Ok

En poursuivant votre navigation sur ce site, vous acceptez l'utilisation de cookies. Ces derniers assurent le bon fonctionnement de nos services. En savoir plus.

حول قانون التناقض ــ الجزء الثاني ــ علي محمود

الجزء الثاني

 

II ـــ نظرية التناقض في فكر ماو تسي تونغ من خلال كراسة "في التناقض" 1

رغم أن المادية الجدلية تتميز بمجموعة من القوانين التي تحكم مسار تطور المادة والفكر، إلا أنه عندما يقوم البحث عن أهمها يقفز إلى الذهن مباشرة قانون وحدة الضدين الذي يقول عنه ماو تسي تونغ أنه القانون الأساسي الأول في الدياليكتيك المادي، ويعتمد ماو في ذلك على قولة لينين في" ملخص مبحث" "فلسفة مدرسة الإيليين" من "تاريخ الفلسفة" لهيجل، المدون في "الدفاتر الفلسفية"، لينين.

يقول لينين :"إن الديالكتيك، بمعناه الأصلي، هو دراسة التناقض في صميم جوهر الأشياء".

كما يقول في مقاله "في مسألة الديالكتيك" : "أن انقسام شيء واحد إلى شطرين و إدراك أجزائه المتناقضة هو جوهر الديالكتيك". و في "ملخص علم المنطق" لهيجل يقول كذلك :"يمكن تلخيص الديالكتيك وتعريفه بأنه نظرية وحدة الضدين، وبذلك نستطيع الإمساك بلب الديالكتيك، غير أن هذا يتطلب إيضاحا وتطويرا". و بالفعل قام ماو تسي تونغ بإنجاز البرنامج الذي يؤدي إلى تطوير نواة الديالكتيك من خلال دراسة الموضوعة الأساسية: الواحد ينشطر إلى اثنين. و إذا أخذنا بعين الاعتبار السياق التاريخي العام لظهور أفكار لينين و تطوير ما وتسي تونغ لها، فبالإمكان القول على أن هذا التطور الحاصل عند لينين و ماو، قد شكل التركيب الفلسفي للثورة الماركسية ــ اللينينية ضد التحريفية (لينين) و الدوغمائية (ماو). و لدراسة هذا القانون تطرق ماو إلى مجموعة من القضايا الفلسفية تسمح بفهم الديالكتيك المادي من حيث الأساس، وذلك من خلال منهجية ديالكتيكية فيما يخص العرض الذي اتبعه ماو بالانطلاق من العام إلى الخاص (من خلال النظرتان الرئيسيتان إلى العالم، عمومية التناقض ...) واعتماد مجموعة من المقولات تسمح بتحليل حركة تناقض ما (خصوصية التناقض، التناقض الرئيسي، والطرف الرئيسي للتناقض، الموقع العدائي والتناحري في التناقض ...)، هكذا يقوم ماو بتوظيف مبدأ وحدة الضدين ضمن مجموعة من الأطروحات الجدلية الأساسية وهي :

1 ـــ كل واقع هو بمثابة سيرورة.

2 ـــ كل سيرورة بالإمكان ردها في آخر التحليل إلى نظام من التناقضات.

3 ـــ ضمن كل سيرورة كنظام للتناقضات، هناك دائما تناقض يكون رئيسيا.

4 ـــ كل تناقض هو غير متساوق (متماثل) بما يعني أن أحد طرفي التناقض يكون مسيطرا داخل الحركة الشمولية للتناقض نفسه، ونعني هنا نظرية الطرف الرئيسي للتناقض.

5 ـــ هناك دائما تناقضات من نوع مختلف وحلها مرتبط بسيرورات مختلفة، ولابد هنا من التفريق بين التناقضات العدائية والتناقضات غير العدائية.

 

1 ـــ الأطروحة الأولى : في البدء هناك نظرتان للعالم

اعتمد ماو ملخص انجلز لتاريخ المعرفة البشرية القائل بوجود وجهتي نظر حول قوانين تطور العالم : وجهة نظر ميتافيزيقية ووجهة نظر ديالكتيكية، وهما نظرتان متضادتين إلى العالم، وهي نفس الفكرة التي أكدها لينين من خلال قوله : "إن وجهتي النظر الأساسيتين (أو الممكنتين ؟ أو المشاهدتين تاريخيا؟) عن التطور (الارتقاء) هما : التطور كنقصان وازدياد، كتكرار، والتطور كوحدة الضدين (انقسام الواحد إلى ضدين متعارضين تربط بينهما علاقة متبادلة) ، يعني لينين هنا هاتان النظرتان المختلفتان إلى العالم.

إن أسلوب التفكير الميتافيزيقي، باعتباره جزءا من النظرة المثالية إلى العالم ساد لقرون طويلة من التاريخ البشري لم يغب عنها وجود لنظرات ديالكتيكية في هاته الفلسفة او تلك، أو حتى في أجناس أخرى من الفكر الإنساني، لكن نشوء النظرة الديالكتيكية المادية الماركسية إلى العالم، لم يتحقق إلا مع دخول الاقتصاد الاجتماعي في العديد من أقطار أوروبا مرحلة الرأسمالية العالية التطور، وبلوغ القوى المنتجة والصراع الطبقي والعلوم مستوى لم يسبق له مثيل في التاريخ، لأن البروليتاريا الصناعية أصبحت القوة المحركة العظمى في التطور التاريخي. ومع هذا النشوء ظهر لدى البورجوازية مذهب التطور المبتذل المستند إلى مثالية رجعية صريحة وعارية الوجه تماما، وذلك لمقاومة الديالكتيك المادي. ويعرف ماو النظرة الميتافيزيقية أو نظرة التطور المبتذل إلى العالم، بأنها "النظر إلى العالم بصورة منعزلة جامدة وحيدة الجانب. إن دعاة هذه النظرة يعتبرون أن جميع الأشياء في العالم، جميع أشكالها وفصائلها منعزلة بعضها عن بعض إلى الأبد، وتابثة لا تتبدل بصورة أزلية، وأنه إذا كانت هناك تبدلات فإنها لا تعني سوى ازدياد أو نقصان في الكمية أو تغير في المكان، وإن علة هذا الازدياد أو النقصان وذلك التغير لا تقوم في باطن الأشياء نفسها، بل تقوم خارجها، أي بفعل قوى خارجية".

بمثل هكذا منظور "فالاستغلال الرأسمالي والمنافسة الرأسمالية والإديولوجية الفردية في المجتمع الرأسمالي، ...، يمكن أن نجدها في المجتمع العبودي في الزمن القديم، بل في المجتمع البدائي، ولن تبرح موجودة إلى الأبد دون أدنى تبديل".

وبنفس المنظور يفسرون أسباب التطور الاجتماعي بالعوامل الخارجة عن المجتمع، كالبيئة الجغرافية والمناخ ...وينكرون النظرية التي يقدمها الديالكتيك المادي القائلة بأن التناقضات الكامنة في باطن الأشياء هي التي تسبب تطورها.

وعلى النقيض من النظرة الميتافيزيقية إلى العالم، يعرف ماو النظرة الديالكتيكية إلى العالم بكونها "تدعو إلى دراسة تطور الشيء من باطنه، ومن حيث صلته بالأشياء الأخرى، وذلك بمعنى أنه ينبغي النظر إلى تطور الشيء على أنه حركته الباطنية والحتمية، وأن كل شيء يرتبط في حركته بالأشياء الأخرى التي تحيط به، ويتبادل معها التأثير، فالعلة الأساسية في تطور الشيء إنما تكمن في باطنه لاخارجه، في تناقضه الباطني، و هذا التناقض الباطني موجود في كل الأشياء وهو الذي يبعث فيها الحركة والتطور. إن هذا التناقض الكامن في الأشياء هو العلة الأساسية في تطورها، أما الصلة القائمة والتأثير المتبادل بين شيء وآخر فهي علة ثانوية. وهكذا فإن الديالكتيك المادي قد دحض بصورة قاطعة نظرية الأسباب الخارجية او نظرية القوة الدافعة، التي ينادي بها أنصار المادية الميكانيكية الميتافيزيقية ومذهب التطورالمبتذل الميتافيزيقي. ومن الواضح أن الأسباب الخارجية الصرفة لا يمكن أن تؤدي إلا إلى حركة ميكانيكية، أي إلى تغيرات في الحجم والكمية، لكنها لا تستطيع أن تفسر لماذا تختلف الأشياء نوعيا ذلك الاختلاف، الذي لا يمكن حصره، ولماذا يتحول الشيء من نوعية إلى أخرى.

والواقع أن الحركة الميكانيكية الناتجة عن القوى الخارجية تتحقق هي الأخرى بواسطة التناقض القائم في باطن الأشياء. وكذلك فإن النمو البسيط للنباتات والحيوانات وتطورها الكمي ناتجة بصورة رئيسية عن تناقضاتها الباطنية . وينطبق نفس الشيء على المجتمع، فإن تطوره مشروط، بصورة رئيسية، بالأسباب الباطنية لا الخارجية" .

يقول ماو: "من وجهة النظر الدياليكتيكية المادية، فإن التبدلات تنشأ في الطبيعة بصورة رئيسية عن تطور التناقضات الكامنة فيها . وتغيرات المجتمع ترجع في الأساس إلى تطور التناقضات الباطنية فيه، وهي التناقض بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، والتناقض بين الطبقات، والتناقض بين القديم والجديد،وتطور هذه التناقضات هو الذي يدفع المجتمع إلى الأمام، يدفع المجتمع الجديد لكي يقضي على المجتمع القديم. فهل يستبعد الديالكتيك المادي الأسباب الخارجية؟ كلا، فالديالكتيك المادي يعتبر أن الأسباب الخارجية هي عامل التبدل، والأسباب الباطنية هي أساس التبدل، وأن الأسباب الخارجية تفعل فعلها عن طريق الأسباب الباطنية ".

"إن هذه النظرة الديالكتيكية إلى العالم تعلم الإنسان بصورة رئيسية كيف يلاحظ ويحلل بصورة صحيحة حركة التناقض في مختلف الأشياء، وكيف يستنبط على أساس هذا التحليل حلولا للتناقضات . ولذلك فإن فهم قانون التناقض في الأشياء فهما محددا هو أمر بالغ الأهمية بالنسبة إلينا".

 

 2 ـــ الأطروحة الثانية : عمومية التناقض

يعرف ماو تسي تونغ هذه الأطروحة قائلا : "إن عمومية التناقض وصفته المطلقة ذات معنى مزدوج. فأولا توجد التناقضات في عملية تطور جميع الأشياء، وثانيا توجد حركة التناقض في عملية تطور كل شيء منذ البداية حتى النهاية" . ويعتمد ماو تسي تونغ مجموعة من المقتطفات لمؤسسي الفكر الماركسي – اللينيني، فانجلز يقول : " إن الحركة نفسها هي التناقض".

ويعرف لينين قانون وحدة الضدين بأنه "اعتراف (اكتشاف) بالاتجاهات المتناقضة المتعارضة المستقلة عن بعضها في جميع ظواهر الطبيعة (بما فيها الفكر والمجتمع) وعملياتها".

هل هذه الآراء صحيحة كما يقول ماو؟ "أجل، إنها صحيحة. إن الاعتماد المتبادل بين طرفي كل تناقض في كل شيء معين والصراع بينهما يقرران حياة ذلك الشيء ويدفعان تطوره إلى أمام. فليس ثمة شيء ليس به تناقض، ولولا التناقض لما وجد شيء".

ويتبث ماو صحة هذه الأقوال بالتأكيد على أن : "الاعتماد المتبادل بين كل طرفي تناقض في كل شيء معين، والصراع بينهما يقرران حياة ذلك الشيء ويدفعان تطوره إلى الأمام . فليس تمة شيء ليس به تناقض، ولولا التناقض لما وجد شيء".

لقد أوضح انجلز عمومية التناقض بالعبارات التالية : "إذا كان التغير الميكانيكي البسيط لشيء ما من مكان لآخر ينطوي على تناقض، فإن ذلك ينطبق بالأحرى على الأشكال الأعلى لحركة المادة، وبخاصة على الحياة العضوية وتطورها ... إن الحياة تعني بالتحديد وقبل كل شيء : إن الشيء الحي هوهو، في كل لحظة ذاته ولكنه في نفس الوقت شيء آخر أيضا. الحياة أيضا تناقض قائم في الأشياء والعمليات ذاتها، وهو ينشأ ويحل نفسه باستمرار، وحالما يتوقف هذا التناقض تتوقف الحياة أيضا ويحل الموت. ولقد رأينا كذلك أننا لا نستطيع في مجال التفكير أيضا أن نتجنب التناقضات. وأن التناقض مثلا بين قدرة الإنسان الكامنة فيه لا متناهية على المعرفة، وبين وجودها الفعلي في البشراللذين هم محددون خارجيا ويملكون معرفة محدودة، هذا التناقض يجد حله في تعاقب لا متناهي- بالنسبة إلينا على الأقل في الواقع – من الأجيال، في التقدم الذي لا نهاية له".

يقول انجلز في كتابه "ضد دوهرينغ" الباب الأول، المبحث 12 : "الديالكتيك : الكمية والنوعية"، "إن أحد المبادئ الأساسية للرياضيات العليا هو التناقض ..."

"لكن حتى الرياضيات الدنيا تمتلئ بالتناقضات ...".

أما لينين في مقالته الشهيرة : "في مسألة الديالكتيك" ، لقد أوضح عمومية التناقض عبر مجموعة من الأمثلة : "في الرياضيات : + و- ، التفاضل والتكامل، في الميكانيكا : الفعل ورد الفعل، في الفيزياء : الكهرباء: الموجبة والسالبة، في الكيمياء : اتحاد الذرات وتفككها، في العلوم الاجتماعية : الصراع الطبقي ".

ويضيف ماو أمثلة من العلم الحربي قائلا : "إن الهجوم والدفاع في الحرب، التقدم والانسحاب، النصر والهزيمة، كلها مظاهر متناقضة. ولا يمكن لأحد منها أن يبقى بدون نقيضه. وهذان الجانبان متصارعان ومتحدان في وقت واحد يؤلفان بذلك الوحدة الكلية للحرب، ويدفعان الحرب إلى التطور، ويحلان مشكلاتها، وينبغي النظر إلى كل اختلاف في مفاهيم الإنسان على أنه انعكاس لتناقض موضوعي. إن التناقضات الموضوعية تنعكس في التفكير الذاتي، وتشكل حركة التناقض في المفاهيم، وتدفع التفكير نحو التطور وتحل دون انقطاع المشاكل التي تقوم في فكر الإنسان.

إن تضاد الأفكار المختلفة والصراع بينها في صفوف الحزب ينشأ على الدوام، وهو انعكاس داخل الحزب بالتناقضات بين الطبقات والتناقضات بين القديم والجديد في المجتمع. ولا شك أن حياة الحزب ستتوقف إذا خلا من التناقضات ومن الصراع الإديولوجي من أجل حل هذه التناقضات.

وهكذا فقد اتضح أن التناقض يوجد بصورة شاملة سواء في الأشكال البسيطة للحركة أو في الأشكال المعقدة لها، في الظواهر الموضوعية أو في الظواهر الفكرية، وأنه يوجد في جميع العمليات".

يقول ماو : "إن التناقض شيء عام مطلق، موجود في جميع عمليات تطور الأشياء، ويتخلل جميع العمليات من البداية حتى النهاية" . ويرى ماو، أن لينين قد أشار إلى أن ماركس قد قدم في كتابه "رأس المال" تحليلا نموذجيا لحركة التناقض التي تجري خلال عملية تطور الأشياء من البداية حتى النهاية. وهذه هي الطريقة التي ينبغي أن تطبق في دراسة عملية تطور كل شيء. ولقد طبقها لينين نفسه بصورة صحيحة، والتزم بها في جميع كتاباته".

"إن أول ما حلله ماركس، في كتابه "رأس المال"، هو أبسط علاقة في المجتمع البورجوازي (السلعي)، علاقة اعتيادية أساسية مألوفة عادية أكثر من غيرها، علاقة تحدث مليارات المرات ألا وهي تبادل السلع. وفي هذه الظاهرة البسيطة جدا (في هذه "الخلية" للمجتمع البورجوازي)، كشف التحليل جميع تناقضات (أو بذور جميع تناقضات) المجتمع الحديث. وأن العرض اللاحق يبين لنا تطور (النمو والحركة على حد سواء) هذه التناقضات وهذا المجتمع في المجموع العام لأجزائه المختلفة، منذ بدايته حتى نهايته ".

ويستطرد لينين قائلا : "وهكذا ينبغي أن تكون طريقة العرض (والدراسة) للديالكتيك بصورة عامة".

ومن هذا يستخلص ماو أنه ينبغي على الشيوعيين الصينيين أن يتقنوا هذه الطريقة، وعندئذ فقط يستطيعون تحليل تاريخ الثورة الصينية وظروفها الراهنة تحليلا صحيحا وتحديد آفاقها في الوقت نفسه.

 

3 ـــ الأطروحة الثالثة : خاصية التناقض

بعد الحديث عن عمومية التناقض التي تؤكد على وجوده العام في عملية تطور جميع الأشياء من البداية للنهاية، يتطرق ماوتسي تونغ لخاصية التناقض مؤكدا أن "للتناقض في كل شكل من أشكال حركة المادة صفته الخاصة"، وأن "معرفة البشر للمادة هي معرفتهم بأشكال حركة المادة، لأنه ليس في العالم من شيء سوى المادة في حالة حركة، وحركة المادة لابد أن تتخذ شكلا من الأشكال المعينة، وينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار، عندما نتفحص كل شكل من أشكال حركة المادة، السمات التي يشترك فيها هذا الشكل مع الأشكال الأخرى للحركة . لكن ما له أهمية أعظم هو وجوب ملاحظة السمة الخاصة للشكل المعين من أشكال حركة المادة، وملاحظة هذه السمة الخاصة هي التي تشكل أساس معرفتنا بالأشياء، أي ملاحظة الاختلاف الجوهري الذي بينه وبين الأشكال الأخرى. وبهذا وحده نستطيع أن نميز بين الأشياء المختلفة. إن كل شكل من أشكال الحركة يحتوي في ذاته على تناقضه الخاص. وهذا التناقض الخاص يشكل الجوهر الخاص الذي يميز الشيء عن الأشياء الأخرى" .

"إن الجوهر الخاص الذي يحمله كل شكل من أشكال حركة المادة يتحدد بالتناقض الخاص الذي يتميز به ذلك الشكل. وينطبق هذا لا على الطبيعة وحدها، بل ينطبق كذلك على ظواهر المجتمع والتفكير. فإن كل شكل من أشكال المجتمع، وكل أسلوب من أساليب التفكير، له تناقضه الخاص وجوهره الخاص. وإن تصنيف الدراسات العلمية المختلفة يقوم بالضبط على أساس التناقضات الخاصة القائمة في كل فرع من فروع العلم".

ويتقدم ماوتسي تونغ بعرض هام من خلال ربط قانون التناقض بالنظرية المادية الجدلية للمعرفة، مقدما منهجا رائعا للدراسة والتحليل والتفكير الجدلي، فعند ماوتسي تونغ من الطبيعي أننا "إذا لم نعرف عمومية التناقض، لا نستطيع أن نكتشف الأسباب العامة أو الأسس العامة لحركة الأشياء وتطورها، ولكننا إذا لم ندرس خاصية التناقض فلن نستطيع أن نحدد الجوهر الخاص الذي يميز شيئا عن الأشياء الأخرى، ولن نستطيع أن نكتشف الأسباب الخاصة أو الأسس الخاصة لحركة الأشياء أو تطورها، ومن تم لن نستطيع أن نميز بين الأشياء أو نحدد حقول البحث العلمي".

ويشير ما وتسي تونغ إلى أن التسلسل في حركة المعرفة البشرية يسير عبر نمو تدريجي من معرفة أشياء مفردة وخاصة إلى معرفة أشياء عامة، ولا يستطيع الإنسان أن يتوصل إلى التلخيص وأن يعرف الجوهر المشترك بين الأشياء المختلفة إلا بعد إلمامه بالجوهر الخاص بكل شيء منها. وبعد الإلمام بهذا الجوهر المشترك، فإنه بالإمكان استعمال المعرفة تلك كدليل، فيتم الإقدام عندئد على دراسة أشياء محددة مختلفة لم تدرس بعد أو درست دراسة غير معمقة، فيتم استخراج الجوهر الخاص لكل منها، وبهذه الطريقة، نستطيع أن نكمل المعرفة بالجوهر المشترك ونغنيها ونطورها، وهكذا نحول دون أن تصبح هذه المعرفة جافة أو متحجرة، وعند ماو : "هناك عمليتان في المعرفة: إحداهما من الخاص إلى العام، والأخرى من العام إلى الخاص. وتتقدم المعرفة البشرية على الدوام بإعادة هاتين العمليتين بشكل دائري، ويمكنها مع كل دورة (إذا طبقت الطريقة العلمية بدقة) أن ترتفع لدرجة أعلى وأن تتعمق باستمرار" .

ويوجه ماو تسي تونغ نقده اللاذع للدوغمائيين قائلا : "أصحاب الجمود العقائدي بيننا يرتكبون أخطاءا في هذه المسألة لأنهم، من جهة، لا يفهمون أنه يجب علينا أن ندرس خاصية التناقض ونعرف الجوهر الخاص لكل شيء من الأشياء المفردة قبل أن نستطيع أن نعرف بصورة كاملة عمومية التناقض والجوهر المشترك للأشياء المختلفة، ولأنهم، من جهة ثانية، لا يفهمون أنه يجب علينا بعد الإلمام بالجوهر المشترك للأشياء أن نتقدم لدراسة تلك الأشياء المحددة التي لم تدرس بعد بصورة معمقة أو التي نشأت للمرة الأولى".

ويضيف ماو تسي تونغ بصدد هؤلاء الدوغمائيين قائلا : "إن أصحاب الجمود العقائدي بيننا قوم من الكسالى يرفضون القيام بأية دراسة شاقة للأشياء المحددة، ويعتبرون الحقائق العامة كشيء هبط من السماء فيجعلونها صيغا مجردة صرفة لا يمكن أن يدركها الناس، وبذلك ينكرون كل الإنكار ويقبلون في الوقت ذاته الترتيب الطبيعي الذي يتوصل الإنسان بواسطته إلى معرفة الحقيقة، وكذلك لا يفهمون الترابط القائم بين عمليتي المعرفة البشرية – من الخاص إلى العام ثم من العام إلى الخاص، إنهم لا يفهمون البتة النظرية الماركسية حول المعرفة".

وتتمثل أهمية طرح ماوتسي تونغ لخاصية التناقض في الكيفية التي يجب أن تعالج بها التناقضات المختلفة، يقول ماو تسي تونغ :

"إن التناقضات المختلفة من حيث طبيعتها لا يمكن أن تحل إلا بطرق مختلفة طبيعيا" ، وكذلك "فاستخدام الطرق المختلفة لحل التناقضات المختلفة هو مبدأ يجب على الماركسييين – اللينينيين أن يراعوه مراعاة دقيقة".

ويبرهن ماو على ذلك بمجموعة من الأمثلة حول التناقضات المختلفة كالتناقض بين البروليتاريا والبورجوازية، والتناقض بين جماهير الشعب الغفيرة والنظام الإقطاعي، والتناقض بين المستعمرات والامبريالية، والتناقض داخل الحزب الشيوعي ... فالأول يحل بالثورة الاشتراكية والثاني بالثورة الديموقراطية والثالث بالحرب الوطنية الثورية والرابع بالنقد والنقد الذاتي .

ويعود ماو إلى نقد الدوغمائيين على هذا المستوى قائلا : "أما أصحاب الجمود العقائدي فلا يراعون هذا المبدأ، إذ أنهم لا يفهمون الفوارق بين الحالات الثورية المختلفة، وبنتيجة ذلك لا يفهمون أنه ينبغي اللجوء إلى طرق مختلفة في سبيل حل التناقضات المختلفة، بل يعتنقون بانتظام صيغة واحدة يتخيلون أنها غير قابلة للتبدل ويطبقونها بصورة آلية على كل شيء، الأمر الذي لا يؤدي سوى إلى جلب النكسات على الثورة أو إلى إفساد قضية كانت تسير على ما يرام حتى ذلك الحين".

وللتقدم في دراسة خاصية التناقض يضيف ماوتسي تونغ قائلا : "لكي نكشف اللثام عن خاصية التناقضات في مجموعها وفي ترابطها معا داخل عملية تطور الشي، أي أن نكشف اللثام عن جوهر عملية تطور الشيء، ينبغي لنا أن نكشف اللثام عن خاصية طرفي كل تناقض من التناقضات في هذه العملية، وإلا أصبح من المستحيل الكشف عن جوهر العملية، وهذه قضية يجب علينا أن نعيرها أيضا كل انتباه في دراستنا".

وبعد التأكيد على أهمية الكشف عن خاصية طرفي التناقض لفهم خاصية التناقضات، فلكل من هذه التناقضات خاصيته بحيث لا يمكن وضعها جميعا على صعيد واحد، يضيف ماو أن "لكل طرف من طرفي كل تناقض خصائصه بحيث لا يمكن أيضا أن يعامل معاملة واحدة".

وحول دراسة طرفي التناقض وما يعنى بذلك يقول ماو : "نقصد بدراسة طرفي كل تناقض فهم المركز الخاص الذي يحتله كل طرف، والشكل المحدد الذي به يعتمد كل طرف على الآخر في البقاء ويتناقض معه في آن واحد، والوسائل المحددة التي يناضل بها ضد نقيضه عندما يكون كل منهما معتمدا على الآخر، ويكون متناقضا معه في الوقت ذاته، أو عندما ينفصل هذا الاعتماد المتبادل. إن دراسة هذه المسائل أمر في غاية الأهمية".

و في التعبير عن هذا المعنى يقول لينين، إن التحليل الملموس للواقع الملموس هو الشيء الجوهري الأول في الماركسية، وهو روحها الحية. ويعود ماو تسي تونغ ليصب نقده على الدوغمائيين قائلا : "لكن أصحاب الجمود العقائدي بيننا خلافا لتعاليم لينين، لا يستعملون أدمغتهم البتة في سبيل تحليل أي شيء بصورة محددة، بل يستخدمون دائما أسلوب القوالب الجامدة في كتاباتهم وخطاباتهم ويخرجونها عقيمة جوفاء خالية من كل مضمون، وهم بذلك خلقوا في حزبنا أسلوبا سيئا جدا في العمل".

ويوصي ماو تسي تونغ الرفاق عند دراستهم لقضية ما بالابتعاد عن النظرة الذاتية، والنظرة الوحيدة الجانب والنظرة السطحية. فالنظرة الذاتية هي العجز عن دراسة القضايا دراسة موضوعية، أي وفق وجهة النظر المادية. أما النظرة الواحدة الجانب فهي العجز عن دراسة القضايا من جميع جوانبها أي فهم الجزء وحده من دون الكل وفهم النقائص وحدها من دون المنجزات وفهم العمل الثوري السري وحده من دون العمل الثوري العلني. وعموما عدم فهم خاصية كل طرف من طرفي تناقض ما، وهذا ما يعنى به النظرة الوحيدة الجانب، أي رؤية الجزء دون الكل ، كرؤية الشجرة دون الغابة. ويقول ماو :

"إذا فعلنا ذلك فلن نستطيع الاهتداء إلى طرق حل التناقضات، ولا إنجاز مهمات الثورة، ولا أداء الواجبات بصورة مرضية، ولا تطوير الصراع الإيديولوجي في داخل الحزب بصورة صحيحة".

و يعتمد ماو على قولة شهيرة لسون تسي حول العلوم العسكرية : "إذا كنت على بينة من أمر عدوك وأمر نفسك فلن تنهزم في أي معركة تخوضها".

ويقول لينين : "لكي نعرف موضوعا ما معرفة حقيقية، علينا أن نلم وندرس جميع جوانبه وروابطه و"وسائطه"، وبالرغم من أننا لن نتمكن من تحقيق ذلك بصورة تامة، إلا أن حرصنا على دراسة القضايا من جميع جوانبها سيقينا شر الأخطاء والجمود" . ويضيف ماو : "إن من واجبنا أن نتذكر هذه الكلمات".

أما النظرة السطحية فهي ألا يأخذ المرء بعين الاعتبار خاصية تناقض ما في مجموعه ولا خاصية كل طرف من طرفي التناقض، ويعني هذا أن لدى المرء إنكارلضرورة التعمق في شيء ودراسة خاصية التناقض القائم فيه بدقة، وبدل ذلك يكون الاكتفاء بالنظر إليه من بعيد بعد أن يلمح التناقض لمحة خاطفة، وتتم محاولة حل هذا التناقض.

ويعود ماو مرة أخرى إلى نقد الدوغمائيين فيقول : "أن السبب في أن رفاقنا المصابين بالجمود العقائدي والتجريبية يرتكبون الأخطاء يعود إلى أنهم ينظرون إلى الأشياء بطريقة ذاتية ووحيدة الجانب وسطحية. والنظرة الوحيدة الجانب، والنظرة السطحية هما في نفس الوقت نظرة ذاتية، ذلك لأن جميع الأشياء الموضوعية هي في الحقيقة مرتبطة بعضها ببعض، ولها قوانينها الباطنية، إلا أن بعض الناس، بدلا من أن يعكسوا الأشياء كما هي ينظرون إليها نظرة وحيدة الجانب أو نظرة سطحية، دون أن يدركوا علاقاتها المتبادلة ولا قوانينها الباطنية، ولهذا فإن أسلوبهم أسلوب ذاتي".

وبعد معالجة إشكالية طرفي التناقض في إطار معالجة خاصية التناقض، ينتقل ماو إلى ملامسة إشكالية أخرى، ملامسة أولية، ونعني هنا قضية التناقض الأساسي.

يقول ماو تسي تونغ : "إن كل عملية حركة التناقضات في تطور شيء ما لها خصائصها التي يجب أن ناخذها بعين الاعتبار، سواء من حيث ترابط التناقضات أو من حيث حال كل طرف من أطرافها، وليس هذا فقط، بل إن لكل مرحلة من مراحل عملية تطور الشيء أيضا خصائصها التي يجب أن نأخذها بعين الاعتبار.

فإن التناقض الأساسي في عملية تطور شيء ما، وجوهر العملية الذي يحدده هذا التناقض الأساسي لن يتلاشيا قبل اكتمال العملية، لكن الوضع في كل مرحلة من عملية التطور الطويلة للشيء كثيرا ما يختلف عن وضع مرحلة أخرى. والسبب في ذلك أنه على الرغم من أن طبيعة التناقض الأساسي في عملية تطور شيء ما وجوهر العملية لا يتغيران، إلا أن التناقض الأساسي يتزايد حدة في المراحل المختلفة من عملية التطور الطويلة. وفضلا عن ذلك فإن بعضا من التناقضات العديدة، الكبيرة منها والصغيرة، التي يحددها التناقض الأساسي أو يؤثر فيها يصبح متزايد الحدة، والبعض الآخر يحل مؤقتا أو جزئيا أو تخف حدته، وإن تناقضات جديدة تنبثق، وبنتيجة ذلك تظهر في العملية مراحل مختلفة. فإذا لم يعر الناس انتباها لوجود مراحل مختلفة في عملية تطور شيء ما فإنهم لن يستطيعوا معالجة تناقضاته كما يجب".

ويقدم ماو تسي تونغ بعض الأمثلة عن ذلك، من قبيل المقارنة بين رأسمالية عصر المنافسة الحرة ورأسمالية عصر الامبريالية، من حيث استمرارية الطبيعة الرأسمالية لهذا المجتمع وطبيعة الطبقتين المتناقضتين داخله : البروليتاريا والبورجوازية، لكن وفي نفس الوقت ازداد التناقض بينهما في المرحلة الثانية، وظهرت تناقضات جديدة من قبيل التناقض بين الرأسمال الاحتكاري والرأسمال الحر والتناقض بين الدول الاستعمارية والمستعمرات ... ويتكلم ماو كذلك عن مسار الثورة الديموقراطية البورجوازية في الصين منذ بدايتها سنة 1911 مسطرا المراحل التي مرت منها وخاصة مرحلة قيادة البورجوازية لها ومرحلة قيادة البروليتاريا لها.

ويخلص ماو في نهاية هذا الجزء إلى ما يلي قائلا : "إن العلاقة بين عمومية التناقض وخاصيته هي العلاقة بين الصفة المشتركة والصفة الفردية للتناقض. وأننا نعني بالصفة المشتركة أن التناقض يوجد في جميع العمليات يسري فيها من البداية حتى النهاية، والحركة، والأشياء والعمليات، والتفكير – كلها تناقضات – وإن نكران التناقض في الأشياء هو نكران كل شيء. هذا مبدأ عام ينطبق على جميع الأزمان وجميع الأماكن بدون استثناء، ومن هنا جاءت الصفة المشتركة أي الصفة المطلقة للتناقض. لكن هذه الصفة المشتركة كائنة في كل صفة فردية، وبدون صفة فردية لا توجد صفة مشتركة" .

"هذا المبدأ مبدأ الصفة المشتركة والصفة الفردية، والمطلق والنسبي، هو جوهر التناقض في الأشياء، وأن عدم فهمه معناه نبذ الدياليكتيك"

 

4 ـــ الأطروحة الرابعة :التناقض الرئيسي و الطرف الرئيسي للتناقض

ينتقل ماو هنا إلى دراسة جانبين آخرين من جوانب خاصية التناقض وهما : التناقض الرئيسي والطرف الرئيسي للتناقض.

ضمن كل سيرورة أو عملية تطور معقدة لشيء ما توجد، يقول ماوتسي تونغ: "في كل عملية تطور معقدة لشيء ما تناقضات عديدة، ولابد أن يكون أحدها هو التناقض الرئيسي الذي يقرر وجوده وتطوره، وجود وتطور التناقضات الأخرى، أو يؤثر في وجودها وتطورها".

ويسوق ماو تسي تونغ العديد من الأمثلة في المجتمع الرأسمالي وفي البلدان شبه المستعمرة، حيث تظهر العلاقة بين التناقض الرئيسي والتناقضات غير الرئيسية أو الثانوية. ويؤكد ماو كذلك على الكيفية التي يتم فيها تبادل التأثير بين التناقض الرئيسي والتناقضات الثانوية، وكيفية الانتقال من الأول إلى الثاني والعكس صحيح. "ولكن( يقول ماو) مهما يكن الحال، فمما لا يتطرق إليه أدنى شك أن تمة تناقضا رئيسيا واحدا فقط يلعب الدور القيادي في كل مرحلة من عملية التطور".

والخلاصة كما يقول ماو: "ونعلم مما تقدم أنه إذا كانت في أية عملية من العمليات تناقضات كثيرة فلابد أن يكون بينها تناقض رئيسي يلعب الدور القيادي الحاسم، أما بقية التناقضات فإنها تحتل مركزا ثانويا تابعا. ولذلك ينبغي لنا في دراسة أية عملية معقدة يوجد فيها تناقضان أو أكثر أن نبذل قصارى جهودنا كي نكتشف التناقض الرئيسي فيها. فإذا أمسكنا بزمام هذا التناقض الرئيسي، استطعنا حل سائر التناقضات بسرعة. وهذه هي الطريقة التي علمنا ماركس إياها عندما درس المجتمع الرأسمالي".

بناءا عليه لا يجوز التعامل مع جميع التناقضات الموجودة في عملية ما على قدم المساواة، بل لابد ومن الضروري التمييز بين التناقض الرئيسي والتناقضات الثانوية، مع تولية انتباه خاص للإمساك بزمام التناقض الرئيسي. والكلام نفسه ينطبق على الطرفين المتناقضين سواء كان تناقضا رئيسيا أم ثانويا، فكل طرف من الطرفين المتناقضين، في أي تناقض كان، متفاوت عن تطور الطرف الآخر، والطرف الرئيسي هو الذي يلعب الدور القيادي في التناقض، وهو الذي يقرر في طبيعة الشيء. لكن هذا الوضع غير ثابت إلى ما لا نهاية، يقول ماو :

" لكن هذا الوضع ليس ثابتا، إذ أن الطرف الرئيسي وغير الرئيسي لطرف ما يتحول أحدهما إلى الآخر ، فتتبدل طبيعة الشيء تبعا لذلك. إننا نجد، في عملية معينة لتطور تناقض ما أو في مرحلة معينة من مراحل التطور أن الطرف الرئيسي هو "أ" وأن الطرف غيرالرئيسي هو "ب"، ولكن في مرحلة أخرى من التطور أو في عملية أخرى منه تنعكس الحالة، وهذا تبدل يقرره مدى ازدياد أو نقصان قوة كل من الطرفين المتناقضين في صراعه مع الطرف الآخر في مجرى تطور الشيء".

وهناك من ينظر إلى العلاقة بين طرفي التناقض نظرة ميكانيكية يغيب عنها الجدل وتؤدي إلى أخطاء عويصة، ومثل هذه النظرة انتقدها ماو بقوله:

" و يظن بعض الناس أن الأمر على خلاف ذلك في بعض التناقضات. مثال ذلك أن القوى المنتجة هي الطرف الرئيسي في التناقض بينها وبين علاقة الإنتاج، وأن الممارسة العملية هي الطرف الرئيسي في التناقض بن النظرية وبينها، وأن القاعدة الاقتصادية هي الطرف الرئيسي في التناقض بينها وبين البناء الفوقي، ولا يحدث تحول متبادل في مركز أي طرف منها. هذه هي نظرية المادية الميكانيكية، لا نظرية المادية الدياليكتيكية، صحيح أن القوى المنتجة، والممارسة العملية والقاعدة الاقتصادية، تلعب عادة الدور الرئيسي الحاسم، ومن ينكر هذه الحقيقة لا يكون ماديا. لكن يجب أن نعترف كذلك ان علاقات الإنتاج والنظرية والبناء الفوقي تلعب بدورها، في ظل ظروف معينة الدور الرئيسي الحاسم. فعندما يتعذر تطور القوى المنتجة بدون تبديل علاقات الإنتاج، فإن تبديل علاقات الإنتاج يلعب الدور الرئيسي الحاسم. و"حين لا توجد نظرية ثورية لا يمكن ان تكون هناك حركة ثورية" كما قال لينين، فإن خلق النظرية الثورية والدعاية لها يلعب الدور الرئيسي الحاسم ".

وفي نهاية هذا الجزء يكثف ماو الأفكار الواردة كلها في فقرة جد مركزة تقول :

"إذا لم نبحث أثناء دراستنا لقضية خاصية التناقض، مسألة التناقض الرئيسي والتناقضات غير الرئيسية في عملية معينة، ومسألة الطرف الرئيسي والطرف غير الرئيسي لتناقض معين، يعني إذا لم ندرس الفارق المتمثل في كلا هذين الوضعين من أوضاع التناقضات، فإننا سنتورط في دراسات مجردة ونعجز عن فهم أوضاع التناقضات بصورة محددة، ونعجز بنتيجة ذلك عن إيجاد الطريقة الصحيحة لحلها. وان هذا الفارق أو هذه الخاصية المتمثلة في كلا الوضعين، تمثل التفاوت بين القوتين المتناقضتين. فلا شيء في العالم يجري في تطورات متساوية بصورة مطلقة، وينبغي لنا أن نعارض نظرية التطور المتساوي أو نظرية التوازن. وفي الوقت ذاته، فإن هذه الأوضاع المحددة الخاصة بالتناقض، والتبدل الذي يطرأ على الطرف الرئيسي والطرف غير الرئيسي للتناقض في مجرى تطوره، تظهر بالضبط قوة الأشياء الجديدة في إزاحة الأشياء القديمة والحلول محلها.

 

إن دراسة أوضاع التفاوت في التناقضات ، دراسة التناقض الرئيسي والتناقضات غير الرئيسية والطرف الرئيسي وغير الرئيسي للتناقض، هي إحدى الطرق المهمة التي يقرر بها حزب سياسي ثوري، بصورة مضبوطة، خططه الاستراتيجية والتكتيكية في الشؤون السياسية والعسكرية، وهي دراسة من واجب جميع الشيوعيين أن يولوها الاهتمام" .

 

5 ـــ الأطروحة الخامسة : الوحدة والصراع بين طرفي التناقض

يقول لينين : "إن الديالكتيك هو النظرية التي تدرس كيف يمكن لضدين كيف يمكن أن يكونا متحدين، وكيف يصيران متحدين (يتبادلان فيصيران متحدين)- في أية ظروف يكونان متحدين، ويتحول أحدهما إلى نقيضه – ولماذا ينبغي للفكر الإنساني ألا ينظر إلى هذين الضدين كشيئين ميتين جامدين، بل كشيئين حيين مشروطين قابلين للتبدل ولتحول أحدهما إلى نقيضه".

يوضح ماو معنى هذا القول اللينيني قائلا : "إن الطرفين المتناقضين في أية عملية هما متعارضان ومتصارعان ومتضادان فيما بينهما. ويوجد هذان الطرفان المتناقضان دون استثناء في عمليات تطور جميع الأشياء في العالم وفي الفكر البشري. فالعملية البسيطة تحوي زوجا واحدا من الأضداد فقط، بينما تحوي العملية المعقدة أكثر من زوج واحد منها. وبين كل زوج وآخر من الأضداد يقوم أيضا تناقض ما. وعلى هذا النحو تشكل التناقضات كافة الأشياء في العالم الموضوعي والفكر البشري وتدفعها إلى الحركة".

إذا كان الأمر كذلك يقول ماو، فلما الحديث عن الوحدة أو الاتحاد ؟

الجواب : "إن كل طرفين متناقضين هما بسبب عوامل معينة، متسمان بعدم الوحدة بينهما، لذلك نقول أنهما متناقضان. ولكنهما في الوقت ذاته متسمان بسمة الوحدة، فهما لذلك مترابطان. هذا ما يشير إليه لينين بقوله أن الدياليكتيك يدرس "كيف يمكن لضدين أن يكونا متحدين؟"، يمكن ذلك لأن كلا منهما يشكل شرط وجود الآخر. هذا هو المعنى الأول للوحدة. لكن هل يكفي أن نقول فقط أن كل طرف من طرفي التناقض يشكل شرطا لوجود الطرف الآخر، وأن تمة وحدة بينهما، ولذلك يمكنهما أن يتواجدا في كيان واحد؟ كلا، لا يكفي ذلك. فالأمر لا ينتهي عند حد الاعتماد المتبادل في البقاء بين الطرفين المتناقضين، وإنما الأهم من ذلك هو تحول أحدهما إلى نقيضه. وهذا يعني أن كلا من الطرفين المتناقضين في شيء ينزع بسبب عوامل معينة، إلى التحول إلى الطرف المناقض له، وأن ينتقل إلى مركز نقيضه. هذا هو المعنى الثاني لوحدة طرفي التناقض".

ويقدم ماو العديد من الأمثلة حول هذا الطرح، ويهمنا هنا المثال التالي نظرا لأهميته بالنسبة لتجارب البناء الاشتراكي، وما تطرحه من تحديات بالنسبة للشيوعيين المعاصرين، يقول ماو :

"إن توطيد دكتاتورية البروليتاريا أو ديكتاتورية الشعب، يعني بالضبط تهيئة الظروف لتصفية هذا الدكتاتورية والتقدم إلى مرحلة أعلى، مرحلة يتم فيها القضاء على جميع أنظمة الدولة. وأن تأسيس الحزب الشيوعي وتطويره يعني بالضبط تهيئة الظروف للقضاء على الحزب إلى الأبد . إن هذه الأشياء متناقضة لكنها يكمل بعضها بعضا في الوقت ذاته" .

"إن كل متناقضين مترابطان، فهما يتواجدان في كيان واحد في ظل عوامل معينة، بل يتحول أحدهما إلى الآخر في ظل عوامل معينة، هذا هو كامل معنى وحدة الضدين. وهو بالضبط ما عناه لينين عندما قال : "كيف يصيران متحدين (يتبدلان فيصيران متحدين) في أية ظروف يكونان متحدين ويتحول أحدهما إلى نقيضه".

"إن وحدة أو اتحاد طرفي كل تناقض في الأشياء الموضوعية هي بطبيعتها ليست بالشيء الميت، الجامد، بل هي شيء حي، مشروط ، قابل للتبدل، مؤقت، نسبي، فكل طرف من طرفي أي تناقض يتحول بفعل عوامل معينة إلى نقيضه. وبانعكاس هذه الحقيقة في الفكر الإنساني تتكون النظرة الدياليكتيكية المادية الماركسية إلى العالم.

إن الطبقات الرجعية التي تحكم اليوم، والتي حكمت في الماضي على حد سواء، والميتافيزيقا التي في خدمتها، هي وحدها التي لا تنظر إلى الأضداد كأشياء حية مشروطة، قابلة للتبدل يتحول بعضها إلى نقيضه، بل تنظر إليها كأشياء ميتة جامدة، وتنشر هذه النظرة المغلوطة في كل مكان فتضلل جماهير الشعب لتحقيق هدفها للإبقاء على حكمها. وأن واجب الشيوعيين بالضبط هو فضح فكرة الرجعية والميتافيزيقا المغلوطة هاته، ونشر الدياليكتيك الكامنة في الأشياء، والعمل على التعجيل بتحويل الأشياء حتى يحققوا أهداف الثورة" .

عموما تلك هي قضية الوحدة، فما هو الصراع إذن ؟ وما هي العلاقة بين الوحدة والصراع ؟

لقد قال لينين : "إن اتحاد (تطابق، وحدة، تواحد) الضدين مشروط ، مؤقت، عارض، نسبي. أما صراع الضدين المتعارضين فهو مطلق، تماما كما أن التطور والحركة مطلقان".

في تعليقه على قولة لينين يقول ماو : "إن لجميع العمليات بداية ونهاية، وكل عملية تتحول إلى نقيضها. إن ثبات جميع العمليات نسبي، أما تغيرها الذي يظهر في تحول عملية إلى عملية أخرى فهو مطلق.

إن كل شيء يتخذ في حركته شكلين : شكل السكون النسبي، وشكل التبدل الملحوظ . وإن كلا شكلي الحركة مسبب عن صراع العاملين المتناقضين اللذين ينطوي عليهما الشيء. فعندما يتخذ الشيء في حركته الشكل الأول، فإنه يطرأ عليه تبدل كمي، لا تبدل نوعي، لذلك يبدو في حالة من السكون الظاهري. وعندما يتخذ الشيء في حركته الشكل الثاني، فإنه يكون قد بلغ نقطة معينة هي قمة التبدل الكمي الذي حصل في الشكل الأول، فيتسبب عن ذلك تفكك الكيان الواحد، ويحدث تبدل نوعي، لذلك يبدو الشيء في حالة من التبدل الملحوظ".

"إن الأشياء تتحول على الدوام من الشكل الأول إلى الشكل الثاني بلا انقطاع، بينما صراع الضدين موجود في كلا الشكلين ويتم حل التناقضات بواسطة الشكل الثاني. لذلك نقول إن اتحاد الضدين مشروط ومؤقت ونسبي، بينما الصراع بين ضدين متعارضين هو مطلق".

يقول ماو : "إن الوحدة المشروطة النسبية تشكل مع الصراع المطلق غير المشروط حركة التناقض في جميع الأشياء" . ويضيف في جملة أخرى قائلا :

"إن في الوحدة صراعا، وفي الخاصية عمومية، وفي الصفة الفردية صفة مشتركة، هذا ما يقصده لينين حين قال : "فتمة مطلق في النسبي" ".

 

6 ـــ الأطروحة السادسة : مركز التعادي في التناقض  أو التناقض العدائي وغير العدائي

يحاول ماو في هذا الجزء توضيح علاقة الصراع بين الضدين بمسألة التعادي بينهما، انطلاقا من أن التعادي شكل من أشكال صراع الضدين لكنه ليس الشكل الوحيد، ويوضح ماو فكرته بمثال التاريخ البشري، فيقول :

"في التاريخ البشري يوجد التعادي الطبقي، وهو مظهر خاص من مظاهر صراع الضدين. إن التناقض قائم بين الطبقة المستغلة والطبقة المستغلة، سواء في المجتمع العبودي أو في المجتمع الإقطاعي أو في المجتمع الرأسمالي، وهاتان الطبقتان المتناقضتان تتعايشان وتتصارعان زمنا طويلا في مجتمع واحد، لكن الجانبين لا يتخذان شكل التعادي الصريح الذي يتطور إلى ثورة إلا بعد أن ينمو التناقض بين الطبقتين ويبلغ مرحلة معينة. ومثل ذلك تحول السلم إلى حرب في المجتمع الطبقي".

إن الموضوعة أعلاه لذات أهمية قصوى بالنسبة للماركسيين اللينينيين، ذلك كما يقول ماو ف "إنه لأمر فائق الأهمية أن ندرك هذا. فهو يساعدنا على أن نفهم أن الثورات والحروب الأهلية لا يمكن تجنبها في المجتمع الطبقي، وبدونها يستحيل تحقيق أي قفزة في التطور الاجتماعي، والإطاحة بالطبقات الحاكمة الرجعية، ليظفر الشعب بالسلطة السياسية. وينبغي للشيوعيين أن يفضحوا الدعايات المضللة التي ينشرها الرجعيون عن عدم ضرورة الثورة الاجتماعية واستحالتها وغير ذلك، وأن يتمسكوا بالنظرية الماركسية اللينينية عن الثورة الاجتماعية بحيث يساعدون الشعب على أن يفهم أن الثورة الاجتماعية ليست ضرورية كل الضرورة فحسب، بل هي ممكنة كل الإمكان أيضا، وهي حقيقة علمية قد أكدها تاريخ الجنس البشري كله وانتصار الاتحاد السوفياتي".

وبالنسبة لحل التناقضات على ضوء هذه الموضوعة يرى ماو : "أن التناقض والصراع شيئان عامان ومطلقان، إلا أن طرق حل التناقضات، أي أشكال الصراع، تختلف تبعا لاختلاف طبيعة التناقضات. فبعض التناقضات تتميز بصفة عدائية مكشوفة، وبعضها على خلاف ذلك. وتبعا للتطور المحدد للأشياء، تتطور بعض التناقضات التي كانت في الأصل ذات صفة غير عدائية فتصبح تناقضات ذات صفة عدائية، وهناك تناقضات أخرى هي في الأصل ذات صفة عدائية، ولكنها تتطور فتصير تناقضات صفتها غير عدائية".

ويقدم ماو مثالا لكيفية تطور التناقضات داخل الحزب الشيوعي، فيقول :

"إن التناقض بين الأفكار الصحيحة والأفكار الخاطئة داخل الحزب الشيوعي هو انعكاس للتناقضات الطبقية في الحزب، عندما تكون الطبقات موجودة. وليس محتما أن يظهر هذا التناقض فورا، في البداية، أو في ما يتعلق بمسائل خاصة، في شكل عدائي. لكنه يمكن أن يتطور، مع تطور الصراع الطبقي ويصبح تناقضا ذا صفة عدائية".

ويختم ماو هذا الجزء بقولة لينين : "إن التعادي والتناقض شيئان مختلفان كل الاختلاف، ففي ظل الاشتراكية سيتلاشى التعادي، أما التناقض فيظل قائما". و لعل لينين هنا يعني أن التعادي ليس إلا شكلا من صراع الضدين، وليس الشكل الوحيد، فلا يجوز أن نفرض هذه الصيغة على كل شيء .

و أخيرا يقدم ماو ملخصا للأفكار الواردة في النص بكامله فيقول :

"إن قانون التناقض في الأشياء، أي قانون وحدة الضدين، هو القانون الأساسي في الطبيعة والمجتمع، وهو بالتالي القانون الأساسي للتفكير.

إنه مناقض للنظرة الميتافيزيقية إلى العالم. وهو يعني ثورة عظيمة في تاريخ المعرفة البشرية. ووفقا لوجهة نظر المادية الدياليكتيكية، فإن التناقض يوجد في جميع عمليات الأشياء الموضوعية والتفكير الذاتي، ويسري في جميع العمليات من البداية حتى النهاية، هذه هي عمومية التناقض و إطلاقيته. ولكل تناقض وكل طرف من طرفي التناقض خصائصه، هذه هي خاصية التناقض ونسبيته. والشيئان المتضادان بينهما، وحدة في ظل عوامل معينة، ولهذا يمكنهما أن يتعايشا في كيان واحد، ويمكن أيضا لكل منهما أن يتحول إلى نقيضه، وهذه أيضا خاصية التناقض ونسبيته. لكن صراع الضدين لا ينقطع، فالصراع يوجد حين يتعايش الضدان أو حين يتحول أحدهما إلى نقيضه على حد سواء، والصراع واضح على الأخص في الحالة الأخيرة، وهذه أيضا عمومية التناقض وإطلاقه. وحين ندرس خاصية التناقض ونسبيته، ينبغي أن نلاحظ الفرق بين مختلف أشكال صراع الضدين، وإلا وقعنا في خطأ. وإذا فهمنا حقا، بعد الدراسة، النقاط الجوهرية المذكورة أعلاه، فإننا نستطيع إذن أن نسحق تلك الأفكار العقائدية الجامدة، المخالفة للمبادئ الأساسية للماركسية- اللينينية والمؤذية لقضيتنا الثورية، وكذلك يمكن لرفاقنا المجربين، أن ينظموا خبرتهم ويبلوروها في شكل مبادئ، متجنبين بذلك تكرار أخطاء التجريبية. وهذه هي بعض النتائج البسيطة التي توصلنا إليها في دراستنا لقانون التناقض".

 

ملحوظة :

إن التلخيص والتعليق على نص ماو تسي تونغ "في التناقض" لا يعفي المناضلين والقراء من قراءة النص كاملا والاستفادة منه . كما أن مقالتنا حول هذا النص تضمنت مجموعة من الاستشهادات، بعضها، كما هو الحال بالنسبة للاستشهادات المنسوبة إلى انجلز أو لينين أو غيرهما، فتوجد هوامشها في النص الأصلي، والبعض الآخر مأخوذ من النص الأصلي وذو صلة بالفقرات المأخوذ منها، بمعنى أن صاحبه هو ماو تسي تونغ نفسه .

علي محمود

دجنبر 2016

1 ــ كتب الرفيق ماو تسي تونغ هذا البحث الفلسفي بعد بحثه السابق "في الممارسة العملية"، وللغرض نفسه : تصحيح الفكر المتسم بالجمود العقائدي الذي كان رائجا في الحزب بشكل خطير، ولقد ألقى هذا البحث كمحاضرة في الكلية الحربية والسياسية المناهضة لليابان في ينآن، وقد أدخل المؤلف عليه بعض التعديلات والتنقيحات عند ضمه إلى "المؤلفات المختارة لماو تسي تونغ" .