Ok

En poursuivant votre navigation sur ce site, vous acceptez l'utilisation de cookies. Ces derniers assurent le bon fonctionnement de nos services. En savoir plus.

ملخص حول الاشتراكية ـ حمو العبيوي

 تمهيد:

قبل أن نعرض ملخصنا حول "الاشتراكية" التي بلورها فريدريك إنجلز، أحد مؤسسي الفكر و الحركة الشيوعية الثورية بجانب كارل ماركس، في كتابه "ثورة السيد دوهرينغ في العلوم" المعروف اختصارا بكتاب "أنتي ـ دوهرينغ"، نقدم بداية بعضا من المعطيات التاريخية المرتبطة ببلورة انجلز لهذا الكتاب الذي اعتبره لينين، إلى جانب البيان الشيوعي، أساسيا و ضروريا للعمال، كونه يحمل النظرة البروليتارية للعالم.

 

1 ـ في بعض المعطيات التاريخية المرتبطة بال "أنتي ـ دوهرينغ":

                        أ ـ "كارل أوكن دوهرينغ" و أفكاره:

هو الأستاذ المحاضر و المقال من جامعة برلين بعد أن كان دارس قانون و محامي، دافع و دعا إلى أيديولوجيا التعاون و العمل التشاركي بين العمال و الرأسماليين، أو ما تنعته "الأوساط الأكاديمية" التي هي في غالبيتها العظمى ليبرالية الصنع و التوجه، بالخط الوسطي بين الليبرالية و الاشتراكية، و ذلك بعد انجذابه و بقوة إلى أطروحة "الانسجام النهائي و الأبدي" بين مصالح الرأسماليين و العمال، التي بلورها الاقتصادي "هنري شارلز كاري"[1] في أطروحته حول القيمة.  هذا الأخير، هو بالمناسبة مدير "المدرسة الأمريكية للرأسماليةو كبير المستشارين الاقتصاديين للرئيس الأمريكي "أبراهام لنكولن"، و الذي بدوره تأثر و بشكل عميق بأفكار الاقتصادي القومي الألماني "فريدريك ليستالذي عمل قنصلا لأمريكا بألمانيا بعد عودته من لجوئه إليها و تحصيله لجنسيتها. فمن هذا الأخير، استمد السيد "دوهرينغ" أفكاره الاقتصادية التي اعتبرها حين كان أستاذا جامعيا "أول تقدم حقيقي للاقتصاد منذ أول نشر لمؤلف "بحت في طبيعة و أسباب ثروة الأمم" المعروف اختصارا ب "ثروة الأمم" ل "ادم سميت" سنة 1776 ". فقد أشار إليه كذلك انجلز في "أنتي ـ دوهرينغ" ص 215، حيث كتب: " لقراءة ما كتبه دوهرينغ حول الماركنتيلية، يستحسن العودة إلى الأصل في كتاب فريدريك ليست ـ "النظام القومي للاقتصادـ السياسي".

لن يفوتنا هنا، و بكل تأكيد، النقد الذي قدمه كارل ماركس لتلك الأطروحات في إحدى مخطوطاته التي تعود لسنة 1845، تحت عنوان "ملاحظات نقدية حول فريدريك ليست"، و التي لم تنشر الأجزاء المتبقية منها لأول مرة إلا سنة 1971 : "نقد لكتاب ـ النظام القومي للاقتصاد السياسي ـ ل "فريدريك ليست" 1841 "[2].

للإشارة هنا، فالأطروحات الاقتصادية لهذا القومي الألماني، "فريدريك ليست"، التي أخذها عنه السيد "دوهرينغ"، كانت هي الأكثر اعتبارا و تقديرا بألمانيا، زمن أزمة 1929 و صعود الفاشية الدموية سنة 1932. كما يمكن، في هذا الاتجاه، تلمس بعض مواقف و قراءات اليمين العنصري الألماني للسيد "دوهرينغ" فيما كتبه مثلا "كارل هاينز وايزمان" في مقالته "عصر الاشتراكية القومية" ، بمجلة "الدراسات التحررية" 02/12، 1996 ص 216 : " أن دوهرينغ كان مدافعا متحمسا منذ 1865  عن نظرية « La théorie des descendants»، و حافظ، في مواجهته لكارل ماركس و فردينارد لسال، على فكرته في وجود نوع خاص من "اشتراكية الشعب الآري" ". كما أن الأفكار التي جاء بها "دوهرينغ" في كتابه "المسألة اليهودية كمسألة عرقية، أخلاقية و ثقافية، مع الإجابة التاريخية العالمية ل أوكن دوهرينغ" سنة 1881 ب "ليبزغ"، شكلت الأرضية الإيديولوجية الفعلية التي اعتمدها الصهيوني "هرتزلو بشهادة هذا الأخير في إحدى رسائله المؤرخة بسنة 1890، لطرح الحل الصهيوني للمسألة "اليهوديةو تهيئ عملية بناء نظام الكيان الصهيوني الغاصب على أرض شعب فلسطين.

                        ب ـ ال نتي ـ دوهرينغ": ضرورة فكرية، سياسية، و تاريخية:

 في طور التقارب الذي عرفه تيار "اللساليين" الإصلاحي و التيار الماركسي ب "إيزناخ" تحت قيادة "ليبكنيخت" و "بيبل"، و على طريق الوحدة و تشكيل "حزب العمال الاشتراكي الألماني"[3]، عمل "دوهرينغ" بعد تحوله المفاجئ ل"الاشتراكية" ، و تقديمه لأطروحته التي قال أنها "نظرية شاملة"[4]، على خلق مجموعة ستشكل في سيرورتها حين أخذت أطروحته طريقها وسط العمال الاشتراكيين الألمان، نواة تيار انقسامي وجد تعبيره بعد ذلك، وسط الحزب، في التوجه التحريفي الإصلاحي ل "برنشتاين" المدافع المخلص الأمين، المرتبط منذ سنوات تكوينه الفكري بأطروحة "دوهرينغ" حول الاشتراكية و الطريق لتحقيقها. هذه الأخيرة، و وفق السيد و تلميذه معا، وجب أساسا تضمينها عناصر الاقتصاد الليبرالي، مع التثبيت السياسي غير المنفصل عن عناصر ذاك التضمين اللبرالي، على قاعدة السلمية و القانونية و الانتخابوية كشرط قبلي و مسبق، لوصول العمال إلى السلطة السياسية، بدلا عن الطرح الماركسي في الصراع الطبقي و العنف و الثورة.

في هذا السياق، و تتويجا للعديد من المراسلات بين انجلز و بين ماركس، بيبل، ليبكنيخت و غيرهم...، هذا الأخير حذر، و بقوة، من الخطر، و الانحراف الإيديولوجي و السياسي الذي تشكله أطروحة "دوهرينغ" في أوساط العمال الاشتراكيين الألمان[5]. انخرط انجلز في معركة التصدي لأطروحة "دوهرينغ"، و العمل على بلورة الرد عليها ابتداء من نهاية شهر مايو 1876، بعد قراره توقيف عمله حول "ديالكتيك الطبيعة" الذي كان قد ابتدأ فيه العمل منذ سنة 1873[6]. جاء الرد بداية على شكل سلسلة مقالات نشرت في الجريدة المركزية للحزب الاشتراكي الألماني: "إلى الأمام" ب "ليبزغ" من 3 يناير 1877 إلى 7 يوليوز1878، حيث حملت سلسلة الأقسام الثلاثة، و على التوالي العناوين التالية: سلسلة القسم الأول: "ثورة السيد دوهرينغ في الفلسفة" التي صاغها انجلز من سبتمبر 1876 إلى يناير 1877 ، و نشرت على الصفحة الرئيسية للجريدة المركزية من 3 يناير إلى 13 مايو 1877، سلسلة القسم الثاني: "ثورة السيد دوهرينغ في الاقتصاد السياسيتمت صياغته من يونيو إلى غشت 1877 ، بمساهمة كارل ماركس الكبيرة، و الذي نشر من 27 يوليوز إلى 30 ديسمبر 1877 على "الملحق العلمي" ، و ليس على الصفحة الرئيسية للجريدة المركزية، و هو حل اقترحه "ليبكنيخت" في مواجهته لأتباع "دوهرينغ"[7] ، الذين رفضوا قطعيا نشر تلك السلسلة من المقالات النقدية على صفحات الجريدة المركزية للحزب، دفاعا منهم عن سيدهم ، و عن أفكاره تحت غطاء مصلحة الحزب ، و طول مقالات انجلز، القسم الثالث: "ثورة السيد دوهرينغ في الاشتراكية" الذي صاغه انجلز من غشت 1877 إلى بداية أبريل 1878، و الذي نشر كذلك على ملحق الجريدة المركزية من 5 مايو إلى 7 يوليوز 1878، ليتم بعد ذلك طبعها كاملة ب "ليبزغ" ،بعد مصادقة اللجنة المركزية، في 12 يوليوز 1878، في حجم واحد، شكل عمليا قطيعة ثورية و اختراقا عميقا للمراكز العمالية الألمانية، تحت عنوان " ثورة السيد دوهرينغ في العلوم، الفلسفة، الاقتصاد السياسي و الاشتراكيةو الذي استقر قيد حياة انجلز على عنوان "ثورة السيد دوهرينغ في العلوم"، ليأخذ بعدها عنوان "أنتي ـ دوهرينغ".

ختاما لهذه المعطيات التاريخية، التي ارتأينا ضرورة التدقيق في بعض أهم عناصر صورتها العامة، التي طبعت طورا مهما من الصراع الفكري و السياسي، الذي فيه تبلورت الأسس الفلسفية و الفكرية و السياسية للنظرية الشيوعية الثورية ، مرحلة تبنينها المتصاعد، و على الخصوص الصراع ضد التوجهات التي أعلنت وقتها انتسابها بهذا القدر أو ذاك للنظرية الاشتراكية، نشير إلى أن العنوان الذي وضعه انجلز لسلسلة مقالاته تلك، جاء محاكاة ساخرة و استهزائية بعنوان كتاب "دوهرينغ" لسنة 1865: "ثورة كاري في العلوم الاقتصادية و الاجتماعية"، و قصد "دوهرينغ" هنا، هو معلمه الاقتصادي الأمريكي "شارلز كاري"[8].

ففي قلب هذا الصراع الفكري و السياسي إذن، و في معمعان تصاعد النضال ضد النظام الاستبدادي للملك الإمبراطور "جيوم 1"، تمت بلورة ال"أنتي ـ دوهرينغ".

 

2 ـ في الاشتراكية :

حدد انجلز الاشتراكية في مضمونها " كنتاج للوعي بالتناقضات الطبقية السائدة في المجتمع المعاصر بين المالكين و غير المالكين، بين العمال و البورجوازيين من جهة، و بالفوضى التي تسود الإنتاج من جهة ثانية". أما في شكلها النظري، يضيف انجلز، فقد "بدت كاستمرارية متطورة و أكثر اتساقا للمبادئ التي وضعها فلاسفة عصر الأنوار بفرنسا القرن الثامن عشر"، لذا كان عليها، النظرية الاشتراكية، يضيف انجلز: "أن ترتبط و بعمق بجوهر المواد الفكرية الموجودة حينها و السابقة عليها، و أن تتأصل في عمق جذور حقائقها الاقتصادية."

 

            أ ـ في بعض عناصر المبادئ العامة ل"عصر الأنوار" زمن صعود البرجوازية:

عمل مفكرو "عصر الأنوار"، الذين شكل فكرهم الفلسفي للقرن الثامن عشر على الخصوص بفرنسا و انجلترا، طورا تاريخيا مهما في التطور العام للفكر البرجوازي، على إعلان و إعلاء "سلطة العقل" أمام سلطة الدولة و الدين. فدعوا إلى تشطيب أي شيء لا يكمن في وجوده، أو هو غير قادر على إثبات عقلانيته، عقلانية عصرهم، و إلى إدانة كل أشكال المجتمعات و الأفكار السابقة، و كل الخرافات و الامتيازات وجب تحييدها لإرساء "مملكة و سلطة العقل" عن طريق العدالة و المساواة الطبيعية و المطلقة، و على أساس حقوق الإنسان الثابتة و الغير القابلة للتصرف. كان هذا العصر و بتعبير هيجل: "العصر الذي وُضِعَ فيه العالم على رأسه"[9].

عن طريق هؤلاء الفلاسفة الذين تصدوا و عملوا على تفكيك و إزالة كل ما هو "لا عقلاني" (و "اللا أخلاقي" بالنتيجة) عن الأفكار السابقة و السائدة، نازعين الطوق و مهيئين طرق تفكير الناس و وعيهم للثورة، قدمت البرجوازية الصاعدة و الحاملة لنقيضها الذي هي من دونه لا وجود لها، نفسها كممثلة لمصالح كل الفئات و الطبقات الاجتماعية المستغَلة، و على الخصوص مقدمة نفسها كممثلة لمصالح نقيضها الجنيني فيها[10].

فما مكنها إذن من ذلك، أي من عدم تقديم نفسها كممثلة لمصالح طبقة اجتماعية محددة، مصالحها الطبقية هي فقط، هو ظرف وجود تناقضها مع أسياد الإقطاع إلى جانب التناقض الكوني بين المستغِلين و المستغَلين، بين الأغنياء المترفين و الفقراء الكادحين. عملت إذن هذه البرجوازية ايديولوجيا، و لم يكن لها غير ذلك، على تغطية و طمس مجموع تناقض مصالحها و مصالح أسياد الإقطاع من جهة، مع مصالح المستغَلين الكادحين من جهة ثانية، و بالأساس مع مصالح البروليتارية الجنينية، و صورت حل تناقضها و صراعها مع أسياد الإقطاع، كحل يخلص و يحرر كل البشرية من المآسي و الويلات، و يحقق مملكة العدالة و المساواة المطلقة للجميع، بسيادة عقل عصر فكر الأنوار الذي لم، و بتعبير انجلز، يتجاوز مفكروه الحدود التي رسمها و حدَّدها لهم زمنهم التاريخي[11].

ادعاء البرجوازية الصاعدة، في حركة تناقضها و صراعها ضد أسياد الإقطاع، تمثيليتها لمصالحها و مصالح كل الفقراء الكادحين، لم يمنع من بروز حركات مستقلة عنها، و انتفاضات ثورية مسلحة من الطبقة و الفئات التي لا زالت حينها جنينية، و التي في سيرورة تطورها ستصير هي البروليتارية. فإبان حرب الفلاحين بألمانيا، برز توجه "توماس مونزر" الذي صاغ بيان "براغ" سنة 1521، و فيه دعا للثورة على "عاهرة بابل"، و القصد هو كنيسة روما (أنظر ما قدمه انجلز حوله في كتابه "حرب الفلاحين بألمانيا"). كما نجد المجموعة التي توحدت خلال الثورة الإنجليزية الكبرى في أربعينيات القرن السابع عشر، "النيفلور"، تحت شعار الإصلاحات الدستورية و المساواة [12]، و التي انتشرت أفكارها عن طريق فلاسفة "عصر الأنوار"، ليصل تأثير ها حتى صائغي الدستور الأمريكي.

بفرنسا، و خلال الثورة، نجد "فرانسوا نويل بابوف"، و هو معروف باسم "غراشوس بابوف" الذي طور أطروحات في "المساواة و جماعية الأرضحيث أسس في السرية منظمة «La conjuration des égaux» بهدف الاستمرار في الثورة لتحقيق "جماعية الأرض و وسائل الإنتاجو من أجل "المساواة الكاملة و السعادة المشتركة".

أكد التاريخ و من دون رجعة إذن، أن "مملكة العقل" هذه، و "الدولة العقلانية" التي أتت في شكل الجمهورية البرجوازية، لم تكن في حقيقتها الفعلية غير المملكة المثالية للبرجوازية. فالعدالة المطلقة و الأبدية، و المساواة الطبيعية و المطلقة التي حملتها البرجوازية شعارا لها، و التي بها في صراعها ضد الإقطاع، ألحقت ذيليا كل الفئات المستغلة (بفتح الغين)، وجدت تحققها الفعلي في العدالة و المساواة البرجوازية أمام القانون، معلنة الملكية البرجوازية، ملكيتها الخاصة، حق أساسي و ثابت للإنسان.

            ب ـ في بعض عناصر الحلقات الأولى للفكر الشيوعي في عصر صعود البرجوازية

 إذا كانت شعارات مفكري "عصر الأنوار" "الليبراليينلم تتجاوز حدود مطالب العدالة و المساواة في الحقوق السياسية، و إلغاء الامتيازات الطبقية في اتجاه "عقلنة" النظم الاجتماعية القائمة، فإنها و على العكس منها، امتدت لدى الشيوعيين الأوائل إلى المطالبة بإلغاء الفوارق الطبقية ذاتها، و على رأسها إلغاء الملكية الخاصة. هكذا نجد:

 

إتيان جابرييل موريلي: 1717 ـ 1782 (؟)

 لانعدام مصادر تاريخية حاسمة في من تكون الهوية الحقيقية ل "موريليالتي رجح البعض القليل جدا، أنها شخصية وجدت فعلا، في الوقت الذي فيه دافعت اتجاهات أخرى، أنه اسم مستعار ل "دينيس ديدرو"، أو أنه يعود ل "فرانسوا فانسو توسانت". على أي، فصاحب كتاب "قانون الطبيعة" الذي نشر سنة 1755، و الذي نسب إلى حدود القرن العشرين إلى "دنيس ديدرومع أن الكتاب لم يحمل اسم هذا الأخير، كان من الأوائل الذين طوروا فلسفة ل "الاشتراكية و الشيوعية"، حيث فيه تم انتقاد و بشكل صارم مجتمع تلك الحقبة، و طٌرِح فيه وضع دستور يهدف إلى تحقيق مجتمع متساوي من دون ملكية خاصة، و من دون زواج أو كنيسة أو شرطة. انتُقِدت فيه و اعتُبِرت الملكية الخاصة أساس كل الويلات و المعاناة البشرية الاجتماعية و الأخلاقية. وضع "موريلي" قوانين أساسية لاستئصال جذور كل تلك المآسي البشرية، و على رأسها: إلغاء الملكية الخاصة: "لا ملكية خاصة في المجتمع لشخص أيا كان، ما عدا الأشياء ذات الاستعمال الفوري، و الضرورية لتلبية العمل و الحاجيات اليوميةمعارضا بشدة امتلاك أي شخص أكثر من ما يحتاجه من ضروريات الحياة اليومية، و بالتحديد معارضا للملكية الخاصة المستعمَلة جوهريا لتشغيل أناس آخرين: "كيف للناس أن يحصلوا على الأدوات و المعدات التي يحتاجونها في حياتهم العملية، إن هي كانت في ملكية أشخاص". لدا اقترح "موريلي" إنشاء مخازن عمومية لتوزيع المعدات يوميا على الجميع، و لمدة زمنية محددة، كما اقترح حظر التجارة و التبادل السلعي بين الأفراد، و وضع بديلا لها في تجميع كل المنتجات بالساحات العمومية، و إعادة توزيعها على الجميع كل حسب حاجياته اليومية فقط.

 

جابرييل بونوت مابلي: 1709 ـ 1785

 من عائلة نبلاء برلمانية، و من الممهدين للاشتراكية الطوباوية، أرجع سبب كل مآسي المجتمع إلى عاملين: عدم تكافؤ و تساوي الظروف و الملكية الخاصة. فقد أدان ما أسماه ب "الاستبداد القانوني"، و دعا إلى إلغاء الملكية الخاصة التي اعتبرها غير متوافقة مع مبدئي الانسجام و الإيثار بين الناس، بل هي موصلة فقط للغرائز الأنانية اللااجتماعية. طالب "مابلي" بالمساواة حتى في الاحتياجات، متجاوزا بذلك، تصور لبراليي عصره في المساواة أمام القانون. و اعتبر أن العفة و الفضيلة، هي أكثر تقديرا من تحقيق أو امتلاك الثروات المادية.

 

            ج ـ في بعض الأطروحات الاشتراكية الطوباوية:

 بجانب ما قدمه انجلز في ال "أنتي ـ دوهرينغ" حول أطروحات "سان سيمون"؛ "شارلز فوريي" و "أوين"، نجد حولها فكرة جوهرية و شديدة التركيز في البيان الشيوعي: " فنظم الاشتراكية و الشيوعية، نظم سان سيمون، فوريي و أوين ... ظهرت في المرحلة الأولى و الغير المتطورة من الصراع بين البروليتارية و البرجوازية.... فعلى الرغم من ملاحظة مبدعي هذه النظم الفعلية لتباينات الطبقات و فعالية العناصر المفككة للمجتمع السائد نفسه، إلا أنهم لم يروا في جهة البروليتارية أي نشاط ذاتي تاريخي، و لا أي حركة سياسية خاصة بها. ..."

 

            ج ـ 1 ـ سان سيمون :

 اسمه الحقيقي "كلود هنري دو روفروي" 1760 ـ 1825، و هو عسكري، اقتصادي و فيلسوف منحدر من عائلة "النبلاء". احتفظت نزعته البرجوازية بثقلها في دفاعه عن البروليتارية. فهو صاحب "إعلان مبادئ إيديولوجية التصنيع" ل 1817 في كتابه "الصناعة"، التي دعت إلى بناء "مجتمع صناعيفيه تكون الكفاءة و الجدارة في احترام للعمل المنتج، هي أساس المجتمع الذي وجب أن يكون تحت قيادة (إدارة) ما أسماه ب "الطبقة الصناعية". هذه الأخيرة، مكونة بالنسبة له، من كل من المساهمين و المشاركين في العمل المنتج بمن فيهم، إلى جانب العمال اليدويين، فئة رجال الأعمال، المديرين، المصرفيين و العلماء[13]. انتقد في كتابه بشدة أي توسيع لهامش تدخل الحكومات في الاقتصاد، معتبرا ذلك خطوة في اتجاه الاستبداد الاقتصادي. لذلك دعا من جهة إلى الاستيعاب الكلي للسياسي في الاقتصادي[14]، و من جهة ثانية، دعا إلى تشكيل مجلس رقابة، مكون من العلماء و الحرفيين و رجال الأعمال، يعمل على التخطيط لخلق الثروات و تحسين مستوى عيش الطبقة العاملة. فمن الواجب بالنسبة له، و باسم الأخلاق و المشاعر الإنسانية، الرفع من المستوى المادي و المعنوي للبروليتارية.

 

ج ـ 2 ـ شارلز فوريي: 1772 ـ 1837

 تميز شارلز فوريي بنقده الشديد للبرجوازية و لمفكريها، و السخرية من "عالمها"، فهو الذي واجهها بالوعود المغرية التي قدمها مفكرو "عصر الأنوار"، و هو مبدع فكرة إنشاء دور الحضانة ،وأول من طرح ، في نقده لمكانة المرأة في المجتمع البرجوازي، فكرة أن تقدم أي مجتمع يقاس بوضع المرأة فيه: "حيثما يحط الرجل من قيمة المرأة فهو يحط من قيمة نفسه... على العموم، تجري التحولات و التقدم الاجتماعي بسبب تقدم المرأة نحو الحرية، كما يجري الانحطاط الاجتماعي بسبب تراجع حرية المرأة، توسيع امتيازات المرأة هو المبدأ العام لأي تقدم اجتماعي"[15].

انتقد بشدة، في كتابه «Le nouveau monde amoureux» المجتمع الصناعي الصاعد، معتبرا إياه مجتمع "الفوضى الصناعية"، حيث تزدهر المصانع على حساب استنزاف العمال. أنظر «La fausse industrie» الذي فيه، دعا إلى "ضرورة توفير دخل قار غير مشروط" كحق مشروع لتحقيق الحاجيات الأساسية للأفراد.

احتلت قضية تغيير المجتمع، و إعادة بناءه على أسس جديدة، موقعا مركزيا في كتاباته التي فيها طرح ما أسماه ب "النظام المجتمعي الجديد". فكل مجتمع بالنسبة له "يحمل في ذاته، و تكمن فيه، القدرة على خلق المجتمع الذي يليه"[16]، و الانتقال إليه، إلى "مجتمع الانسجام" (المجتمع المثالي)، يتم سلميا و بطريقة طبيعية. لذا طرح " فوريي" زرع بذرة و أساس هذا المجتمع الجديد التي أسماها ب "الفلانستير"[17]، و التي هي في وحداتها الكلية تشكل بديله المجتمعي. للإشارة، فمجموعة من التجارب لإنشاء هذه التجمعات بشمال أمريكا و فرنسا باءت بالفشل، الذي حدد بعض الباحثين السبب فيه في غياب سلطة ذاتية قادرة على قيادة، و تنظيم تلك التجمعات[18].

 

ج ـ 3 ـ أوين: 1771 ـ 1858

 كان أوين من أتباع الليبرالية الكلاسيكية في بداياته، بمعية "جيريمي بنتهام"، مدافعا عن ما سمي ب "الأسواق الحرة" الضامنة لحرية و حق العامل في اختيار صاحب المعمل، الرأسمالي، معتقدا بذلك أن العمال و بهذه الطريقة، سيستطيعون التخلص من السلطة المفرطة للرأسماليين، و ليس التخلص من الرأسماليين أنفسهم.

تبلور نظامه الفكري، و هو العضو في "الجمعية الأدبية و الفلسفية لمانشيستر" التي عملت على مناقشة أفكار التيارات الإصلاحية و فلسفة "عصر الأنوار"، في ظرف تاريخي، اتسم بالتساؤلات المتزايدة اتجاه السيرورة المتصاعدة لعملية التصنيع[19] التي عمقت بالنسبة له، مجموع الفوارق و الانقسامات الاجتماعية بين العمال و الرأسماليين، و بين الرجل و المرأة، كما بين المدن و الأرياف. فرغم كونها شكلت، بالنسبة له، مصدرا للمأساة البشرية، فهو لم يعارضها في ذاتها، بل عارض عملية التسيير اللاعقلاني و اللاأخلاقي، كما عبر عن ذلك: "حقيقة، الركيزة الرئيسية لعظمة بلدنا السياسية و ازدهاره هي المصانع، لكنها ، و كما هي تدار اليوم، تدمر الصحة و الأخلاق و الرفاهية الاجتماعية للكتلة العاملة فيها"[20].

تمحورت أفكاره الرئيسية التي بدأت تتخذ منحا أكثر جذرية و هو منخرط و بقوة في الحركات الإصلاحية، حول فكرة أن "الظروف هي التي تحدد شخصية و طبيعة الناس"، و هم فيها ليس لهم عليها أي سلطة. و بالتالي، بالنسبة له، لا يمكن الحكم على أفعالهم، لا باللوم و لا بالإشادة[21]. لذا حرض و بشدة و هو عضو في "المجلس الصحي لمانشيستر" على ضرورة وضع الناس، و منذ سنواتهم الأولى، في ظروف اجتماعية مادية و معنوية جيدة و صحية، و على ضرورة تحسين الوضع الصحي و ظروف اشتغال العمال، و رفضه لتجاوزات الرأسماليين في اعتبارهم العمال مجرد آلات[22]

لذلك، حين أصبح "أوين" مالكا لجزء من "لانارك الجديدةبعد زواجه من ابنة مالكها، قرر إدارتها على أساس مبادئ مختلفة، و متجاوزة للقوانين المعمول بها حينها. فبدأ برفع مستوى معيشة العمال، داعيا إلى مكافأة العمال المنتجين بدل الرأسماليين و الوسطاء، و تحسين مساكنهم. ثم عمل على فتح متجر لبيع منتجات من النوعية الجيدة، و بأثمنة مناسبة لمستوى دخل العمال. كما بلور مشاريع تعليمية للعمال، و التي بلغت ذروتها بإنشاء دار للرعاية الصحية، ليتوجها بشعاره الذي أصبح أحد شعارات الأممية الأولى، و الحركة العمالية الفرنسية: " ثماني ساعات للعمل، ثماني ساعات للترفيه، و ثماني ساعات للنوم".

تجربته هذه ب "لانارك" أثارت اهتمام الإصلاحيين، و رجالات الدولة و القصر، الذين لم يتوانى "أوين" أبدا في لقائهم و محاولات إقناعهم بأفكاره.

على غرار تجربته هذه في "لانارك الجديدة"، و استمرارا في عمله على تنفيذ أفكاره رغم اصطدامه بموجة خيبة الشعور العام اتجاهه[23]، اقترح إنشاء مجمعات سكنية بوحدات صناعية - زراعية للقضاء على البطالة و الحد من هجرة الأرياف. مجمعات، يتم تأسيسها من طرف أفراد أو البلديات أو الدولة، و يشرف عليها أناس ذووا مؤهلات عالية، تتجاوز فيها الساكنة –العمال-الألف شخص، في مبنى واحد، يستفيد فيها جميع الأفراد من فرصة العمل، و يتكلف "مجتمعه المحلي" هذا بتربية الأطفال الذين يتجاوز عمرهم الثلاث سنوات.

اعتبر "روبرت أوين" مشروعه هذا، "تنظيمه المجتمعي الجديد"، هو الأساس الوحيد القادر، ليس فقط على تخليص الطبقة العاملة من مآسيها، بل الأساس لإعادة بناء تنظيم جديد لكل الطبقات و الأمم، فأطلق اسم "علم المجتمع" على نظريته[24]، و التي ابتداء من 1822، سيسميها أحد أتباعه ب "الاشتراكية"[25].

بعد تجربتين فاشلتين، الأولى مجاورة ل "كلاسكو"، و الثانية حملت اسم "المجتمع المنسجم الجديد" و تحت إشرافه الشخصي، بأمريكا، التي رد فشلها أحد أعضائها حينذاك، و الذي سيصبح فيما بعد أحد رموز "الفوضوية الفردية" بأمريكا، "جوسيا وارنإلى غياب قيادة فعلية لتلك التجربة. تخلى "روبرت أوين" عن مشروعه "المجتمع المنسجم الجديدو عن مجموع أنشطته "الرأسماليةبعد عودته من أمريكا سنة 1828، ليبدأ حملته الدعائية و التحريضية لأجل "الاشتراكية و العلمانية" ، التي بدأت تأخذ طريقها وسط سجالات جمعية "كل الطبقات و كل الأمم" التي أسسها سنة 1835، لتنتشر و بشكل كبير أفكاره حول العلمانية، على الخصوص وسط العمال. محاولا بذلك، هو و أتباعه، أن يمنحوا المثال و النموذج ب "تجربة مجمعاتهم"، تمهيدا لتحول الجميع و اعتناقهم التدريجي، و عن طواعية لنظريتهم (من النضال إلى الدعوة)

لقد أشاد به ماركس و انجلز لمواقفه المناهضة للرأسمالية، و في نفس الوقت شجبوا مواقفه المتعالية اتجاه الطبقات الشعبية[26]، كما نددوا بعداء "أوين" لمبدأ الصراع الطبقي و معارضته الشديدة لمبدأ الثورة و العنف. فهو بالنسبة للشيوعيين، يجسد مثال المصالحة بين نقيضي الصراع الطبقي. و لأن الشيء هو صيرورته، فقد تأسست بعده "الجمعية الفابية"، المعادية للثورة سنة 1884، التي اعتمدته أباها الروحي و منظرها التاريخي، و هي التي لعبت دورا قياديا سنة 1900، في تأسيس ما يعرف، حتى اليوم، ب "حزب العمال" البريطاني.

كمثل فلاسفة "عصر الأنوار"، لم يقدم الاشتراكيون الطوباويون الثلاث أنفسهم كممثلي طبقة محددة، و هي طبقة البروليتارية هنا، طبقة المستغلين غير المالكين، بل كممثلي المجتمع و البشرية بأكملها. فأرادوا، كسابقيهم في "عصر الأنوار"، بناء "مملكة العقل" و العدالة المطلقة و الأبدية. فكما كان مجتمع الإقطاع في نظر البرجوازية مجتمعا لا عقلانيا، غير عادل، و الذي وجب وضعه أمام "محكمة العقل"، كان مجتمع البورجوازية هو الأخر في نظر الفلاسفة الاشتراكيين الطوباويين الثلاث، مجتمعا منظما بشكل غير عادل، و لا عقلانيا، لذا وجب هو الآخر إدانته، و وضعه تحت "سلطة العقل"، لأجل بناء "مملكة العقل" و العدالة المطلقة و الأبدية. بهذا المنطق إذن، لم يكن على هؤلاء المفكرين سوى التعرف على هذه الحقيقة و اكتشافها، لتتجسد هذه الأخيرة (التجسد بمفهومه اللاهوتي)، من وجهة نظر التصور الاشتراكي الطوباوي، في الاشتراكية.. الحقيقة.. العقل.. و العدالة المطلقة، التي كان يكفيهم فقط اكتشافها ذهنيا، كي تسود العالم بفضل قوتها الذاتية الخاصة، في استقلالية تامة عن الزمن - المكان، و عن تطور التاريخ البشري، و على وجه الدقة و التحديد، مستعيرين هنا ما جاء به البيان الشيوعي، في استقلالية عن حركة البروليتارية التي "لم يروا في جهت(ها) ـ البروليتارية ـ أي نشاط ذاتي تاريخي، و لا أي حركة سياسية خاصة بها. ..."، لذا، كان رفضهم لنظام البورجوازية في جوهره أخلاقيا، و الحلول التي قدموها لم تتجاوز إطار الحدود التي رسمتها لهم منطلقاتهم في الرفض الأخلاقي و القيمي لذاك النظام.

لقد حاولنا هنا التفصيل قليلا في بعض أهم مبادئ فكر "عصر الأنوار"، و بالخصوص التفصيل في أهم الأفكار و التجارب التي جاء بها الاشتراكيون الطوباويون، للتأكيد على أن النظرية الاشتراكية العلمية، لم تأتي منسلخة عن التجارب و الأفكار السابقة عليها، أو هي حصيلة نشاط ذهني خالص خارج تطور التاريخ البشري. بل هي كما عبر عن ذلك انجلز في ال "أنتي ـ دوهرينغ": " ...استمرارية متطورة و أكثر اتساقا للمبادئ التي وضعها فلاسفة عصر الأنوار بفرنسا القرن الثامن عشر"، و التي كان عليها "أن ترتبط بعمق جوهر المواد الفكرية الموجودة حينها و السابقة عليها، و أن تتأصل في عمق جذور حقائقها الاقتصادية."، و هو الأمر الذي أكد عليه كذلك قائد الثورة البلشفية "لينين" (أنظر "مصادر الماركسية الثلاث").

 

ه ـ في الاشتراكية العلمية:

"لجعل الاشتراكية علما، وجب بدءا وضعها على الأرض (الواقع) الفعلية."

"هي التعبير ـ السلاح النظري للحركة البروليتارية"

 

            ه ـ 1 ـ الديالكتيك[27] بين المادية و المثالية

لم يكن منطق التفكير الديالكتيكي غريبا عن الفكر الفلسفي المسمى بشكل عام في "تاريخ الفلسفة" ب "الفكر الفلسفي الغربي"، و لا، على الخصوص، عن فكر القرن الثامن عشر بفرنسا، كما بألمانيا و إنجلترا، إلا أنه و بتأثير من "التيارات الفلسفية" لهذه الأخيرة، كان غارقا في نمط التفكير المثالي بعد عودة هذه التيارات للفلسفة المثالية الإغريقية (الأفلاطونية بالأساس)، في محاولة لإعادة بناء و "عقلنة" نظم تفكيرها في مواجهة الفكر الفلسفي المادي و العلمي الذي غلب عليه حينها منطق التفكير الميكانيكي[28] التحليلي. إلا أنه مع "هيجل" لم تعد الديالكتيك طريقة أو أسلوبا للتفكير، بل هي حركة العقل - الفكر (حركة و تطور الفكرة المطلقة) في علاقته بالكائن ـ الوجود[29] (الطبيعة)، فتم تصورها على أنها هي المحرك الداخلي للأشياء التي تتطور بالنفي و المصالحة (راجع بهذا الصدد مثال علاقة التناقض بين العبد و السيد و الحل ـ المصالحة "السعيد(ة)" لها لدى "هيجل")، في حين، عند ماركس ـ انجلز، هي حركة المادة ( الأشياء في الطبيعة تجري و تحدث في نهاية التحليل ديالكتيكيا كما يقول انجلز في ال "أنتي ـ دوهرينغ")، حيث التناقضات الاقتصادية ـ الاجتماعية هي محرك التاريخ البشري منذ تفكك التجمعات البشرية الأولى ـ "البدائية"، و انطلاق سيرورة تشكل الفئات و الطبقات الاجتماعية. و لا حل "سعيد" أو مصالحة لها، لهذه التناقضات الطبقية الاجتماعية، إلا بالنفي المادي العنيف لأحد أطرافها.

نقف هنا عند التصور الذي لا يرى في مقاربته للظواهر في كليتها (الطبيعية أو التاريخية البشرية أو  الذهنية - الفكرية)، أمام التشابكات اللانهائية من العلاقات و التفاعلات التي تقدمها الصورة العامة لهذه الظواهر التي فيها تتلاشى تفاصيلها الداخلية،  إلا الحركة و الترابط و التحول أكثر من رؤيته و اهتمامه بمن يتحرك و من يترابط و من يتحول. هذه النظرة، التي كان أول من عبر عنها بوضوح هو هيراكليتس: " كل شيء يتدفق"، هي سليمة في جوهرها، إلا أنها غير كافية لتفسير و توضيح التفاصيل و العناصر الداخلية التي منها تتكون تلك الصورة العامة للظواهر. فطالما ليست لدينا معرفة بتلك العناصر و التفاصيل الداخلية المكونة للصورة العامة، فلن تكون لنا أي فكرة واضحة، و دقيقة، عن الصورة العامة نفسها لتلك الظواهر.

لفهم هذه التفاصيل و العناصر الداخلية إذن، و بتأثير من العلوم عن طريق مرور و انتقال طرق نظرها و تفكيرها، للفكر الفلسفي (باكون و لوك) يتم الاضطرار لنزعها و عزلها عن ترابطاتها الطبيعية أو التاريخية، و دراستها كلها على حدة في طبيعتها، نوعها، أسبابها و نتائجها الخاصة بها. و هو الأمر الذي أنتج قصورا و ضيقا في التفكير المميز لنمط التفكير المثالي (الميتافيزيقي). فالأشياء و انعكاساتها المفاهيمية و المتصورة في الفكر[30]، بالنسبة للميتافيزيقيين، هي أشياء معزولة للدراسة، تعتبر و يتعامل معها واحدة بعد الأخرى، و من دون أي ترابط، ثابتة و جامدة، معطاة مرة واحدة و إلى الأبد. فالشيء، بالنسبة لهم، إما يوجد أو هو غير موجود، و يستحيل لديهم أن يكون الشيء هو ذاته و غيره في نفس الوقت، فكل كائن عضوي هو في كل لحظة نفسه و غير نفسه. فالميتافيزيقا إذن، لا ترى و لا تهتم بترابطات الأشياء، و لا ترى سيرورتها و لا زوالها أمام وجودها.

أما الديالكتيك، فهي تقارب و تقبض على الأشياء و انعكاساتها المفاهيمية جوهريا، في علاقاتها و ترابطاتها، في حركتها، نشوئها و نهايتها. فالطبيعة، و هي أرض اختبار الديالكتيك، تجري فيها الأشياء و تحدث في نهاية التحليل ديالكتيكيا (حركة المادة)، و ليس ميتافيزيقيا. فالأشياء لا تتحرك في تماثل أبدي، أو دائري تكراري لا منتهي، تعيد نفسها من دون انقطاع، و لكنها تجري في تاريخ مادي فعلي.

من هذه الزاوية، و الفضل في طرحها من دون أن يقدم الحل الفعلي العملي لها بسبب من وضعه المقلوب لها، يعود ل "هيجل"[31]، يكون التاريخ البشري إذن هو سيرورة تطورية للبشرية نفسها، تصبح معه مهمة الفكر هي متابعة هذه المسيرة التطورية بكل تموجاتها، و إثبات، حتى من خلال كل مظاهرها الطارئة و العرضية، أن هناك قوانين تحكم هذه السيرورة التطورية البشرية.

على هذا المنظور المادي العلمي، انوجدت الطريق أمام التصور المادي للتاريخ لتحليل و توضيح الوعي البشري انطلاقا من وجوده الاجتماعي، و ليس تفسير هذا الأخير انطلاقا من الأول، خصوصا أمام تعاظم الأحداث التي عرفتها تلك المرحلة (الانتفاضة العمالية بليون، و بروز أول حركة عمالية: الميثاقيون ـ) و التي ساهمت بشكل حاسم في انعطافة تصور التاريخ، و الانفضاح الكلي للسيطرة السياسية للبرجوازية، ومصالحها الرأسمالية أمام احتداد الصراع الطبقي بين البروليتارية و البرجوازية.

هكذا بدت الاشتراكية كنتيجة للصراع المادي التاريخي بين البروليتارية و البرجوازية، و أصبحت مهمتها دراسة التاريخ الاقتصادي الذي أنتج هذه الطبقات و تناقضها العدائي. و اكتشاف، في الوضع الاقتصادي القائم، طرق حل هذا الصراع العدائي. بخلاف الاشتراكية الطوباوية، التي رغم نقدها للرأسمالية و نتائجها، لم تستطع تفسيرها، و بالنتيجة لم تستطع طرح بديل لها، فقط بقيت في حدود الرفض، و عدم القدرة على تصور الرأسمالية في ترابطاتها التاريخية، و لا على تعرية طبيعتها الداخلية، و تحديد مصدر و جوهر الاستغلال الرأسمالي.

 

ه ـ 2 ـ فائض القيمة

 ليس لدينا هنا النية في بسط طرح "ماركس" ل"فائض القيمة"،  النظرية المركزية لكتاب "الرأسمال"[32]، فهو مرتبط بمجموعة من المفاهيم التي بها يكتسب هذا المفهوم مضمونه المادي الثوري في النظرية الشيوعية الثورية، لأننا نريد و بكل عزيمة، مستقبلا، على التعاطي الدقيق و التفصيلي، في بحث خاص، مع هذا الموضوع الحيوي الذي أتبثه التحليل المادي العلمي الدقيق الذي بلوره "ماركس" منذ صياغته لمخطوطاته في أربعينيات القرن التاسع عشر[33]، بل سنعمل هنا فقط على طرح و بشكل مركز، أهم ما طرحه "ماركس" بهذا الصدد، و الذي شكل و لا زال، في وجه كل الشعارات و التحاليل الديماغوجية الليبرالية، ثورة حقيقية للتحليل المادي العلمي لجوهر النظام الرأسمالي.

في رسالته لإنجلز بتاريخ 24 غشت 1867، و بعد نشره للمجلد الأول ل »رأس المال « ، كتب ماركس:" الأفضل في كتابي، هو: 1 ـ إبراز و تسليط الضوء، في الفصل الأول، على الطابع المزدوج للعمل حيث يعبر عن قيمة الاستعمال و قيمة التبادل. 2 ـ تحليل فائض القيمة في استقلالية عن أشكاله الخاصة: الربح..الفوائد.."

بضعة أشهر بعدها، و في رسالته لإنجلز في 8 يناير 1868، منتقدا فيها تعاطي "دوهرينغ" مع كتاب "رأس المال"، و مؤكدا فيها تعاطيه مع الشكل العام لفائض القيمة، كتب ماركس:"هناك شيء بسيط جدا، لم ينتبه له جميع الاقتصاديين و من دون استثناء. إذا كان للسعلة طابعا مزدوجا، قيمة استعماليه و قيمة تبادلية، فمن الضروري أن يتضمن العمل الممثل في هذه السلعة، أيضا هذا الطابع المزدوج. في حين، كل التحاليل التي نجدها لدى سميت و ريكاردو... تصطدم بإشكالات لا يمكن تفسيرها" (للمزيد من التدقيق، يستحسن العودة إلى الفصل الأول من المجلد الأول ل"رأس المال").

لقد أتبث ماركس، أن ما يشتريه فعلا الرأسمالي، أي و من الزاوية المقابلة، ما يبيعه العامل، ليس العمل، بل هو قوة العمل. هذه الأخيرة هي في نفس الوقت قيمة استعماليه و قيمة تبادلية كأي سلعة، إلا أنها هنا هي سلعة حية. فالقيمة الاستعمالية لقوة العمل هي قدرتها أن تكون مصدر القيمة. قيمتها تتحدد بقيمة الوسائل الضرورية "لعيش" الأجير (الأجرة)، أي لإعادة إنتاج قوته في العمل و الضرورية لأن تصبح، و من جديد، قوة عمل.

الحديث عن قوة العمل، يعني الحديث عن العامل، و ليس عن العمل. و التحديد الدقيق لقوة العمل تمكن من المرور إلى مفهوم "فائض القيمة". فالاشتراكية ما قبل "ماركس"، الطوباوية، لم تتخذ هذا الاتجاه، لذلك لم تستطع تلمس الوجود التاريخي للطبقة العاملة التي هي قوة العمل الاجتماعية المنتجة لفائض القيمة.

هذا ما جعل اكتشاف فائض القيمة الذي أثبت أن كمية العمل الغير مؤدى عنه، و الذي يستحوذ عليه الرأسمالي هو أساس الربح و التراكم الرأسمالي للبرجوازية. و هي ضربة حاسمة للاقتصاد السياسي البرجوازي و مزاعمه حول انسجام مصالح الطبقات في ظل الرأسمالية، في نفس الوقت، منح هنا "ماركس"، السلاح النظري المادي للطبقة العاملة في صراعها ضد البرجوازية.

استحواذ البرجوازية على فائض القيمة، و مقاومة البروليتارية لهذه العملية، هو جوهر العداء بين الطبقتين. فالصراع هنا يتمظهر اقتصاديا في الإضرابات العمالية لتحسين الدخل و ظروف العمل....، و يتمظهر سياسيا، أساسا، في الصراع من أجل السلطة السياسية.

أن تكون ماركسيا إذن، ليس له معنى آخر، سوى النضال الثوري المنظم في صفوف البروليتارية.

 حمو العبيوي

11 دجنبر2015

 

 الهوامش

[1]       ـ  "شارلز كاري" هو مؤلف كتاب "انسجام المصالح" ـ 1851.

[2]       ـ  يمكن الاطلاع على مجموعة من فقراتها في المجلد الثالث "أعمال كارل ماركس مكتبة "البلياد" ـ "فلسفة" ـ 1982 ـ الصفحة 1418 إلى 1451، تحت عنوان "حول ـ النظام القومي للاقتصاد السياسي ـ لفريدريك ليست" ـ التي ترجمها كل من "ماكسيمليان روبل" و "إيفون بروتين".

[3]       ـ مؤتمر "غوتة" 22 مايو 1875.

[4]       ـ أطروحة براغماتية مستندة جوهريا و بالأساس على "حق الفرد".

[5]       ـ  هناك ما يزيد عن 23 مراسلة بين ماركس و انجلز حول موضوع "دوهرينغ" و ضرورة التصدي لأطروحته. أنظر الأعمال الكاملة، م. 34 من الطبعة الألمانية، ص 17 ـ 19، رسالة انجلز لماركس بتاريخ 28 مايو 1876، التي فيها وضع تصميمه العام للرد على أفكار "دوهرينغ"، و هي جواب على رسالة "ماركس" ل 25 مايو.

[6]       ـ أنظر رسالة انجلز لماركس بهذا الصدد ، و المؤرخة ب 30 مايو 1873 ، التي فيها بلور أفكاره الأساسية "لديالكتيك الطبيعة".

[7]       ـ بقيادة "جوهان موست" و "جوليوس فاهلتايخ" خلال مؤتمر "غوتة" 27 ـ 29 مايو 1877.

[8]       ـ  عن هذا الاقتصادي الأمريكي، "شارلز كاري"، كتب "دوهرينغ" إجمالا كتابين و العديد من المقالات التي نشرت على "جريدة الصناعة الألمانية"، لسان حال الدوائر التجارية و الصناعية. مقالات "دوهرينغ" تلك، كان يرسلها قبل نشرها إلى معلمه "كاري"، كي يؤكد له هذا الأخير مضامينها أو يعدلها. أنظر بهذا الصدد أطروحة "جيمس جاي" لنيل شهادة الدكتوراه، تحت عنوان "برومتيوس الأعمى للعلوم الاجتماعية الألمانية ـ أوكن دوهرينغ كفيلسوف و اقتصادي و ناقد اجتماعي مثير للجدل ـ"، بكلية العلوم السياسيةـ جامعة إرفورت ـ2012.

[9]       ـ ليس هنا المجال للخوض في الروابط الداخلية و العميقة بين اقتصاد السوق الذي فيه يبدو الفرد و كأنه مصدر مستقل في قراراته و أعماله و نشاطه، و بين وجهات النظر التي ترى في نفس هذا الفرد المصدر الأول للمعرفة و الفعل. فمنه رفع فلاسفة الأنوار عاليا مطلب الاعتراف بالإدراك و الفهم الفرداني (من الفردانية) كسلطة أسمى ، وجب أن لا تخضع لأي سلطة كيفما كانت. فبنية أصناف التفكير ل"عصر الأنوار" بشكل عام "تتوافق" و بنية اقتصاد التبادل الذي شكل نواة مجتمع البرجوازية الصاعدة المراكِمة لرأس المال المهيأ بدوره للثورة الصناعية.

[10]     ـ  وجب التذكير هنا، أن بداية التشكيلات البرجوازية الأولى كانت مع "النهضة العمرانية" للقرن الحادي عشر بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية و البنية الحضرية التي استندت إليها، و بدايات تبلور أنوية بناء اجتماعي جديدة في شمال إيطاليا و على ساحل البحر الأبيض المتوسط و بحر الشمال و البلطيق، و بروز ما سمي ب "الأوطان الصغيرة للبرجوازية"، على سبيل المثال ب "فلورونس" و "فنيس" و "نورمبرغ" التي بدت و كأنها أوطان مستقلة و قائمة بذاتها، عملت على تشكيل "جمعيات تجارية" موحدة في رابطة ، تسمى ب "هانس" و التي ضمت في صفوفها قبل ذلك مجموعات مسلحة لحماية مصالحها التجارية ـ ستنازع في البداية ، و تواجه بنية نظام الإقطاع لاكتساب مجموعة من الامتيازات "السياسية و القانونية" لتحصين أنشطتها الاقتصادية الصاعدة. أنظر في هذا السياق، ما جاء به ، و بكل تركيز البيان الشيوعي " كان سكان المدن و صغار الفلاحين في القرون الوسطى أسلاف البرجوازية الحديثة..". نقرأ كذلك: " فمن أقنان القرون الوسطى نشأت عناصر المدن الأولى، و من هؤلاء السكان المدنيين خرجت العناصر الأولى للبرجوازية... أسواق الهند و الصين...التبادل مع المستعمرات....و تعدد وسائل التبادل و تدفق البضائع بوجه عام، كل هذه الأمور دفعت التجارة و الملاحة و الصناعة إلى الأمام بقوة....و أمنت بذلك نموا سريعا للعنصر الثوري في المجتمع الإقطاعي الآخذ في الانحلال ". كذلك: " و كانت كل مرحلة من مراحل التطور التي مرت بها البرجوازية يقابلها رقي سياسي مناسب تحرزه هذه الطبقة. فقد كانت البرجوازية في بادئ الأمر فئة مضطهدة تحت عسف الإقطاعيين و استبدادهم، ثم كانت جماعة مسلحة تدير نفسها بنفسها في كومونة ( ملاحظة "انجلز" في الطبعة الألمانية حول كلمة ـ كومونة ـ : هكذا كان سكان المدن في إيطاليا و فرنسا يسمون مجموعتهم المدينية فور انتزاعهم أو شرائهم من سادتهم الإقطاعيين حقوقهم الأولية في إدارة ذاتية).

[11]     ـ لأجل الدرس و العبرة من التاريخ، و ليس مطلقا على سبيل المقارنة هنا، و إلا لما يصلح الوعي بالتاريخ إن لم يساهم هذا الوعي، و على الخصوص إن كان ثوريا يعتمد البراكسيس (الممارسة الاجتماعية الثورية الحرة و الواعية)، في عدم السقوط في سخريته (سخرية التاريخ في "التكرار")، أنظر إذن لما يتم تقديمه اليوم من شعارات و مطالب، خطابات و تحاليل أحزاب، منظمات و جمعيات و مثقفي البرجوازية الصغيرة و المتوسطة، خصوصا تلك التي تدعي الدفاع عن مصالح "المستغَلين و الفقراء الكادحينلأجل الحشو الإيديولوجي ، وطمس تناقضاتهم الطبقية مع البروليتارية و الفلاحين الفقراء و المعدمين، استعطافا و استقطابا انتهازيا منهم للفئات البروليتارية و الكادحة المناضلة و المتقدمة، و بالأساس، عويلا في وجه تفكك و انهيار مصالحهم الاجتماعية و هزيمتهم الإيديولوجية و السياسية.

[12]     ـ  مما جاء في مطالبها: حل البرلمان و إجراء انتخابات جديدة..، حل مجلس اللوردات و الحفاظ فقط على "الجمعية"، انتخاب القضاة، الحرية الدينية للجميع، إلغاء الضرائب غير المباشرة، إلغاء احتكار الشركات التجارية، المساواة في الإرث بين الجميع، إلغاء السجن بسبب الديون، وضع القوانين الجنائية بلغة مفهومة و تخفيف أحكامها...الخ. اعتبرت "روزا ليكسومبورغ، في كتابها "الثورة الروسية"، أن " البلاشفة هم الورثة التاريخيين ل"النيفلور" "، و من سخرية التاريخ، هناك من أشباه الماركسيين اليوم، من يريد أن يعود بنا إلى عصر "النيفلور"، كي لا نقول عصر ما قبل ثورة أكتوبر 1917، التي افتتحت طريق الانتصار التاريخي للبروليتارية الثورية على الامبريالية الرأسمالية. 

[13]     ـ هذا الطرح الذي "لم يرى في جهة البروليتارية أي نشاط ذاتي تاريخي، و لا أي حركة سياسية خاصة بها" (البيان الشيوعي)، و هو تصور، يقول انجلز، يناسب مرحلة تطور فرنسا حيث بداية نشوء التناقض بين البرجوازية و البروليتارية (بداية المرحلة الصناعية الثقيلة، خلافا لإنجلترا)، و يجد جذوره لدى سان سيمون في وضعه التناقض بين من يستفيد من "الامتيازات" من دون أي جهد أو نشاط إنتاجي، و بين الفئات الاجتماعية النشيطة التي تتضمن بالإضافة للعمال المأجورين، التجار و المصرفيين و أصحاب التصنيع و العلماء، أي تتضمن بالإضافة للعمال، فئة البورجوازية المالكة التي استولت على السلطة السياسية ، و أدت بالثورة إلى الإفلاس و تعبيد الطريق أمام انقلاب نابليون. هذا الأمر، دفع سان سيمون إلى طرح قضية القيادة بيد "الطبقة الصناعية"، و التي لن يكون على رأسها سوى طبقة البورجوازية النشيطة و المالكة لوسائل الإنتاج.

[14]     ـ  و هي فكرة كما يقول انجلز، تعبر بشكل صريح عن فكرة إلغاء جهاز الدولة، و تتضمن بشكل غير مباشرة فكرة أن الاقتصادي هو أساس المؤسسات السياسية.

[15]     ـ  أنظر كتاب "نظرية الحركات الأربع و المصائر العامة"، ص 195 حيث يقول أن "الطبيعة زودت الجنسين معا بنفس القدرة على العلم و الفن".

[16]     ـ شدد "فوريي"، يقول انجلز، على أن كل مرحلة تاريخية لها طورها التصاعدي، كما لها طورها التنازلي، و هي فكرة نابعة من تحكم "فوريي" في الديالكتيك.

[17]     ـ "الفلانستير"، هي تجمعات سكانية - عمالية ضخمة تتسع لحوالي ألفي فرد، مع مساحات خاصة للزراعة، تتشكل وفق طبيعة المهن ، و بطريقة إرادية و حرة، تعتمد كليا على مبدأ الملكية الجماعية ،حيث انعدام وجود أي وسيط تجاري الذي اعتبره "فوريي" مصدرا لكل الاختلالات و المآسي الاجتماعية.

[18]     ـ هي إشارة إلى تجربة التشكيلات الأولى لتنظيم المزارع الجماعية بروسيا ـ ما سمي ب "مير" التي كان يقودها مجلس محلي مشكل من مسئولي الساكنة الزراعية الذي عمل على التوزيع العادل للأرض، و تخليص الضرائب بشكل جماعي. هذه المزارع الجماعية هي التي اعتُمدت بضع سنوات بعد ثورة أكتوبر، في تشكيل "كولخوزات" الإتحاد السوفيتي، رغم سياسة التفكيك التي نهجها قبل ذلك، "بيوتر ستولبين وزير الإمبراطور "نيكولا 2" لروسيا 1906 ــــ 1911، ببرنامجه الزراعي في خلق فئة من الفلاحين الملاكين الصغار لعزلهم عن السيرورة الثورية بعد الانتفاضة الكبرى ل 1905.

[19]     ـ تحول المانيفاكتورة إلى الصناعة العصرية و الثقيلة، و بداية الطور التصاعدي لنمط الإنتاج الرأسمالي مع الثورة الصناعية، الذي اعتمل فيه تقسيم المجتمع إلى رأسماليين كبار و بروليتارية (غير مالكة)، و بينهم برجوازية متوسطة من أصحاب المتاجر الصغيرة و الحرفيين التي تشكل الفئة الأكثر تحركا و انزلاقا حيث وضعها الاقتصادي أصبح غير مؤمن و غير مضمون.

[20]     ـ ص 16، الملحق "ف" للمجلد 1، لكتابه "حياة روبر أوين سيرة ذاتية" 1857 الطبعة الانجليزية.

[21]     ـ هو نوع من التفكير الجبري لدى "أوين"، و الذي وجد تعبيره و تحققه المستقبلي في تحوله أواخر حياته نحو "التيار الروحاني".

[22]     ـ يقول في هذا الإطار و في نفس المرجع ص 60 : "للقضاء على شرور المجتمع وجب خلق ظروف و بيئة جيدة و مناسبة و الخضوع لنظام يقوم على العدالة و الخير.".

[23]     ـ اصطدم "أوين" بحملة دعائية ضد نظريته، التي وصفت بالمشبوهة إثر إعلانه عداءه الواضح، في إحدى المؤتمرات بلندن، لكل أشكال التدين، مصنفا الدين عاملا مساهما رئيسيا في زرع الانقسام بين الناس. فبالنسبة له، كانت هناك ثلاث عراقيل للإصلاح الاجتماعي: الملكية الخاصة ـ الدين و الشكل القائم للزواج.

[24]     ـ انظر بهذا الصدد ما جاء في البيان الشيوعي.

[25]     ـ أنظر إحدى رسائل "إدوارد كوبر" بعثها ل "روبرت أوين" بتاريخ 2 نونبر 1822، ملفات "مراسلات مانشستير"، الملف 1 ـ رقم 14، و التي أكدها "جاك كانس" في مجلة "التاريخ الاقتصادي و الاجتماعي" 1957، ص 79 ـ 83، في مقال بعنوان "أصل كلمة اشتراكي و استعمالاتها القديمة". لم يتم استعمال مفهوم "الاشتراكية كنظرية" لحل القضايا الاجتماعية إلا ابتداء من سنة 1830، لكن هناك من يقول أن أولى استعمالات كلمة " الاشتراكية" جاء في "معاهدة" للقس الفرنسي "جوزيف سييس" سنة 1780 أسماها ب "الاشتراكية"؟؟

[26]     ـ اعتقد "أوين" أن الطبقات الشعبية في وضعها ذاك، هي غير قادرة على أن تحكم ذاتها بنفسها، و أن التقدم و التحول يجب أن يأتي من أعلى، أي منه هو و من معه، أتباعه.

[27]     ـ  على نفس المرجع المذكور على الهامش 2 (مكتبة "البلياد" ـ اقتصاد، ص 1667)، نجد أن تعبير "المادية الديالكتيكية" يعود لجوزيف ديكتزن، و هو فيلسوف بروليتاري ـ دباغ ـ ألماني (ذكره انجلز في حديثة عن الديالكتيك في كتابه "فويرباخ و نهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية" ص 61 من الطبعة الفرنسية 1976) وضع مبادئ المادية الديالكتيكية في استقلالية عن ماركس و انجلز (و حتى عن هيجل)، و بعد تعرفه على نظريتهما، أصبح من المدافعين الأكثر حماسة عنها كما تؤكد ذلك مجموعة من المراسلات بينه و بين "ماركس" التي جاء في إحداها  موضوع الديالكتيك (أنظر الأعمال الكاملة، م. 32 من الطبعة الألمانية، ص 547، رسالة "ماركس" لجوزيف ديتزكن  بتاريخ 9 مايو 1868). هو صاحب كتاب "جوهر ـ طبيعة ـ العمل الذهني" الذي قرأ مخطوطه الأول كل من "ماركس" و انجلز سنة 1868، قبل نشره سنة 1869  بهمبورغ. قال مؤسسا الشيوعية الثورية في حق ديكتزن أنه "واحد من العمال الأكثر عبقرية و براعة".

[28]     ـ نشير هنا فقط، لأن مجال هذه المقالة لا يسمح بذلك، إلى ان هذا الصراع الفكري الفلسفي كانت له جذوره التاريخية المرتبطة بصعود البرجوازية و سيرورة اندحار طبقة النبلاء و مؤسسة الكهنوت، و ذلك منذ القرن الحادي عشر الذي هو بالضبط الزمن نفسه الذي ابتدأت فيه أولى التشكيلات الاجتماعية البرجوازية. ففي ذاك الزمن بالضبط انطلقت و نشطت عملية الترجمة لأعمال أرسطو. و فيها جرى الصراع بين "الديالكتيكيين" و ال "أنتي ـ ديالكتيكيين" في مسألة التعاطي مع و تفسير "خبايا و أسرار" المسيحية، عن طريق الرجوع إلى المنطق الأرسطي في ذلك. و هو الأمر الذي رفضه حينها كهنة الدين، عن طريق "فلاسفتهم"، خوفا من مخاطر تذويب و حل تلك "الخبايا"، و بالتالي تعرية المؤسسة الكهنوتية، أمام أتباعها، كجهاز إيديولوجي لا يخدم إلا مصلحة رجالاتها، و بالأساس لا يخدم إلا سلطة و مصالح النبلاء. نضيف هنا، أن هذا الصراع، هو الذي أدى بعد ذلك إلى دمج و خلط "الأرسطية" بالمسيحية و بروز شعار "العقل ـ المنطق في خدمة الإيمان" أو "الفلسفة خادمة للاهوت" خصوصا مع التطور السريع الذي عرفته العلوم آنذاك.

[29]           ـ ليس مجال هذه المقالة الخوض و بتفصيل في موضوع الديالكتيك لدى "هيجل" ، و كيف عرف نقلته النوعية المادية مع ماركس ـ انجلز، نشير فقط إلى أن حركة و تطور الفكرة المطلقة لتصبح ذاتها بعد مجموعة من الأطوار المتضمنة فيها، و على الخصوص بعد طور اغترابها في الطبيعة لتجد بعد ذلك ذاتها و تصبح، بعد عودتها، هي نفسها في العقل (لحظة المصالحة)، تتضمن بشكل عام ثلاث أطوار. فهي مطلقة كاملة من دون أن تعي ذاتها بكمالها (الطور الأول)، فكان عليها "بالضرورة" أن تغترب عن ذاتها (الطور الثاني) كي تتعرف على و تعي ذاتها حين عودتها إليها (الطور الثالث و انغلاق دائرة الحركة الديالكتيكية المثالية). من هذا المنظور، تكون الحركة الديالكتيكية للطبيعة و التاريخ، هنا هي فقط نسخة و صورة لحركة و تطور الفكرة المطلقة (أنظر هنا كتاب "المنطق" لهيجل حيث طرح أطوار تطور الفكرة المطلقة لتصبح ذاتها). عمل ماركس- انجلز إذن على قلب هذه الحركة الديالكتيكية، لتكون ديالكتيكية الفكر هي الانعكاس الواعي لديالكتيكية العالم الحقيقي، العالم المادي (هي المادية الديالكتيكية، فلسفة الماركسية). فكم هو الأمر قاتل هنا، حين تجد لدى بعض أشباه الماركسيين اليوم، تعاطيهم الماقبل "هيجلي" مع الدياليكتيك (هو في حقيقته، تعاطي يتوافق و أطروحة هؤلاء في العودة بنا إلى عصر ما قبل ـ "النيفلور"، كي يتم تعبيد الطريق على خط البناء الرأسمالي "الصافي"، تكون فيه هذه الطبقات البورجوازية الوسطية قائدة للمعركة الاجتماعية -  السياسية).

[30]     ـ لقد أوضح "ماركس" بعلمية مادية تحليلية دقيقة جدا وهم تصور "هيجل"، رأس المثالية المطلقة، للواقع. أنظر بهذا الصدد تلك الأفكار القوية التي جاء بها "ماركس" في كتابه لسنة  1859 (صاغه عمليا سنة 1857 ، وحذف منه تقديمه العام ،قبل نشره بعد ذلك): "مقدمة في نقد الاقتصاد السياسي" ص 149 ـ 151 ـ طبعة 1972.

[31]     ـ انظر كتابه: "المنطق"، من دون أن ننسى هنا الإشارة إلى الاكتشافات العلمية الثلاثة الكبرى التي غطت هذه المرحلة، و التي كان لها الأثر الكبير في تقدم المعرفة بتسلسل السيرورات الطبيعية : اكتشاف الخلية، الطاقة و تحولاتها ،و النظرية الداروينية.

[32]     ـ اعتبر "لينين" نظرية فائض القيمة حجر الزاوية في نظرية ماركس الاقتصادية. أنظر الجزء الأول من "المصادر الثلاثة و الأجزاء الثلاثة المكونة للماركسية ـ مارس 1913 ـ "لينين".

[33]     ـ مخطوطات 1844 التي نجد فيها مفهوم "العمل المأجور". نذكر هنا، بعد أزيد من عشر سنوات على هذه المخطوطات، تلك الرسالة التي بعثها "ماركس" للفيلسوف البروليتاري الألماني ديكتزن، و التي أكد فيها "عزمه على وضع تصوره حول الديالكتيك بعد الانتهاء من عبئ الاقتصادي"، حيث كان لحظتها منكبا كليا على التحليل الدقيق و التفصيلي ل"رأس المال".