ومناطق أطراف تضم المستعمرات وأشباه المستعمرات، حيث يتم اضطهاد واستعباد شعوبها، واستغلال ثرواتها واستنزاف مواردها وإهانة كرامتها الوطنية والقومية واحتقار ثقافتها ولغتها. والجديد، أن العمل على استغلال هذه المناطق فرض على الرأسمالية إنشاء بعض المشاريع الصناعية (معامل وشركات) وصناعات استخراجية (المناجم)، مما أدى إلى نشوء طبقة عاملة في هذه البلدان، و ساهم ذلك في تهيئء شروط موضوعية وذاتية لتطور حركات التحرر الوطني فيها. ومرة أخرى كان الحزب البلشفي بقيادة لينين هو الأقدر على إعطاء جواب عن مهام التحرر الوطني وارتباطها بالثورة الاشتراكية في المراكز الرأسمالية، كما أن لينين وحده كان الأقدر على إعطاء جواب نظري حول المسألة الوطنية والقومية، واللينينية عموما زاخرة بالنصوص في هذا الموضوع.

- في مجال النظرية:

لقد أعطت اللينينية أهمية بالغة لمسألة النظرية، بما هي تعبير عن تجربة الحركة العمالية منظورا إليها بشكل عام، وقد احتل جانب العلاقة بين النظرية والممارسة حيزا هاما في فكر لينين، الذي كان يرى، على غرار ماركس وانجلز، أن النظرية يمكن أن تصبح قوة مادية ،إن هي استولت على ألباب الجماهير، بمعنى آخر، فالنظرية يمكن أن تتحول إلى قوة هائلة للحركة العمالية، إن هي تشكلت في ارتباط لا ينفك عراه مع الممارسة الثورية . يقول لينين:

"بدون نظرية ثورية لا حركة ثورية "، "وحده حزب يسترشد بنظرية الطليعة بإمكانه إنجاز دور الطليعة".

وبطبيعة الحال، تبلورت النظرية اللينينية في هذا المجال من خلال نقدها لنظرية العفوية، أي نظرية الانتهازية، التي يتم تقديسها والتي ترفض التوجه نحو النضال من أجل اجتثات جدور الرأسمالية، بما يعني أن الحركة العمالية تكتفي بالنضال بما يسمى بالمطالب الواقعية، المقبولة من طرف الرأسمالية، وهو ما يعرف ب "خط أقل مجهود"، وقد عمم برنشتاين زعيم التحريفية العالمية، وأحد آبائها المؤسسين،هذه الأطروحة في قولته الشهيرة "الحركة كل شيء والهدف لا شيء" أي للوصول إلى لا شيء.

يقول لينين عن هذه النظرية:

"إن نظرية العفوية هي نظرية تقليص دور العنصر الواعي في الحركة، فهي إيديولوجية الذيلية، القاعدة المنطقية لكل انتهازية.

إن لا حاجة للبرهنة على أن تحطيم هذا التزييف للنظرية هو الشرط الأولي لخلق أحزاب ثورية حقيقية في الغرب".

-اللينينية نظرية الثورة البروليتارية:

لقد رأينا، أن الراية اللينينية للثورة البروليتارية، قد اعتمدت على ثلات أطروحات أساسية:

- الأطروحة الأولى :تحليلها للامبريالية وتأكيدها على خصوصية سيطرة الرأسمال الإحتكاري المالي كشريحة رأسمالية في البلدان الرأسمالية المتقدمة (انظر كتاب "الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية").

- الأطروحة الثانية : تأكيدها على خاصية التصدير المتزايد للرساميل نحو البلدان المستعمرة والتابعة، وذلك ضمن الطور الامبريالي.

- الأطروحة الثالثة : انبثاق الصراع الحاد من أجل إعادة اقتسام العالم، بين تلك الدول الامبريالية التي سيطرت عليه، وتلك التي التحقت بها مطالبة بحقها في الكعكة كما هو الحال بالنسبة لألمانيا ، واكتشاف لينين لقانون التطور الغير المتكافئ للرأسمالية.

إن تحديد خصائص الطور الامبريالي للرأسمالية، بطريقة علمية ودقيقة، شكل أرضية خصبة بالنسبة لللينينية، في تحديدها لمميزات الثورة العالمية (الثورة الاشتراكية في البلدان الامبريالية، حركات التحرر الوطني في المستعمرات وشبه المستعمرات) ومهام الحركة الشيوعية العالمية.

- فيما يخص دكتاتورية البروليتاريا

لقد أعادت اللينينية لمفهوم دكتاتورية البروليتاريا، الذي تحدث عنه ماركس منذ 1852 (انظر رسالته إلى ويدماير سنة 1852)، قيمته التاريخية، بإدراك جيد لكل كتابات ماركس وانجلز في هذا المجال، وخاصة كتاباتهما حول كومونة باريس (انظر كتاب "الدولة والثورة"، لينين)، وقد قام لينين بمجهود جبار لفضح زعماء الاشتراكية الديموقراطية من امثال كاوتسكي وغيره، الذين قاموا بطمس وحجب هذا المفهوم عن البروليتاريا العالمية وعن أحزابها الثورية.

إن دكتاتورية البروليتاريا عند لينين هي أداة للثورة البروليتارية، وهي في نفس الوقت، دولة البروليتاريا، التي عبرها تمارس البروليتاريا سيطرتها السياسية على البورجوازية. وقد استوعب لينين جوهر كومونة باريس من حيث ضرورة وأهمية الحزب الثوري البروليتاري لتحقيق دكتاتورية البروليتاريا، وفي نفس الوقت استخلص لينين دروس الثورة الروسية لسنة 1905، التي أبدعت فيها البروليتاريا الروسية شكلا جديدا من أشكال سلطة البروليتاريا ودكتاتوريتها.

وقد ظهرت السوفياتات (المجالس ) الروسية لأول مرة في ثورة 1905، وأبانت عن قوتها وقدرتها، وذلك لتميزها بأربعة خصائص:

1 ـــ لكونها شكلت أوسع تنظيم لجماهير البروليتاريا.

2 ـــ لكونها تجمع في صفوفها كل المستغلين والمضطهدين (العمال، الفلاحون، الجنود، النساء ...).

3 ـــ باعتبارها الأجهزة الأكثر قوة للنضال الثوري.

4 ـــ باعتبارها تنظيما للجماهير لنفسها بنفسها الأكثر ديموقراطية، ومن تمة فهي قاعدة الديموقراطية البروليتارية.

- في المسألة الوطنية والقومية:

إن من بين المغازي العالمية العظيمة لثورة أكتوبر، كونها، كما يقول ستالين:

"وسعت إطار المسألة القومية، إذ حولتها من مسألة جزئية خاصة بالنضال ضد الاضطهاد القومي بأوربا، إلى مسألة عامة متعلقة ب :

1 ــــ تحرر الأمم المضطهدة والمستعمرات وشبه المستعمرات من نير الامبريالية.

2 ــــ أتاحت إمكانية عريضة، وشقت طرقا واقعية في تحقيق هذا التحرر، وهي بذلك دفعت كثيرا قضية تحرر الأمم المضطهدة في الغرب والشرق، واجتذبت هذه الأمم إلى التيار العارم للنضال الظافر ضد الامبريالية.

3 ــــ أنشأت بذلك جسرا بين الغرب الاشتراكي والشرق المستعبد، إذ خلقت جبهة جديدة من الثورات ضد الامبريالية العالمية، تمتد من البروليتاريا في الغرب، عبر الثورة الروسية، إلى الأمم المضطهدة في الشرق".

وفي مواجهة شوفينية الأحزاب الاشتراكية الديموقراطية التحريفية في الغرب، وجهت اللينينية ضربة قوية لتلك الأحزاب، بتأكيدها على أهمية التضامن الأممي البروليتاري، ويقول لينين- في مواجهة أولئك الذين أفرغوا شعار" المساواة القومية" و"المساواة بين الأمم" من مضمونه الحقيقي، دون القضاء على الامبريالية، حيث تضطهد أقلية من الأمم الأغلبية الساحقة من شعوب الأرض- :

"إن التربية الأممية لعمال الدول المضطهدة (كسر الهاء) يجب بالضرورة، ان تقوم، و بالدرجة الأولى، على الدعوة والدفاع عن مبدإ حرية الانفصال للبلدان المضطهدة (فتح الهاء)، بدون ذلك لا وجود للأممية، من حقنا وواجبنا وصف كل اشتراكي ديموقراطي من أمة مضطهدة (كسر الهاء) لا يقوم بهذه الدعاية، بالامبريالي و الوغد. إن هذا المطلب يجب أن يطرح بشكل مطلق، حتى ولوقدم لنا احتمال الانفصال ، وأصبح قابلا للتحقيق، قبل مجيئ الاشتراكية، بالواحد على الألف".

هكذا، حدد لينين، ضرورة أن تقوم البروليتاريا في الأمم المسيطرة بتقديم الدعم القوي والنشيط لحركة التحرر الوطني للشعوب المضطهدة (فتح الهاء) والتابعة. وقد قام لينين ، في نفس الوقت، بمحاربة الاتجاه نحو الانعزال في الإطار الوطني الضيق، وما يصاحبه من روح ضيقة و"خصوصياتية" لدى اشتراكيي البلدان المضطهدة (فتح الهاء)، الذين لا يفهمون الرابط الذي يجمع حركة التحرر في بلدانهم بالحركة البروليتارية في البلدان المسيطرة.

 

IV ــ لينين والماركسية – اللينينية

بعد انتصار ثورة اكتوبر الإشتراكية وتأسيس الأممية الشيوعية الثالثة، وبعد وفاة لينين سنة 1924،أصبح اسم ماركس مقرونا باسم لينين، وصارت اللينينية هي التطوير الخلاق للماركسية ، بل كما يقول جوزيف ستالين:

"الممثل الوحيد للماركسية وقلعتها الوحيدة هي اللينينية، هي الشيوعية".

ففي معمعان الصراعات الطبقية في روسيا القيصرية، ترعرع لينين، مطور الماركسية الثورية ،ومؤسس اللينينية "ماركسية العصر الإمبريالي والثورة البروليتارية".لينين الذي تشبع بالإرث الثوري للديموقراطيين الثوريين في روسيا القرن التاسع عشر،وما أنتج من ثوار وكتاب عظام ،استلهم منهم نموذج المناضل البلشفي المتشبع بمبادئ الماركسية والمرتبط بالطبقة العاملة.وأدرك لينين، مبكرا، جوانب الضعف في نظريات الحركة الشعبوية في روسيا، فوجه إليها ضربات حاسمة من خلال كتاباته الأولى( انظر كتابيه:" من هم أصدقاء الشعب وكيف يناضلون ضد الإشتراكية – الديموقراطية في روسيا" و" تطور الرأسمالية في روسيا"). وتقدم لينين على الجبهة الثانية ،جبهة بناء حزب ثوري من طراز جديد ، فأسس جريدة "الشرارة"، ودك أركان الإقتصادوية والعفوية وربيبتها المنشفية مسلحا البروليتاريا الروسية بنظرية ثورية حول التنظيم ،وببرنامج ثوري، ومؤسسا لإستراتيجية جديدة للثورة( استراتيجية الثورة المتواصلة عبر مراحل).

انخرط لينين كذلك، في معارك فلسفية واديلوجية وفكرية وسياسية ضد التحريفية العالمية ،وامتداداتها داخل الحزب الإشتراكي- الديموقراطي الروسي، وذلك على امتداد ربع قرن، دافع خلالها عن الماركسية وحطم أصنام الخطوط التحريفية بكل أشكالها اليمينية و"اليسارية"، وطور بذلك مبادئ المادية الجدلية والمادية التاريخية ،وقدم تحليلا علميا للرأسمالية في أعلى أشكالها ، ببنائه لنظرية متكاملة حول الإمبريالية ولانعكاساتها على الطبقة العاملة في المراكز الأمبريالية وفي بلدان المستعمرات وشبه المستعمرات.

إن لينين الذي عبر مسيرة ثلاث ثورات، لم يسبق لأحد من قبله أن عايشها،واختبر دروسها وتشابك مهامها ومراحلها، قد أجاب بفكر ثاقب وبصيرة تاريخية غير مسبوقة عن معضلات الثورة الديموقراطية البورجوازية والثورة الإشتراكية وقضايا التحرر الإجتماعي والوطني والقومي في عصر الإمبريالية والثورات البروليتارية. لقد وضع لينين أسس نظرية الثورة العالمية سواء في المراكز الأمبريالية أو في البلدان التابعة.لهذا كله ليست اللينينية مجرد ماركسية كباقي "الماركسيات"، إنها الماركسية الوحيدة وممثلها الوحيد، ولينين القائد الثائر ،الشيوعي، المنظم،الداعية،المحرض والمعلم البروليتاري الثاني بعد ماركس وانجلز،استحق أن يكون اسمه مقرونا باسم ماركس، ومن العبث الفصل بينهما، إنها الماركسية اللينينية نظرية الثورة العالمية في أزهى صورها.

 

علي محمود

19 – 10 - 2017