Ok

En poursuivant votre navigation sur ce site, vous acceptez l'utilisation de cookies. Ces derniers assurent le bon fonctionnement de nos services. En savoir plus.

  • ماركس الإنسان، ماركس عقل العالم (الحلقة الثالثة)ـ

     

    I - انجلترا: بلاد الرأسمالية المتطورة، التي أنتج فيها كارل ماركس أهم أعماله، كتاب "الرأسمال" : (1849 – 1859 )

     1) ماركس المطارد من بلد لآخر:

    توقفت إقامة ماركس في باريس في السنة الموالية لتلك التي حل فيها أي سنة 1845، حيث طرد منها بناءا على طلب الحكومة البروسية البسماركية الرجعية بوصفه ثوريا خطيرا، فكانت وجهته بلجيكا، حيث أقام في مدينة بروكسيل.

    في سنة 1847 انتمى ماركس و انجلز إلى جمعية سرية تسمى "عصبة العادلين"، ستصبح فيما بعد "عصبة الشيوعيين وذلك باقتراح من ماركس. وانعقد المؤتمر الثاني للعصبة في لندن في نونبر 1847، وقد كلف المؤتمر ماركس و انجلز بصياغة "بيان الحزب الشيوعي"، الذي نشر لأول مرة في لندن و ذلك في نهاية فبراير من سنة 1848.

    في هذا الكتاب تم عرض المفهوم الجديد للعالم بوضوح وقوة بارزين، حيث يعرض المادية المتماسكة والشاملة للحياة الاجتماعية، والدياليكتيك بوصفه أوسع وأعمق علوم التطور ونظرية الصراع الطبقي ودورها الثوري في التاريخ العالمي للبروليتاريا خالقة المجتمع الجديد، المجتمع الشيوعي.

    كانت السنة التي صاغ فيها ماركس و انجلز "بيان الحزب الشيوعي" سنة الثورات البورجوازية في فرنسا و ألمانيا و النمسا، فطرد من بلجيكا و عاد إلى فرنسا، التي ما لبث أن غادرها إلى ألمانيا، فقد كان ماركس ذلك الرجل المطارد من فضاء لآخر. في ألمانيا كانت إقامته في مدينة كولونيا، حيث سيصدر هناك الطبعة الجديدة للجريدة الرينانية لذا سميت ب "الجريدة الرينانية الجديدة"، التي كان رئيس تحريرها لمدة سنة (1848 – 1849)، والتي قال عنها:

    "لم يكن بالإمكان إعطاؤها إلا راية واحدة، راية الديموقراطية، لكنها راية ديموقراطية تظهر كل سنة طابعها البروليتاري الخاص، الذي لم تكن قادرة بعد على إعلانه".

    بعد فشل ثورات 1848 وانتصار الثورة المضادة في ألمانيا، أحيل ماركس على القضاء (محاكمة كولونيا أو ما يسمي بمحاكمة الشيوعيين بكولونيا)، لكن تمت تبرئته، وتم نفيه في ماي 1949 فحل في البداية بباريس، لكن ما لبث أن طرد منها بعد المظاهرة، التي عرفها يونيو 1849.

    كانت الأنشطة السياسية التي كان يقوم بها ماركس وراء طرده من البلدان الأوربية التي يلجأ إليها، من بينها مساهمته في تأسيس "عصبة الشيوعيين" وإشرافه على وضع "بيان الحزب الشيوعي" سنة 1848، اللذان كان لهما دورا تحريضيا على الثورات العمالية، التي حدثت في عدد من البلدان الأوربية.

    ستكون آخر محطة لماركس الطريد، ووجهته الأخيرة نحو انجلترا، حيث أقام في لندن، التي عاش فيها حتى أيامه الأخيرة، الموطن الذي سيضم رفاته، بعيدا عن وطنه ألمانيا، التي جردته من جنسيته. فقد اضطر ماركس إلى مغادرة باريس، وذهب ليعيش في انجلترا، غير أن الحياة فيها لم تؤثر فيه تأثيرا يذكر (إلا من الفواجع والمصائب والآلام التي كابدها فيها)، فلندن لن تكون بالنسبة له، ولم تعن أكثر من مكتبة المتحف البريطاني التي قال عنها: "الموضع الاستراتيجي المثالي لدراسة المجتمع البورجوازي"، و "مخزن الذخيرة، الذي يبدو أن أصحابه لا يدركون أهميته".

    ففي 27 غشت من سنة 1849 ينزل ماركس بانجلترا (أول زيارة قام بها إليها تعود إلى سنة 1845) آتيا إليها من فرنسا، انجلترا، البلد الذي لا يملك من المال الذي يمكنه من الوصول إليه فوجد في أصدقائه الذين ظهر بين أسمائهم اسم لاسال لأول مرة، الذي جمعوا من التبرعات ما يكفي لدفع نفقات رحلته إى انجلترا البلد الذي لا يحسن التكلم بلغته، ولا ينتظره فيه أحد.

    وهو في الواحدة والثلاثين من عمره، لم يعد يملك شروى نقير، ولا من حليف ولا سند، ولا مهنة ولا أخبار لديه عن زوجته وأطفاله الثلاثة، ولا يعرف شيئا عن صديقه انجلز المتواجد في ألمانيا، ولماذا انجلترا بالذات؟ لأنها كانت البلد الأوروبي الوحيد الذي لا يقيم العراقيل في وجهه.

    كان هذا التنقل المستمر، والهجرة المتواصلة لماركس عبر هذا البلد وذاك، حيث كانت ظروف الهجرة هذه مضنية إلى أقصى الحدود، قد أثر على حياته، خاصة وأن الرجل كان له التزام أسري.

    2) ماركس في لندن: وقت قصير للفرح، وقت طويل للحزن

    "ليس هناك سوى ترياق واحد للمعاناة العقلية، ذلك هو الألم الجسماني" كارل ماركس. بهذه الكلمات يلخص ماركس كل الآلام التي لازمته في منفاه في لندن، والتي سنقف عليها على امتداد هذه المقالة.

    عندما وصل ماركس إلى لندن في غشت 1849 كان قد هوى إلى أسفل درجات الانحطاط المادي، إذ لم يعد معه شروى نقير تقريبا، فآخر ممتلكاته، على قلتها، وحتى كتبه رهنها لتمويل صحيفته في كولونيا، وزوجته وأطفاله الثلاثة سيلتحقون به عن قريب، دون أن يكون لديه ما يكتري لهم به مسكنا لائقا، و انجلز الذي كان بالغ السخاء بمعونته لا يزال عالقا – إلا إذا كان ميتا – في معارك سواب الأخيرة، لكن ماركس لا يفكر و لو للحظة في التخلي عن الكتابة و النشاط السياسي، و ما من لحظة أيضا يفكر في البحث عن عمل مأجور. وستصبح حياته المادية مع وصول جيني والأبناء إلى لندن عسيرة، وعلى جيني أن تفعل المعجزات لتهدئة الموردين. وفي شهر أكتوبر، وفي الوقت، الذي لم يعد لديه الوسائل لدفع أجرة المسكن ولا لثمن طعام أطفاله، ولا أجرة الطبيب لزوجته التي توشك على الولادة، يعود انجلز للظهور، إذ استطاع مغادرة ألمانيا، تاركا فيها الكثير من رفاقه قتلى في المعارك.

    في بيت حقير يتكدس سبعة أفراد (ماركس و زوجته وأطفاله الثلاثة و الرابع الذي ولد في لندن و عاملة البيت) في غرفة ضيقة، و لا يتمكن من مواجهة النفقات الجارية لعائلة بهذا العدد، وعدم قدرته على تأمين حياة لائقة لأطفاله يعذبه، فيقترض لشراء الغذاء و الملابس و الأدوية و الكتب، و الديون تتراكم مقترنة بفوائد باهظة، و يتردد الدائنون أكثر فأكثر في قرع باب الغرفة الحقيرة في شلسي، و على ماركس عندئذ اختلاق الأعذار و الذرائع و إرجاء الوعود و دفع عربون، و السعي للاقتراض من انجلز، من ناشره، من أمه، التي يكتب لها عدة مرات بهذا الشأن، أو من أصدقائه، دون جدوى في غالب الأحيان .

    بعد عشرة أشهر فقط من السكن، يعجز ماركس عن سداد الكراء، فتطرد الأسرة من الغرفة الضيقة، التي يسكنها في شلسي، و توضع الأسرة و الأغطية و الملابس و لعب أطفاله، و حتى مهد الصغير غيدو، و الذي لم يتعد شهره السادس و صحته سيئة تحت الحراسة، ثم تباع على عجل، ليتمكن من الدفع للصيدلي و الخباز و الجزار و الحلاب، فالأطفال في أمس الحاجة إلى الدواء و الخبز واللحم و الحليب أكثر من أي شيء آخر، فيغطي انجلز الصديق الوفي و الأخ الذي لم تلده له أمه، بل الرفيق الذي لا مثيل له، الديون الأكثر إلحاحا، لتنتقل الأسرة إلى كوخ حقير، في حي حقير، من أسوإ الأحياء سمعة بالمدينة، و هو حي سوهو، حيث تنتشر العاهرات و المشردين، و كل أنواع البروليتاريا الرثة، في شارع سيلقبه كاتب سيرة جيني ب "شارع الموت"، و سيكتب ماركس نفسه فيما بعد، أنه في هذا الشارع تحطمت حياته ( سنفهم في الآتي من فقرات المقالة لماذا قال ماركس ذلك) .

    في ماي 1851، سيقام في لندن المعرض العالمي الأول للتقنيات، ومغتنما فرصة تدفق الجمهور على المعرض، يرسل أخ جيني غير الشقيق، الذي أصبح وزيرا في حكومة بسمارك إلى لندن أفضل عملائه، وهو ويلهايم ستير- الذي سيصبح فيما بعد رئيس مصالح بسمارك السرية – وهو من رجال الشرطة الصارمين الذي سيطارد ماركس بكراهيته طوال ربع قرن التالي (نحن الآن في بداية الخمسينات). لقد عاش ماركس في لندن كثوري، من أكثر الثوريين ملاحقة في أوربا، فلا غرابة أن يتبعه الجواسيس إلى غاية انجلترا.

    لقد جاء الرجل – العميل مكلفا بمهمة محددة، وهي اختراق اجتماعات "عصبة الشيوعيين"، ويقدم نفسه كأحد المتعاطفين، ويحبط بمهارة كل إجراءات المراقبة، حتى أنه كان يدعى إلى بيت ماركس في الشقة البائسة بسوهو، حيث لا يتم استقبال إلا المخلصين. لقد كان ماركس يعلم مع ذلك أنه مراقب، و كان يعرف بوجود جواسيس بروسيين في لندن، لكنه ينخدع بستير و يستقبله في بيته كمناضل، فيرسل الجاسوس في تقاريره السرية إلى برلين وصفا مفصلا (ولابد أن يكون إلا مفصلا و دقيقا فذلك هو المطلوب من الجواسيس ألا يترك كل شاذة وفادة عن المراقب (بفتح القاف) ) لحياة أسرة ماركس في تلك الفترة، و من سخرية التاريخ و مكره أن هذا الجاسوس سيقدم صورة حقيقية، صادقة و دقيقة عن مستوى البؤس و الواقع المعيشي المزري الذي يعيشه ماركس، فما قدمه من معلومات عن الرجل كانت بمثابة شهادة لشاهد عيان، مخبر يجب أن ينقل المعلومات صحيحة، وهو أيضا، وبالطبع، وصف انتقادي جدا لإرضاء رؤسائه :

    "إنه فوضوي جدا في حياته الخاصة وصفيق ومضيف منفر، يعيش حياة بوهيمية، ونادرا ما يغتسل ويبدل ملابسه التحتية، يسكر بسهولة ينام غالبا طول النهار، لكن إذا ما كان لديه عمل ينكب عليه ليلا ونهارا، ليست لديه أوقات محددة للنوم والاستيقاظ، وغالبا ما يظل ساهرا طوال الليل حتى الصباح، ثم ينام نحو الظهر على كنبة بملابسه الكاملة حتى المساء، دون الالتفات إلى الغدو والرواح من حوله، وما من قطعة أثاث في شقته، كل شيء مكسر مغطى بالغبار في فوضى عارمة. في وسط الصالون طاولة كبيرة مغطاة بنوع من السماط، عليها مخطوطات وكتب وصحف وقصاصات قماش ممزقة متبقية من خياطة زوجته، وفناجين شاي مخدوشة وملاعق قذرة وسكاكين وشوك وشموع ومحابر وكؤوس وغلايين ورماد التبغ، كل ذلك متفرق على الطاولة ذاتها" ويضيف المخبر:

    "ما أن يدخل المرء بيت ماركس، حتى تهاجم عيناه بذخان الفحم والتبغ كما في قبو، أي أن تعتاد على الظلمة، وتبدأ في تمييز الأشياء عبر الدخان (...) ويدعى الزائر للجلوس، لكن كرسي الأطفال لم يكن قد نظف فيجازف بتوسيخ سرواله به، وكل هذا لا يسبب أي إحراج لماركس ولزوجته". ويختم الجاسوس بأن الرجل يظل خطيرا، وأنه محاط برفاق مستعدين لأي شيء لخدمته، ذاكرا منهم، فريدريك انجلز، الذي يعيش في مانشستر ويأتي كثيرا لزيارة ماركس.

    ولأن المصائب عند ماركس تأتي تباعا، فحتى مجلته "الجريدة الرينانية الجديدة، يتخلى صديق بروكسيل وناشره في فرنكفورت جوزيف ويدماير المهدد بالاعتقال عن مجلته، ويغادر ألمانيا إلى نيويورك كي يؤسس فيها دورية جديدة، يريد تسميتها "الثورة"، وهذا ما سيضع حدا لتوزيع النسخ الباقية من "الجريدة الرينانية الجديدة"، التي ولدت في فرنكفورت، وهكذا لن يعود لماركس صحيفة يعبر فيها عن نفسه.

    كان ماركس يعرف أن منفاه سيستمر وقتا طويلا، فيتكلم في ذلك مطولا مع زوجته جيني، إذ يجب أن تتهيأ المرأة للبقاء في لندن وسط البؤس، في هذا البلد، الذي كل شيء فيه غريب عنهما، مع أربعة أطفال لا يستحقون معيشة الضنك و البؤس هاته، معرضين لخطر أن يلقى أحدهم مصير غيدو، طفله الذي توفي، و يتساءل: ترى هل هي مستعدة ألا تفضل العودة إلى أمها في تريفر مع الأطفال، حيث سيستفيدون من رفاهية بيئة عائلية آمنة، مع أخ وزير؟ هذا ما يطرحه ماركس على زوجته فترفض غاضبة لأنه فكر حتى في هذا الحل، فلم تكن المرأة من النوع من النساء التي تترك الظروف تقهرها وتغلبها، فجيني تلك المرأة الصلدة تقول لماركس، أنه ليس له إلا أن يكتب أكثر وينشر أكثر ويواصل المعركة للآخر، إذ هي منذئذ معركتها أيضا، وهي مستعدة لها، ولا يجب عليه أن يستسلم، وهي هنا بقربه – وهل يطيق فراق جيني حبيبته ويصبر عليه؟ - أهو بحاجة إليها؟ إنها لا تطلب أكثر من هذا.

    بعد عدة أيام والبرد شديد والفقر أكثر شدة، يكتب ماركس إلى انجلز وقد بلغ به الأسى حدا يفوق التحمل، أنه لم يعد يستطيع الخروج من بيته لأن معطفه مرهون، ولم يعد قادرا على شراء اللحم للأطفال، لأن الجار لن يعود ليبيع له بالدين، حتى أنه لم يعد يتمكن من إرسال ابنتيه الكبيرتين إلى المدرسة، ولا شراء كتب ولا حتى مهدا وملابس وأدوية لفرنسسكا، الطفلة الأخيرة المريضة على غرار إدغار الذي بلغ سنته الخامسة، وهي نفس وضعية ابنه السابق غيدو، الذي مات بسبب نفس الظروف. وكثيرا ما سقطت زوجته جيني فريسة للمرض ولا يستطيع اقتناء الدواء لها، وقد كتب ماركس في إحدى هذه المناسبات إلى انجلز يقول:

    "لم أكن أستطيع الآن أن أستدعي الطبيب لأني لا أملك ثمن الدواء، لقد كان غذاؤنا في الأيام الثمانية أو العشرة الماضية قاصرا على الخبز والبطاطس، واليوم أشك في أنني سأستطيع الحصول حتى عليها"

    في هذه الأوقات العصيبة، والزمن هو سنة 1852، لا مجال للكتابة ولا للقراءة، ولا للتفكير، فالمهم فقط هو الحفاظ على بقائه وبقاء أطفاله.

    في هذه السنة، في يوم 14 أبريل، تبلغ شدة البؤس وقساوة البرد حدا يودي بحياة ابنته فرانسسكا، وهي في سنة وشهر من عمرها، وتكون بذلك الطفل الثاني الذي يتوفى في هذا الشارع الممقوت، بعد سنة ونصف من وفاة ابنه غيدو، والمحزن جدا، أن ماركس لا يملك من المال ما يمكنه من شراء نعش لها، فيضطر إلى اللجوء إلى كرم جاره الفرنسي.

    تقول جيني زوجة ماركس في إحدى ذكرياتها عن فرنسسكا، أنها عندما أتت لهذا العالم لم تحصل على مهد، وحتى وهي تذهب إلى مثواها الأخير تنكر عليها ظروف البؤس حتى نعشا.

    وفي رسالة التعزية يعبر انجلز عن ألمه لفاقة أسرة ماركس، وللظروف الصحية المؤسفة، التي أفضت إلى موت فرنسسكا، متأسفا لعدم قدرته على فعل المزيد لهم.

    ولم يعد ماركس يحتمل هذه الظروف المعاكسة له، فيقع فريسة المرض بصفة جدية لأول مرة، فقد تراكمت عليه الأمراض من كل الأنواع، فأزماته الدملية والكبدية وآلام الأسنان والتهابات العيون والرئة تتزايد، وعندما تسوء حاله فجيني من يتكفل بأمور البيت.

    و بينما هو في الدرك الأسفل من الفقر، حيث أن أي جنيه في يده هو أمر خارق، يتلقى ماركس مقترحا أثار دهشته، مؤداه، أن يصبح مراسلا في لندن للصحيفة الأمريكية الأولى في الولايات المتحدة الأمريكية، "نيويورك دايلي تريبيون"، الصحيفة الأكثر مبيعا في العالم، فينزل هذا الاقتراح بردا و سلاما على ماركس، و يستهويه بالطبع، فها هو أخيرا سيحصل على دخل منتظم – وظب ماركس حياته من قديم على أن يكون دخله من الصحافة فهو يكره أي عمل مأجور لكن الظروف عاكسته في ذلك – فقد تلقى وعدا أن يتلقى عن كل مقالة من مقالاته الأولى جنيها، ثم جنيهان حتى ثلاثة فيما بعد .

    زادت المصائب التي توالت على ماركس تباعا ويشد بعضها في البعض الآخر، وخاصة فقدانه لاثنين من أبنائه خلال بضعة أشهر من صلابة طبعه، فلم يعد ماركس ذلك الشاب المرح، الطموح، المتفائل، الذي كانه في برلين و باريس و بروكسيل.

    وفي غشت 1852 سيكون العيد في بيت ماركس، وستفرج كربته، عندما ستنشر نييويورك ديلي تريبيون مقال ماركس الأول ويستلم أول جنيه دخلا له.

    بعد عامين من هذا الحدث السعيد، و لأن أحزان ماركس أكثر من أفراحه، ما لبثت أن تتالت عليه الفواجع، ففي نهاية 1854 يكتب ماركس إلى انجلز بأنه سيلجأ إلى "وسائل غير عادية" لدفع المصاريف المرتبطة بولادة جيني، و بالعناية التي تتطلبها حالة ابنه إدغار، التي تسوء أكثر فأكثر، و في 16 يناير 1855 تولد ابنة ماركس الرابعة، و سادسة أطفاله، لكنها رابعة الأحياء عندئذ، لكن فرحة الأسرة لم تكتمل، إذ تصيب ماركس، كما اعتبرها، أسوأ مصيبة في حياته، ففي أبريل من نفس السنة، و بعد أقل من ثلاثة أشهر من ولادة إليانور يموت إدغار ابنه المحبوب بالسل وهو في الثامنة من عمره، فقد كانت له علاقة خاصة بهذا الطفل، الذي راهن على أن تكون علاقته معه كما كانت علاقة أب ماركس مع ابنه كارل، التي كانت أيضا علاقة خاصة، كان كارل دائما يقدرها أشد تقدير، لذلك بموت إدغار أصبح يسير على غير هدى، و يكتب عندئذ لانجلز :

    "لقد مررت بشتى النوائب من قبل، لكنني في هذه الساعة فقط، أعلم ما تعني المصيبة الحقيقية، أشعر أنني محطم تماما"

    كان ماركس بطبيعته كتوما، وكانت عادة رثاء النفس لديه أقل منها لدى أي شخص آخر في الوجود، بل إنه كان أحيانا يتناول في رسائله لانجلز سوء حظه بتهكم مرير، لعله يخفي عن القارئ العابر حقيقة الظروف البشعة التي كثيرا ما كان يجد نفسه فيها، ولكن عندما مات ابنه إدغار نفذ السهم إلى قلبه رغم كل تحفظه الحديدي، فيكتب إلى صديقه يقول:

    "لقد قاسيت جميع ألوان الشقاء، ولكني لم أعرف معنى التعاسة الحقيقي إلا الآن ... وفي غمار كل ما تعرضت له من بلاء في هذه الأيام، كان التفكير فيك وفي صداقتك، والأمل في أنه يمكن أن يكون هناك شيء حسن نستطيع أن نحققه في هذه الحياة، وهو ما يشد أزري، ويحول بيني وبين الانهيار"

    وبعد عشرة أعوام من وفاة إدغار، تكتب جيني، أنه كان بإمكانهما ربما إنقاذ ابنهما بمغادرة لندن للعيش على شاطئ البحر، فالشعور بالذنب لن يغادرهما أبدا.

    لقد هد ماركس توالي الفواجع وتسلسل المصائب، وجعلت الرجل يظهر أكبر من سنه، فقد كان عندئذ في السادسة والثلاثين من عمره، لكنه يظهر فجأة أكبر من ذلك، فقد ابيضت لحيته، وزيادة على نوبات البواسير لديه، فقد كانت تنتابه آلام حادة بالكبد ويصاب بداء الدماميل، وآلام الأسنان والالتهابات التنفسية والروماتيزم والصداع واحتقان الجفون، وكلها أمراض استوطنت جسمه من جراء سوء التغذية والفقر المدقع.

    وهو على ما هو عليه من هذا الوضع الصحي المتدهور، دون مورد، وقد فقد ابنه الثاني والأخير، ولا أحد يقرأ ما يكتب، ولم تعد له منظمة سياسية، ويفلت منه كل شيء، ولم تعد له الطاقة للكتابة ولا للتحرك، إضافة إلى كل هذه المثبطات التي تهد العزائم، في كل هذا، يلاحظ بمرارة تراجع الحركة الاشتراكية في البلد الذي يجب أن تكون الأكثر قوة، يعني بريطانيا، بلد الطبقة العاملة بامتياز.

    ويفضي بؤس ماركس الشديد به في آخر المطاف، إلى الكتابة من أجل البقاء في كل الصحف التي تقبل مقالاته. و عندما كان غارقا في حزنه و همومه المالية سيؤسس بعض اللاجئين السياسيين الفرنسيين و الألمان و البولونيين مع بعض المناضلين الانجليز في لندن، جمعية دولية عمالية لتأخذ مكان "عصبة الشيوعيين"، التي حلها ماركس منذ ثلاث سنوات، مختبئا عند انجلز في مانشستر فرارا من السجن بسبب الديون التي لم يتخلص منها إلا بإرث سقط عليه من السماء، و كان ذلك آخر ما كان ينتظر من مفاجأة، و هو إرث من خال اسكتلندي لزوجته جيني، فيمنحه ذلك نوعا من تنفس كربته، و يستعيد قليلا من البهجة، فيمضي وقتا أطول مع بناته الثلاث اللواتي تبقين له، يلعب معهن لساعات، لقد كان أبا حنونا، لطيفا و متسامحا، و كان يردد دائما : "على الأبناء القيام بتربية أبويهم"، كانت بناته يحبونه بجنون، و لم يشعرن قط بثقل سلطته الأبوية.

    في سنة 1856، كان الوضع السياسي لا يبعث على التفاؤل ويصاب ماركس بالانهيار من جديد ويتساءل: "ما الفائدة؟ فالثورة مستحيلة".

    وهو في مسكنه الحقير، بعيدا عن وطنه، يفقد ثلاثة من أطفاله، في ثلاثة أعوام، ويعتبر نفسه مسؤولا عن ذلك فينتابه وخز الضمير عن وضع لم يتعمده، و لم يعد له من أمل و لا سبب للكتابة، و لا للعمل و السياسة، فيحث جيني مرة أخرى على تركه و العودة مع الأطفال إلى ألمانيا، لكنها ترفض كما في ظروف سابقة، فكيف تترك حبيب حياتها، وهي تعرف أنها سنده في كل شيء، و لم يبق له إذن إلا انتظار موت ما تبقى من أطفاله، و موت جيني و موته، و هو لا يعلم أن كل شيء سيتغير قريبا بالنسبة إليه.

    ففي غضون بضعة أشهر، بين 1856 – 1857، و بينما هو معزول عن كل شيء، يفتقر إلى المال و الطاقة، غارق في الحزن و الفاقة، يتحول مصيره، و تبتسم له الأيام، فالمال يرد عليه، و ظروف معيشته تتبدل، و تصبح الثورة ممكنة، و يجد نفسه في مركز النشاط العالمي، و تصوراته تزدهر و نظريته تتطور، و ستستعيد الحياة بالنسبة إليه معناها وهو في التاسعة و الثلاثين من العمر.

    وفي 14 أبريل 1857 يظهر من جديد للمرة الأولى منذ أربع سنوات في الحياة الرسمية لليسار والهجرة، بإلقائه خطابا في المأدبة السنوية لصحيفة الميثاقيين، فيستعيد نهجه لسنوات الشباب و تبتعد المرارة عن قلبه و يتبدد الحزن، و يلقي نصا رائعا، إذ تكلم عن الثورة الاجتماعية، "التي ستكون تحريرا لكل طبقة العمال في العالم أجمع، و ستكون أيضا أممية، مثلما هي هيمنة رأس المال و عبودية الأجراء".

    وهكذا يعود ماركس زعيم ""عصبة الشيوعيين" التي كان قد تم حلها من طرف ماركس و انجلز. وإلى غاية موته، وبعد موته بكثير، لن يتم عمل أي شيء بدونه ضمن أوساط اليسار الثوري العالمي.

    لكن سوء الطالع يأبى ألا يفارق الرجل، ففي بداية 1858، ستسوء من جديد حالة كارل جسميا و نفسيا، فالثورة لم تعد في متناول اليد، و أوساط الهجرة الاشتراكية، التي ابتعد عنها لا زالت تعج بالأقاويل و الدسائس، و قد فقد جزءا من أجره في جريدة "نيويورك ديلي تريبيون"، و انجلز مشغول بعمله في مانشستر (العمل الذي قبله عن مضض لأجل مساعدة ماركس ماديا) فلا يأتي ليراه إلا ناذرا، و ما يدفعه له ليس كافيا لتأمين عيش لائق، فيستولي عليه الخوف من عدم القدرة على دفع أجرة منزله (الأحسن من السابق) و من الاضطرار إلى الرجوع إلى سوهو، الحي المنحوس .

    جميلة صابر

    27 ـــ 11 ــ 2018